موسوعة الأخلاق والسلوك

ثانِي عشَرَ: مسائِلُ مُتفرِّقةٌ


الصَّلاحُ بغَيرِ إصلاحٍ لا يعصِمُ الأمَمَ مِن الهَلاكِ:
قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117] .
وسألَت زَينبُ بنتُ جَحشٍ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: ((يا رسولَ اللهِ، أفنهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: نعَم، إذا كثُر الخَبَثُ)) [400] أخرجه البخاري (7135) واللفظ له، ومسلم (2880). .
قال القُرطُبيُّ: (فأمَّا إذا كثُر المُفسِدونَ وقلَّ الصَّالِحونَ، هلَك المُفسِدونَ والصَّالِحونَ معَهم، إذا لم يأمُروا بالمعروفِ، ويكرَهوا ما صنَع المُفسِدونَ) [401] ((التذكرة)) (ص: 1062) .
(فكثرةُ الخَبَثِ مُؤذِنةٌ بالهلاكِ، وهذا يعني أنَّه يجِبُ مَنعُ هذا الخَبَثِ حتَّى لا يحُلَّ بالمُسلِمينَ الهلاكُ) [402] ((معركة النص)) لفهد العجلان (2/45). .
ادِّعاءُ الإصلاحِ بغَيرِ مَنهَجٍ صحيحٍ وبُرهانٍ صادِقٍ دعاوى زائِفةٌ:
فقد ادَّعى المُنافِقونَ -معَ فسادِهم العريضِ- الإصلاحَ، وأخبَر سبحانَه عن ذلك، فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11-12] ، أي: إذا قيل للمُنافِقينَ: لا تُفسِدوا في الأرضِ بمعصيةِ اللهِ تعالى، وبالنِّفاقِ والكُفرِ، واتِّخاذِ الكافِرينَ أولياءَ، والصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ، والتَّعويقِ عن طاعتِه وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإرجافِ...، إلى غَيرِ ذلك- يدَّعونَ أنَّ ما يفعلونَه مِن الفسادِ إصلاحٌ! أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، أي: هم المُخالِفونَ في الحقيقةِ أمرَ اللهِ عزَّ وجلَّ بالكُفرِ والمعاصي، ولكن لا يدرونَ ولا يفطَنونَ إلى أنَّ ما يفعلونَه هو فسادٌ في الحقيقةِ [403] ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (1/88). .
وبناءً على هذا يتَّضِحُ أنَّ مفهومَ الإصلاحِ الذي تُروِّجُ له وسائِلُ الإعلامِ العلمانيَّةُ يُرادُ به الإصلاحُ بالمفهومِ والمنظورِ الغربيِّ، فدعاوى تبرُّجِ المرأةِ، والاختِلاطِ بَينَ الجِنسَينِ، والسَّماحِ للشَّواذِّ بمُمارَسةِ شُذوذِهم- عندَهم إصلاحٌ، فما أكثَرَ أدعياءَ الإصلاحِ، وما أقَلَّ دُعاتَه!
وتأمَّلْ قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ القائِمِ على حُدودِ اللهِ والواقِعِ فيها كمَثلِ قَومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذين في أسفَلِها إذا استقَوا مِن الماءِ مرُّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقْنا في نَصيبِنا خَرقًا ولم نُؤذِ مَن فَوقَنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا، ونجَوا جميعًا)) [404] أخرجه البخاري (2493) من حديث النعمان بن بشير ، رضي الله عنهما. ، فهذا تمثيلٌ لحالةِ طائِفةٍ في «الأسفَلِ» تعمَلُ لرَحمةِ مَن هم في «الأعلى»: عاطِفةٌ شريفةٌ، ولكنَّها سافِلةٌ، وحَميَّةٌ مُلتهِبةٌ، ولكنَّها بارِدةٌ، ورحمةٌ خالِصةٌ، ولكنَّها مُهلِكةٌ! ولن تجِدَ كهذا التَّمثيلِ في تصويرِ البلاغةِ الاجتِماعيَّةِ والغَفلةِ الفَلسفيَّةِ لأناسٍ هم عندَ أنفُسِهم أمثِلةُ الجِدِّ والعَملِ والحِكمةِ، فكأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لهؤلاء مِن ألفٍ وأربعِمئةِ سنةٍ: أنتم المُصلِحونَ إصلاحًا مخروقًا [405] ((السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية)) للرافعي (ص: 23). !
فهؤلاء الذين يخوضونَ معَنا البحرَ، ويُسمُّونَ أنفُسَهم بالمُجدِّدينَ، وينتحِلونَ ضُروبًا مِن الأوصافِ؛ كحُرِّيَّةِ الفِكرِ، والغَيرةِ، والإصلاحِ، ولا يزالُ أحدُهم ينقُرُ موضِعَه مِن سفينةِ دينِنا وأخلاقِنا وآدابِنا بفأسِه، أي: بقَلمِه...، زاعمًا أنَّه موضِعُه مِن الحياةِ الاجتِماعيَّةِ، يصنَعُ فيه ما يشاءُ، ويتولَّاه كيف أراد، مُوجِّهًا لحماقتِه وُجوهًا مِن المعاذيرِ والحُجَجِ مِن المدنيَّةِ والفلسفةِ، جاهِلًا أنَّ القانونَ في السَّفينةِ إنَّما هو قانونُ العاقِبةِ دونَ غَيرِها، فالحُكمُ لا يكونُ على العَملِ بَعدَ وُقوعِه، كما يُحكَمُ على الأعمالِ الأخرى، بل قَبلَ وُقوعِه، والعِقابُ لا يكونُ على الجُرمِ يقتَرِفُه المُجرِمُ كما يُعاقَبُ اللِّصُّ والقاتِلُ وغَيرُهما، بل على الشُّروعِ فيه، بل على توجُّهِ النِّيَّةِ إليه، فلا حُرِّيَّةَ هنا في عَملٍ يُفسِدُ خَشبَ السَّفينةِ، أو يمَسُّه مِن قُربٍ أو بُعدٍ ما دامت مُلجِّجةً في بَحرِها، سائِرةً إلى غايتِها؛ إذ كلمةُ (الخَرقِ) لا تحمِلُ في السَّفينةِ معناها الأرضيَّ، وهنا لفظةُ (أصغَرُ خَرقٍ) ليس لها إلَّا معنًى واحِدٌ، وهو (أوسَعُ قَبرٍ)...! وكلمةُ الحُرِّيَّةِ يكونُ مِن معانيها الجنايةُ والزَّيغُ والفسادُ، وعلى هذا القياسِ اللُّغويِّ فالقَلمُ في أيدي بعضِ الكُتَّابِ مِن معانيه الفأسُ، والكاتِبُ مِن معانيه المُخرِّبُ، والكِتابةُ مِن معانيها الخيانةُ...!
والزَّائِغونَ في التَّاريخِ الإسلاميِّ كُلِّه صِنفانِ ليس لهما ثالِثٌ، وقد وصَفهما حديثُ حُذَيفةَ بنِ اليمانِ رضِي اللهُ عنهما، قال: ((كان النَّاسُ يسألونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الخيرِ، وكنْتُ أسألُه عن الشَّرِّ؛ مخافةَ أن يُدرِكَني، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا في جاهِليَّةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بَعدَ هذا الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال: نعَم. قلْتُ: وهل بَعدَ ذلك الشَّرِّ مِن خيرٍ؟ قال: نعَم، وفيه دَخَنٌ، قلْتُ: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يَهدونَ بغَيرِ هَدْيي، تعرِفُ منهم وتُنكِرُ، قلْتُ: فهل بَعدَ ذلك الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال: نعَم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّمَ، مَن أجابهم إليها قذَفوه فيها، قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، صِفْهم لنا، قال: هم مِن جِلدتِنا، ويتكلَّمونَ بألسِنتِنا، قلْتُ: فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال: تلزَمُ جماعةَ المُسلِمينَ وإمامَهم، قلْتُ: فإن لم يكنْ لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ، حتَّى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك)) [406] رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). .
فتأمَّلْ قولَه: ((يَهدونَ بغَيرِ هَدْيي، تعرِفُ منهم وتُنكِرُ))، فهؤلاء هم الذين يُريدونَ الإصلاحَ للمُسلِمينَ لا مِن طريقِ الإسلامِ، بل مِن طُرقٍ أخرى فيها معروفُها ومُنكَرُها، وفيها عِلمُها وجَهلُها، وفيها عَقلُها وحماقتُها. ولعلَّ مِن هذا قولَهم: المدنيَّةُ الأوروبيَّةُ بحَسناتِها وسيِّئاتِها...، وتأمَّلْ قولَه: ((إلى أبوابِ جهنَّمَ))، فليست الدَّعوةُ إلى بابٍ واحِدٍ، بل إلى أبوابٍ مُختلِفةٍ...، ثُمَّ تأمَّلْ قولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ولو أن تعَضَّ بأصلِ شجرةٍ))، فإنَّ معناه استِمساكٌ بما بقِي على الطَّبيعةِ السَّليمةِ ممَّا لا يستطيعُ أولئك أن يُغيِّروه ولا أن يُجدِّدوه، أي: بالاستِمساكِ، ولو بأصلٍ واحِدٍ مِن قديمِ الفضيلةِ والإيمانِ، وعِبارةُ العَضِّ بأصلِ شجرةٍ تُمثِّلُ أبدَعَ وأبلَغَ وَصفٍ لمَن يلزَمُ أصولَ الفضائِلِ في هذا الزَّمنِ، ومَبلَغَ ما يُعانيه في التَّمسُّكِ بفضيلتِه [407] ((السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية)) للرافعي (ص: 24-27). .

انظر أيضا: