موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- نماذِجُ من كِتمانِ السِّرِّ في حياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


- كان للكِتمانِ أثَرٌ كبيرٌ في مُباغتةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للعَدُوِّ:
(فبَعدَ شَهرَينِ من غزوةِ أُحُدٍ بلغ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ طُلَيحةَ وسَلَمةَ ابنَيْ خُوَيلِدٍ يُحَرِّضانِ قومَهما بني أسَدِ بنِ خُزَيمةَ لغَزوِ المدينةِ ونَهبِ أموالِ المُسلِمين فيها، وقرَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إرسالَ جيشٍ من المُسلِمين، وأمَرَهم بالسَّيرِ ليلًا والاستِخفاءِ نهارًا، وسُلوكِ طريقٍ غيرِ مَطروقةٍ؛ حتَّى لا يطَّلِعَ أحدٌ على أخبارِهم ونيَّاتِهم، فباغَتوا بذلك بني أسَدٍ في وقتٍ لا يتوَقَّعونَه) [7923] يُنظَر: ((الرسول القائد)) لمحمود شيت (203). ويُنظَر: ((المغازي)) للواقدي (ص: 341)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (25/150). .
- وفي غزوةِ (دَومةِ الجَندَلِ) قاد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألفَ راكبٍ وراجِلٍ من المهاجِرين والأنصارِ؛ لمنعِ القبائِلِ التي تَقطُنُ (دَومةَ الجَندَلِ) من قَطعِ الطُّرُقِ ونَهبِ القوافِلِ، والقضاءِ على حُشودِها التي تُزمِعُ غَزوَ المدينةِ.
وخرج الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُسلِمين من المدينةِ يَكمُنُ بهم نهارًا ويسيرُ ليلًا، وقد قَطَع المُسلِمون المسافةَ بَيْنَ المدينةِ المنَوَّرةِ و(دُومةِ الجَندَلِ)، فلم يجِدِ المُسلِمون أحدًا منهم... وعاد المُسلِمون من (دُومةِ الجَندَلِ) بعدَ أن أقاموا فيها بضعةَ أيَّامٍ.
إنَّ كِتمانَ نيَّاتِ المُسلِمين بالمسيرِ ليلًا هو الذي جعَلَهم ينتَصِرون على أعدائِهم [7924] يُنظَر: ((دروس في الكتمان من الرسول القائد)) لمحمود شيت (ص: 23). ويُنظَر: ((المغازي)) للواقدي (ص: 403)، ((دلائل النبوة)) للبيهقي (3/390)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (57/200). .
- وفي غزوةِ فَتحِ مكَّةَ المُكَرَّمةِ بلغ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تطبيقِ عامِلِ الكِتمانِ حَدَّ الرَّوعةِ، حتَّى ليُمكِنُ اعتبارُ هذه الغزوةِ مِثالًا من أعظَمِ أمثلةِ التَّاريخِ العَسكريِّ في تطبيقِ الكِتمانِ إلى أبعَدِ الحُدودِ.
وأمَر أهلَه أن يُجَهِّزوه، ولكِنَّه لم يخبِرْ أحدًا من المُسلِمين في الدَّاخِلِ أو الخارِجِ بنيَّاتِه وأهدافِه من حَرَكتِه واتِّجاهِها، بل أخفى نيَّاتِه وأهدافَه واتِّجاهَ حرَكتِه حتَّى عن أقَرِب المقَرَّبين إليه، ولَمَّا اقتَرَب مَوعِدُ الحَركةِ صَرَّح الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه سائرٌ إلى مكَّةَ المُكَرَّمةِ، ولكِنَّه بثَّ عُيونَه وأرصادَه؛ ليَحولَ دونَ وُصولِ أخبارِ اتِّجاهِ حَرَكتِه إلى قُرَيشٍ، وبَعَث حاطِبُ بنُ أبي بَلْتَعةَ رِسالةً أعطاها امرأةً مُتَوجِّهةً إلى مكَّةَ المكَرَّمةِ، أخبَرَهم في تلك الرِّسالةِ بنيَّاتِ المُسلِمين في التَّوجُّهِ إلى فَتحِ مكَّةَ المُكَرَّمةِ [7925] يُنظَر: ((دروس في الكتمان من الرسول القائد)) لمحمود شيت (ص: 31). . فعن عُبَيدِ اللهِ بنِ أبي رافِعٍ قال: سَمِعتُ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه يقولُ: بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا والزُّبَيرُ والمِقدادُ بنُ الأسوَدِ، قال: ((انطَلِقوا حتَّى تأتوا روضةَ خاخٍ [7926] موضِعٌ قُربَ حمراءِ الأسَدِ من المدينةِ. وحكى بعضُهم أنَّه قُرْبَ مكَّةَ. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (7/ 536). ؛ فإنَّ بها ظعينةً [7927] الظَّعينةُ: أي: المرأةُ، وقيل: المرأةُ في الهودَجِ، وقيل: الظَّعينُ: اسمٌ للهودَجِ؛ فسُمِّيت المرأةُ المسافرةُ ظعينةً باسمِ ما نزَلَت فيه. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 185)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/157)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 151). ومعها كتابٌ فخُذوه منها، فانطلَقْنا تَعادى بنا خيلُنا حتَّى انتَهَينا إلى الرَّوضةِ، فإذا نحن بالظَّعينةِ، فقُلْنا: أخرِجي الكتابَ، فقالت: ما معي من كتابٍ، فقُلْنا: لتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، فأخرَجَتْه من عِقاصِها [7928] عِقاصِها: بكَسرِ العينِ، أي: شَعرِها المضفورِ، وهو جمعُ عَقيصةٍ. يُنظَر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/56). ، فأتينا به رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا فيه: مِن حاطِبِ بنِ أبي بلتعةَ إلى أُناسٍ من المُشرِكين مِن أهلِ مكَّةَ يخبِرُهم ببعضِ أمرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا حاطِبُ، ما هذا؟! قال: يا رَسولَ اللهِ، لا تعجَلْ عَلَيَّ، إنِّي كُنتُ امرَأً مُلصَقًا في قُرَيشٍ [7929] كُنتُ مُلصَقًا في قُرَيشٍ: أي: غريبًا فيهم. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 185). ، ولم أكُنْ من أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرين لهم قَراباتٌ بمكَّةَ يحمون بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذْ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندَهم يدًا يحمون بها قَرابتي، وما فَعَلْتُ كُفرًا ولا ارتِدادًا، ولا رِضًا بالكُفرِ بَعدَ الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لقد صدَقَكم، قال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافِقِ! قال: إنَّه قد شَهِد بدرًا، وما يُدريك لعلَّ اللهَ أن يكونَ قد اطَّلَع على أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلوا ما شِئتمُ، فقد غَفَرْتُ لكم!)) [7930] أخرجه البخاري (3007) واللَّفظُ له، ومسلم (2494). .

انظر أيضا: