موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبويَّةِ


- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رَحِم اللهُ رجُلًا سَمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)) [4875] رواه البخاري (2076). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (فيه الحضُّ على السَّماحةِ، وحُسنِ المعاملةِ، واستعمالِ معالي الأخلاقِ ومَكارِمِها، وتَركِ المشاحَّةِ في البيعِ، وذلك سبَبٌ إلى وجودِ البركةِ فيه؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ لا يحُضُّ أمَّتَه إلَّا على ما فيه النَّفعُ لهم، في الدُّنيا والآخِرةِ) [4876] ((شرح صحيح البخاري)) (6/210). .
وقال المُناويُّ: (... ((رَحِمَ اللهُ عبدًا)) دعاءٌ أو خبَرٌ، وقرينةُ الاستقبالِ المستفادِ من ((إذا)) تجعَلُه دعاءً. ((سَمحًا)) ... جوادًا أو متساهِلًا، غيرَ مُضايقٍ في الأمورِ، وهذا صفةٌ مُشبَّهةٌ تدُلُّ على الثُّبوتِ؛ ولذا كرَّر أحوالَ البيعِ والشِّراءِ والتَّقاضي... ((سَمحًا إذا اقتضى)) [4877] رواه البخاري (2076) مطوَّلًا من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، أي: طلب قضاءَ حَقِّه، وهذا مسوقٌ للحَثِّ على المسامحةِ في المعاملةِ، وتركِ المشاحَحةِ والتَّضييقِ في الطَّلبِ، والتَّخلُّقِ بمكارمِ الأخلاقِ. وقال القاضي: رتَّب الدُّعاءَ على ذلك؛ ليدُلَّ على أنَّ السُّهولةَ والتَّسامُحَ سبَبٌ لاستحقاقِ الدُّعاءِ، ويكونُ أهلًا للرَّحمةِ) [4878] ((فيض القدير)) (2/441). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا أخبِرُكم بمن يَحرُمُ على النَّارِ، أو بمن تحرُمُ عليه النَّارُ؟ على كُلِّ قريبٍ هَيِّنٍ سَهلٍ)) [4879] رواه الترمذي (2488) واللفظ له، وأحمد (3938). صحَّحه ابنُ حِبان في ((صحيحه)) (470)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2488)، وحسَّنه بشواهِدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3938)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ. .
قال القاريُّ: (أي: تحرُمُ على كلِّ سهلٍ طَلقٍ حليمٍ، ليِّنِ الجانِبِ...، ثمَّ قولُه: ((هَيِّنٍ)) فعيلٌ من الهَونِ، وهو السُّكونُ والوقارُ والسُّهولةُ... ((قريبٍ)) أي: من النَّاسِ بمجالستِهم في محافِلِ الطَّاعةِ، وملاطفتِهم قَدْرَ الاستطاعةِ. ((سَهلٍ)) أي: في قضاءِ حوائِجِهم، أو معناه: أنَّه سَمحُ القضاءِ، سمحُ الاقتضاءِ، سمحُ البيعِ، سمحُ الشِّراءِ) [4880] ((مرقاة المفاتيح)) (8/3179). .
- وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تعالى خلَق آدَمَ من قبضةٍ قبَضَها من جميعِ الأرضِ؛ فجاء بنو آدَمَ على قَدْرِ الأرضِ، جاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسوَدُ، وبَيْنَ ذلك، والسَّهلُ، والحَزْنُ، والخَبيثُ، والطَّيِّبُ، وبَينَ ذلك)) [4881] أخرجه أبو داود (4693) واللفظ له، والترمذي (2955)، وأحمد (19582). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6160)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/74). .
(لمَّا كانت الأوصافُ الأربعةُ ظاهرةً في الإنسانِ والأرضِ، أُجرِيَت على حقيقتِها، وأُوِّلت الأربعةُ الأخيرةُ؛ لأنَّها من الأخلاقِ الباطنةِ؛ فإنَّ المعنيَّ بالسَّهلِ: الرِّفقُ واللِّينُ، وبالحَزْنِ: الخُرقُ والعُنفُ، وبالطَّيِّبِ الذي يعني به الأرضَ العَذْبةَ: المؤمِنُ الذي هو نفعٌ كُلُّه، وبالخَبيثِ الذي يرادُ به الأرضُ السَّبخةُ: الكافِرُ الذي هو ضُرٌّ كُلُّه، والذي سيق له الحديثُ هو الأمورُ الباطنةُ؛ لأنَّها داخلةٌ في حديثِ القَدَرِ بالخيرِ والشَّرِّ، وأمَّا الأمورُ الظَّاهرةُ من الألوانِ وإن كانت مُقَدَّرةً فلا اعتبارَ لها فيه) [4882] ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (2/ 564)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/176). .
قال الشَّاعِرُ:
النَّاسُ كالأرضِ ومنها هُمُ
 من خَشنِ الطَّبعِ ومِن لَيِّنِ
فحَجَرٌ تَدمَى به أرجُلٌ
 وإثمِدٌ يُجعَلُ في الأَعْيُنِ [4883] ((نفح الطيب)) للمقري (4/ 306)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (26/ 193).
- وعن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى اللهُ بعبدٍ من عبادِه آتاه اللهُ مالًا، فقال له: ماذا عَمِلتَ في الدُّنيا؟ -قال: ولا يكتُمون اللهَ حديثًا- قال: يا رَبِّ آتيتني مالَك، فكُنتُ أبايِعُ النَّاسَ، وكان من خُلُقي الجوازُ، فكنتُ أتيسَّرُ على الموسِرِ، وأُنظِرُ المُعسِرَ. فقال اللَّهُ: أنا أحَقُّ بذا منك؛ تجاوَزوا عن عبدي))، فقال عُقبةُ بنُ عامرٍ الجُهَنيُّ، وأبو مسعودٍ الأنصاريُّ: هكذا سَمِعْناه مِن في رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [4884] رواه البخاري (2077)، ومسلم (1560) واللفظ له. .
قال النَّوويُّ: (والتَّجاوُزُ والتَّجوُّزُ معناهما المسامحةُ في الاقتضاءِ والاستيفاءِ، وقبولُ ما فيه نقصٌ يسيرٌ...، وفي هذه الأحاديثِ فَضلُ إنظارِ المُعسِرِ والوَضعِ عنه إمَّا كُلَّ الدَّينِ، وإمَّا بعضَه من كثيرٍ أو قليلٍ، وفضلُ المسامحةِ في الاقتضاءِ وفي الاستيفاءِ، سواءٌ استوفيَ من موسرٍ أو مُعسِرٍ، وفَضلُ الوضعِ من الدَّينِ، وأنَّه لا يحتَقَرُ شيءٌ من أفعالِ الخيرِ؛ فلعلَّه سببُ السَّعادةِ والرَّحمةِ) [4885] ((شرح النووي على مسلم)) (10/225). .
- وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اسمَحْ يُسمَحْ لك)) [4886] أخرجه عبد الله بن أحمد وجادة عن أبيه في ((المسند)) (2233)، والحارث كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (1081)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5112). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (982)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2233). .
قال الصَّنعانيُّ: (والمعنى: أنَّ تسهيلَك للعبادِ سببُ تسهيلِ اللهِ لك، ويُلينُ لك قُلوبَ العبادِ، فيَسمَحوا لك) [4887] ((التنوير)) (2/371). .

انظر أيضا: