موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ من غَيْرةِ السَّلَفِ والعُلَماءِ للنَّبيِّ والصَّحابةِ وأهلِ العِلمِ


- قال عُمَرُ بنُ حَبيبٍ العَدَويُّ: (حَضَرتُ مجلِسَ هارونَ الرَّشيدِ، فجَرَت مسألةٌ، فتنازعها الحُضورُ، وعَلَت أصواتُهم، فاحتَجَّ بعضُهم بحديثٍ يرويه أبو هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدفع بعضُهم الحديثَ، وزادت المدافعةُ والخِصامُ، حتَّى قال قائلون منهم: لا يُحمَلُ هذا الحديثُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ أبا هُرَيرةَ متَّهَمٌ فيما يرويه! وصَرَّحوا بتكذيبِه، ورأيتُ الرَّشيدَ قد نحا نحوَهم، ونصَرَ قولَهم، فقُلتُ أنا: الحديثُ صحيحٌ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبو هُرَيرةَ صحيحُ النَّقلِ، صَدوقٌ فيما يرويه عن نبيِّ اللهِ وغَيرِه، فنَظَر إليَّ الرَّشيدُ نَظَر مُغضَبٍ، فقُمتُ من المجلِسِ، فانصرَفْتُ إلى منزلي، فلم ألبَثْ حتَّى قيل: صاحِبُ البريدِ بالبابِ، فدَخَل عَلَيَّ، فقال لي: أجِبْ أميرَ المُؤمِنين إجابةَ مقتولٍ، وتحنَّطْ، وتكَفَّنْ! فقُلتُ: اللَّهُمَّ إنَّك تعلَمُ أنِّي دفَعْتُ عن صاحِبِ نبيِّك، وأجلَلْتُ نبيَّك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُطعَنَ على أصحابِه؛ فسَلِّمْني منه! فأُدخِلْتُ على الرَّشيدِ، وهو جالِسٌ على كُرسيٍّ من ذَهَبٍ، حاسِرٌ عن ذراعَيه، بيَدِه السَّيفُ، وبَينَ يَدَيه النِّطعُ، فلمَّا بَصُرَ بي قال لي: يا عُمَرُ بنَ حَبيبٍ، ما تلقَّاني أحَدٌ من الرَّدِّ والدَّفعِ لقولي بمِثلِ ما تلقَّيْتَني به! فقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين، إنَّ الذي قُلْتَه وجادَلْتَ عليه فيه إزراءٌ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى ما جاء به! إذا كان أصحابُه كذَّابينَ فالشَّريعةُ باطِلةٌ، والفرائِضُ والأحكامُ في الصِّيامِ والصَّلاةِ والطَّلاقِ والنِّكاحِ والحُدودِ كُلُّه مردودٌ وغيرُ مقبولٍ! فرجَع إلى نفسِه، ثمَّ قال لي: أحيَيْتَني يا عُمَرُ بنَ حَبيبٍ، أحياك اللهُ! أحيَيْتَني يا عُمَرُ بنَ حَبيبٍ، أحياك اللهُ! وأمَر لي بعَشَرةِ آلافِ دِرهَمٍ) [7175] ((تاريخ بغداد)) للخطيب (13/ 28، 29). .
- قال محمَّدُ بنُ خازمٍ: (كنتُ أقرأُ حديثَ الأعمَشِ عن أبي صالحٍ على أميرِ المُؤمِنين هارونَ، فكلَّما قُلتُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: صلَّى اللهُ على سَيِّدي ومولاي، حتَّى ذكَرتُ حديثَ: التَقى آدَمُ وموسى، فقال عَمُّه: يا محمَّدُ، أين التَقَيا؟ قال: فغَضِبَ هارونُ، وقال: مَن طَرَح إليك هذا؟ وأمَرَ به فحُبِس، ووكَّلَ بي مِن حَشَمِه من أدخَلَني إليه في محبِسِه، فقال: يا محمَّدُ، واللهِ ما هو إلَّا شيءٌ خَطَر ببالي، وحَلَف لي بالعِتقِ وصَدقةِ المالِ وغيرِ ذلك مِن مُغَلَّظاتِ الأيمانِ، ما سَمِعتُ من أحَدٍ، ولا جرى بيني وبينَ أحدٍ في هذا كلامٌ، وما هو إلَّا شيءٌ خَطَر ببالي لم يَجْرِ بيني وبينَ أحَدٍ فيه كلامٌ.
قال: فلمَّا رجَعْتُ إلى أميرِ المُؤمِنين كلَّمْتُه، قال: ليَدُلَّني على من طَرَح إليه هذا الكلامَ. فقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين، قد حَلَف بالعِتقِ ومُغَلَّظاتِ الأيمانِ أنَّه إنَّما شيءٌ خَطَر ببالي لم يَجْرِ بيني وبينَ أحدٍ فيه كلامٌ.
قال: فأمَرَ به فأُطلِقَ من الحَبسِ، وقال لي: يا محمَّدُ، وَيحَك! إنَّما توهَّمتُ أنَّه طَرَح إليه بعضُ المُلحِدين هذا الكلامَ الذي خرج منه، فيَدُلُّني عليهم فأستبيحَهم، وإلَّا فأنا على يقينٍ أنَّ القُرَشيَّ لا يتزندَقُ) [7176] يُنظَر: ((المعرفة والتاريخ)) ليعقوب بن سفيان (2/ 181، 182)، ((تاريخ بغداد)) للخطيب (3/ 135، 136)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (73/ 290). .
- قال ابنُ عساكِرَ: (كان العَبدريُّ أحفَظَ شيخٍ لَقِيتُه، وكان فقيهًا داووديًّا، ذكر أنَّه دَخَل دِمَشقَ في حياةِ أبي القاسِمِ بنِ أبي العلاءِ، وسَمِعتُه وقد ذُكِر مالِكٌ، فقال: جِلفٌ جافٍ! ضَرَب هِشامَ بنَ عَمَّارٍ بالدِّرَّةِ، وقرأتُ عليه (الأموال) لأبي عُبَيدٍ، فقال -وقد مَرَّ قولٌ لأبي عُبَيدٍ-: ما كان إلَّا حمارًا مُغَفَّلًا لا يَعرِفُ الفِقهَ! وقيل لي عنه: إنَّه قال في إبراهيمَ النَّخَعيِّ: أعوَرُ سُوءٍ!
فاجتمَعْنا يومًا عِندَ ابنِ السَّمَرْقَنديِّ في قراءةِ كتاب (الكامل)، فجاء فيه: وقال السَّعديُّ كذا، فقال: يَكذِبُ ابنُ عَديٍّ، إنَّما ذا قولُ إبراهيمَ الجَوْزَجانيِّ! فقُلتُ له: فهو السَّعديُّ، فإلى كم نحتَمِلُ منك سوءَ الأدَبِ، تقولُ في إبراهيمَ كذا وكذا، وتقولُ في مالكٍ: جافٍ، وتقولُ في أبي عُبَيدٍ؟!
فغَضِب وأخذَتْه الرِّعدةُ، وقال: كان ابنُ الخاضِبةِ والبَردانيُّ وغيرُهما يخافوني، فآل الأمرُ إلى أن تقولَ فيَّ هذا؟!
فقال له ابنُ السَّمَرْقَنديِّ: هذا بذاك.
فقُلتُ: إنَّما نحتَرِمُك ما احتَرَمْتَ الأئمَّةَ) [7177] يُنظَر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (53/ 60)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (19/ 581). .
نماذِجُ من غَيْرةِ السَّلَفِ:
- كان إبراهيمُ يَكرَهُ أن يبعَثَ الخادِمَ ليلًا في حاجةٍ ويقولُ: (أكرَهُ أن أعَرِّضَها للرِّيبةِ) [7178] ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (3/ 399). .
- قال أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ موسى القاضي: حضَرْتُ مجلِسَ موسى بنِ إسحاقَ القاضي بالرَّيِّ سنةَ سِتٍّ وثمانين ومائتَينِ، وتقدَّمَت امرأةٌ، فادَّعى وليُّها على زوجِها خمسَمائةِ دينارٍ مَهرًا، فأنكر، فقال القاضي: شهودُك؟ قال: قد أحضَرْتُهم، فاستدعى بعضَ الشُّهودِ أن ينظُرَ إلى المرأةِ ليُشيرَ إليها في شَهادتِه، فقام الشَّاهِدُ، وقالوا للمرأةِ: قومي، فقال الزَّوجُ: تفعلون ماذا؟ قال الوكيلُ: ينظُرون إلى امرأتِك وهي مُسفِرةٌ لتَصِحَّ عِندَهم مَعرفتُها، فقال الزَّوجُ: فإنِّي أُشهِدُ القاضيَ أنَّ لها عليَّ هذا المهرَ الذي تدَّعيه، ولا تُسفِرُ عن وجهِها، فرُدَّت المرأةُ وأُخبِرَت بما كان من زوجِها، فقالت المرأةُ: فإنِّي أُشهِدُ القاضيَ أنِّي قد وهَبتُ له هذا المهرَ وأبرَأْتُه منه في الدُّنيا والآخِرةِ، فقال القاضي: يُكتَبُ هذا في مكارِمِ الأخلاقِ [7179] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (13/ 265)، ((تاريخ بغداد)) للخطيب (15/ 53)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (60/ 394). !

انظر أيضا: