موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


جاءت الأحاديثِ النَّبَويَّةِ مُتضافِرةً في الحَثِّ على الصِّدقِ، والأمرِ به، وأنَّه وسيلةٌ إلى الجنَّةِ.
1- فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عليكم بالصِّدقِ؛ فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتَبَ عند اللهِ صِدِّيقًا. وإيَّاكم والكَذِبَ؛ فإنَّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النَّارِ، وما يزالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ، ويتحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا)) [5752] أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ له. .
(قال العُلَماءُ: هذا فيه حثٌّ على تحرِّي الصِّدقِ، وهو قَصدُه والاعتناءُ به، وعلى التَّحذيرِ من الكَذِبِ والتَّساهُلِ فيه؛ فإنَّه إذا تساهل فيه كثُرَ منه فعُرِف به، وكَتَبه اللهُ لمبالغتِه صِدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده. ومعنى يُكتَبُ هنا يُحكَمُ له بذلك، ويستَحِقُّ الوصفَ بمنزلةِ الصِّدِّيقين وثوابِهم، أو صفةِ الكذَّابين وعقابِهم، والمرادُ إظهارُ ذلك للمخلوقين، إمَّا بأن يكتُبَه في ذلك؛ ليشتَهِرَ بحَظِّه من الصِّفتَين في الملأِ الأعلى، وإمَّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوبِ النَّاسِ وألسنَتِهم، وكما يوضَعُ له القَبولُ والبَغضاءُ، وإلَّا فقَدَرُ اللهِ تعالى وكتابُه السَّابِقُ بكُلِّ ذلك) [5753] يُنظَر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/241-243). .
2- وعن أبي محمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنهما قال: حفِظتُ من رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يريبُك؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمأنينةٌ، والكَذِبَ رِيبةٌ)) [5754] أخرجه الترمذي (2518) واللفظ له، والنسائي (5711) مختصَرًا، وأحمد (1723) مطوَّلًا. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (722)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/42)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (5/2318)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2518)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (320). . (أي: اترُكْ ما تشُكُّ في كونِه حسَنًا أو قبيحًا، أو حلالًا أو حرامًا، ((إلى ما لا يَريبُك)) أي: واعدِلْ إلى ما لا شَكَّ فيه، يعني ما تيقَّنْتَ حُسنَه وحِلَّه، ((فإنَّ الصِّدقُ طُمأنينةٌ)) أي: يَطمَئِنُّ إليه القلبُ ويَسكُنُ، وفيه إضمارٌ، أي: محَلُّ طمأنينةٍ أو سببُ طمأنينةٍ ((وإنَّ الكَذِبَ رِيبةٌ)) أي: يُقلِقُ القلبَ ويَضطَرِبُ) [5755] يُنظَر: ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 529). .
قال التُّورِبِشتيُّ: («فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنينةٌ، والكَذِبَ رِيبةٌ»، معناه: إذا وجَدْتَ نَفسَك ترتابُ في الشَّيءِ فاترُكْه؛ فإنَّ نفسَ المُؤمِنِ تطمَئِنُّ إلى الصِّدقِ، وترتابُ من الكَذِبِ؛ فارتيابُك في الشَّيءِ مُنبئٌ عن كونِه باطلًا أو مَظِنَّةً للباطِلِ فاحذَرْه، واطمِئنانُك إلى الشَّيءِ مُشعِرٌ بكونِه حَقًّا، فاستمسِكْ به، والصِّدقُ والكَذِبُ يُستعملانِ في المقالِ والفِعالِ، وما يحقَّقُ أو يَبطُلُ من الاعتقادِ) [5756] يُنظَر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (2/ 659). ، (وهذا مخصوصٌ بذوي النُّفوسِ الشَّريفةِ القُدسيَّةِ الطَّاهرةِ من أوضارِ الذُّنوبِ وأوساخِ الآثامِ) [5757] يُنظَر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (7/ 2107). .
3- وعن أبي سُفيانَ في حديثِه الطَّويلِ في قِصَّةِ هِرَقلَ عظيمِ الرُّومِ، (قال هِرَقلُ، وهو يسألُ أبا سفيانَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ماذا يأمُرُكم؟ قلتُ: يقولُ: اعبُدوا اللهَ وَحْدَه ولا تُشرِكوا به شيئًا، واترُكوا ما يقولُ آباؤكم، ويأمُرُنا بالصَّلاةِ والصِّدقِ، والعفافِ والصِّلةِ) [5758] يُنظَر: رواه البخاري (7) واللفظ له، ومسلم (1773). .
4- عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ رَضِيَ الله عنه ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قام حين جاءَه وَفدُ هَوازِنَ مُسلِمين، فسألوه أن يَرُدَّ إليهم أموالَهم وسَبْيَهم، فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أحَبُّ الحديثِ إليَّ أصدَقُه، فاختاروا إحدى الطَّائفتينِ: إمَّا السَّبيَ، وإمَّا المالَ)) [5759] أخرجه البخاري (2307، 2308) ، قولُه: ((وأحبُّ الحديثِ إليَّ أصدَقُه)) فيه إشارةٌ إلى طلبِ الصِّدقِ منهم [5760] ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (11/ 536). . وقولُه: ((أصدَقُه)) قيل: أراد به ما طابقَ الواقعَ، وزاد باشتمالِه على موعظةٍ وترغيبٍ في الخيرِ، وزَجرٍ عن الشَّرِّ، ويحتَمِلُ أنَّه أراد بأصدَقِ الحديثِ القُرآنَ [5761] ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (1/ 392). .
5- وفي حديثِ نُزولِ الوَحيِ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فرجع بها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ترجُفُ بوادِرُه، حتى دخل على خديجةَ، فقال: زَمِّلوني زَمِّلوني! فزَمَّلوه، حتى ذهب عنه الرَّوعُ، قال لخديجةَ: أيْ خديجةُ، ما لي؟! لقد خَشِيتُ على نفسي! فأخبَرَها الخبَرَ، قالت خديجةُ: كلَّا، أبشِرْ، فواللهِ لا يُخزيك اللهُ أبدًا؛ فواللهِ إنَّك لتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصدُقُ الحديثَ، وتحمِلُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقْري الضَّيفَ، وتُعينُ على نوائِبِ الحَقِّ)) [5762] أخرجه البخاري (4953) واللفظ له، ومسلم (160) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
 (قال العُلَماءُ رَضِيَ الله عنهم: معنى كلامِ خديجةَ رَضِيَ الله عنها: إنَّك لا يصيبُك مكروهٌ لِما جعل اللهُ فيك من مكارِمِ الأخلاقِ وكَرَمِ الشَّمائِلِ، وذكرَت ضُروبًا من ذلك، وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ مكارمَ الأخلاقِ وخِصالَ الخيرِ سبَبُ السَّلامةِ من مَصارِعِ السُّوءِ) [5763] يُنظَر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 202). . ومن ذلك خُلُقُ الصِّدقِ.

انظر أيضا: