موسوعة الأخلاق والسلوك

أوَّلًا: أقسامُ الأخلاقِ باعتبارِها فِطريَّةً أو مُكتَسَبةً


الأخلاقُ تَنقَسِمُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ: أخلاقٌ فِطريَّةٌ، وأخلاقٌ مُكتَسَبةٌ.
فبَعضُ أخلاقِ النَّاسِ أخلاقٌ فِطريَّةٌ قد جُبِلوا عليها، وتَظهَرُ فيهم مُنذُ بدايةِ نَشأتِهم، والبَعضُ الآخَرُ من أخلاقِهم مُكتَسَبٌ يَحصُلُ بالتَّخَلُّقِ والتَّكَلُّفِ والمُجاهَدةِ. والأخلاقُ الفِطريَّةُ قابلةٌ للتَّنميةِ والتَّوجيهِ والتَّعديلِ؛ لأنَّ وُجودَ الأخلاقِ الفِطريَّةِ يَدُلُّ على وُجودِ الاستِعدادِ الفِطريِّ لتَنميَتِها بالتَّدريبِ والتَّعليمِ وتَكَرُّرِ الخِبراتِ، والاستِعدادِ الفِطريِّ لتَقويمِها وتَعديلِها وتَهذيبِها.
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإن قُلتَ: هَل يُمكِنُ أن يَقَعَ الخُلُقُ كَسْبيًّا، أو هو أمرٌ خارِجٌ عنِ الكَسبِ؟
قُلتُ: يُمكِنُ أن يَقَعَ كَسبيًّا بالتَّخَلُّقِ والتَّكَلُّفِ حتَّى يَصيرَ له سَجيَّةً ومَلَكةً).
واستَدَلَّ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأشَجِّ عَبدِ القَيسِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((إنَّ فيك خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأناةُ، قال: يا رَسولَ اللهِ، أنا أتَخَلَّقُ بهما أم اللهُ جَبَلني عليهما؟ قال: بل اللَّهُ جَبَلك عليهما، قال: الحَمدُ للَّهِ الذي جَبَلني على خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورَسولُه)) [43] أخرجه أبو داود (5225) واللفظ له، والطبراني (5/275) (5313)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8966) من حديثِ زارعِ بنِ عامرِ بنِ عبدِ القيسِ العَبديِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5225)، وحَّسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5225). وقَولُه: ((إنَّ فيك خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأناةُ)) أصله في صَحيحٍ مُسلمٍ (17) من حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما، و(18) من حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: "خَصلتَينِ". .
قال: (فدَلَّ على أنَّ منَ الخُلُقِ ما هو طَبيعةٌ وجِبلَّةٌ، وما هو مُكتَسَبٌ. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في دُعاءِ الاستِفتاحِ: ((اللَّهمَّ اهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِها إلَّا أنتَ، واصرِفْ عنِّي سَيِّئها لا يَصرِفُ عنِّي سَيِّئَها إلَّا أنتَ)) [44] رواه مسلم (771) من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فذَكَرُ الكَسبَ والقَدَرَ. واللهُ أعلمُ) [45] ((مدارج السالكين)) (2/ 300). .
(إنَّنا نَجِدُ مَثَلًا الخَوفَ الفِطريَّ عِندَ بَعضِ النَّاسِ أشَدَّ منه عِندَ فريقٍ آخَرَ، ونَجِدُ الطَّمَعَ الفِطريَّ عِندَ بَعضِ النَّاسِ أشَدَّ منه عِندَ فريقٍ آخَرَ، ونَجِدُ فريقًا منَ النَّاسِ مَفطورًا على سُرعةِ الغَضَبِ، بَينَما نَجِدُ فريقًا آخَرَ مَفطورًا على نِسبةٍ ما منَ الحِلمِ والأناةِ وبُطءِ الغَضَبِ.
هذه المُتَفاوِتاتُ نُلاحِظُها حتَّى في الأطفالِ الصِّغارِ الذينَ لم تُؤَثِّرِ البيئةُ في تَكوينِهمُ النَّفسيِّ بَعدُ.
وقد جاءَ في أقوالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يُثبِتُ هذا التَّفاوُتَ الفِطريَّ في الطِّباعِ الخُلُقيَّةِ وغَيرِها:
منها ما رَواه البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((النَّاسُ مَعادِنُ كمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا)) [46] أخرجه مسلم (2638) مطولًا. وأخرجه من طريق آخر: البخاري (3493)، ومسلم (2526). .
ومنها: ما رَواه أحمَدُ في مُسنَدِه والتِّرمِذيُّ وأبو داوُدَ بإسنادٍ صَحيحٍ عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ من قَبضةٍ قَبَضَها من جَميعِ الأرضِ، فجاءَ بَنو آدَمَ على قَدرِ الأرضِ؛ جاءَ منهمُ الأبيَضُ والأحمَرُ والأسوَدُ وبَينَ ذلك، والخَبيثُ والطَّيِّبُ والسَّهلُ والحَزْنُ وبَينَ ذلك)) [47]رواه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وأحمد (19582) واللفظ له. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6160)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/74)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (127)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4693). .
وفي قَولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "النَّاسُ مَعادِنُ"دَليلٌ على فُروقِ الهِباتِ الفِطريَّةِ الخِلقيَّةِ، وفيه يُثبِتُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ خيارَ النَّاسِ في التَّكوينِ الفِطريِّ هم أكرَمُهم خُلقًا، وهذا التَّكوينُ الخُلُقيُّ يُرافِقُ الإنسانَ ويُصاحِبُه في كُلِّ أحوالِه. فإذا نَظَرْنا إلى مَجموعةٍ منَ النَّاسِ غَيرِ مُتَعلِّمةٍ ولا مُهَذَّبةٍ، أو في وسَطِ مُجتَمَعٍ جاهليٍّ، فإنَّه لا بُدَّ أن يَمتازَ في نَظَرِنا من بَينِهم أحاسِنُهم أخلاقًا، فهم خَيَرُهم مَعدِنًا، وأفضَلُهم سُلوكًا اجتماعيًّا، ثمَّ إذا نَقَلْنا هذه المَجموعةَ كُلَّها فعلَّمْناها وهَذَّبْناها وأنقَذْناها من جاهليَّتِها، ثمَّ نَظَرْنا إليها بَعدَ ذلك نَظرةً عامَّةً لنَرى من هو أفضَلُهم، فلا بُدَّ أن يَمتازَ في نَظَرِنا من بَينِهم من كان قدِ امتازَ سابقًا؛ لأنَّ العِلمَ والتَّهذيبَ والإيمانَ تَمُدُّ من كان ذا خُلُقٍ حَسَنٍ في أصلِ فِطرَتِه، فتَزيدُه حُسنَ خُلُقٍ واستِقامةَ سُلوكٍ، وتَزيدُه فضلًا، ثمَّ إذا جاءَ الفِقهُ في الدِّينِ كان ارتِقاءُ هؤلاء فيما فُضِّلوا به ارتِقاءً يَجعلُهم همُ السَّابقينَ على من سِواهم لا مَحالةَ، وبذلك تَكونُ فُروقُ النِّسبةِ لصالحِهم فَضلًا وكَرَمًا) [48]((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حسن حبنكة (1/167). .

انظر أيضا: