موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: أخطاءٌ شائِعةٌ حولَ الزُّهدِ فيما في أيدي النَّاسِ


1- ليس المُرادُ مِن الزُّهدِ رَفضَ المالِ مِن المِلكِ؛ فقد كان سُلَيمانُ وداودُ عليهما السَّلامُ مِن أزهَدِ أهلِ زمانِهما، ولهما مِن المالِ والمُلكِ والنِّساءِ ما لهما، وكان عليُّ بنُ أبي طالِبٍ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ والزُّبَيرُ وعُثمانُ -رضِي اللهُ عنهم- مِن الزُّهَّادِ معَ ما كان لهم مِن الأموالِ، وكان الحَسنُ بنُ عليٍّ رضِي اللهُ عنه مِن الزُّهَّادِ معَ أنَّه كان مِن أغنى النَّاسِ، وكان عبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ مِن الأئمَّةِ الزُّهَّادِ، معَ مالٍ كثيرٍ، وكذلك اللَّيثُ بنُ سَعدٍ مِن أئمَّةِ الزُّهدِ، وكان له رأسُ مالٍ [4519] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 15). ، قال ابنُ القيِّمِ: (الزُّهدُ زُهدُ القلبِ لا زُهدُ التَّركِ مِن اليدِ وسائِرِ الأعضاءِ، فهو تخلِّي القلبِ عنها، لا خُلوُّ اليدِ منها) [4520] ((مدارج السالكين)) (2/ 19). .
2- مِن الصُّوفيَّةِ الذين لا يرَونَ إلَّا عَيبَ المالِ، ويخافونَ مِن شرِّه، فيتجرَّدونَ مِن الأموالِ، ويجلِسونَ على بِساطِ الفَقرِ، وقد ورِث أبو عبدِ اللهِ المقَّريُّ مِن أبيه خمسينَ ألفَ دينارٍ سِوى الضِّياعِ والعَقارِ، فخرَج عن ذلك كُلِّه، وأنفَقه على الفُقَراءِ، وقد رُوي مِثلُ هذا عن جماعةٍ كثيرةٍ، وهذا الفِعلُ لا يُلامُ صاحِبُه إذا كان يرجِعُ إلى كِفايةٍ قد ادَّخَرها لنَفسِه، أو إن كانت له صِناعةٌ يستَغني بها عن النَّاسِ، أو كان المالُ عن شُبهةٍ، فتصدَّق به، أمَّا إذا أخرَج المالَ الحلالَ كُلَّه، ثُمَّ احتاج إلى ما في أيدي النَّاسِ، وأفقَر عِيالَه؛ فهو إمَّا أن يتعرَّضَ لمِنَنِ الإخوانِ أو لصَدَقاتِهم، أو أن يأخُذَ مِن أربابِ الظُّلمِ والشُّبُهاتِ؛ فهذا هو الفِعلُ المذمومُ المَنهيُّ عنه، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لكَعبِ بنِ مالِكٍ لمَّا أراد أن يتصدَّقَ بمالِه كُلِّه: ((أمسِكْ عليك بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك)) [4521] أخرجه البخاري (2757)، ومسلم (2769). ، وقال لسَعدٍ: ((إنَّك أن تَذَرَ وَرَثتَك أغنياءَ خيرٌ مِن أن تَذَرَهم عالةً يتكفَّفونَ النَّاسَ)) [4522] أخرجه البخاري (6373) ومسلم (1628). .
أمَّا ما جاء أنَّ أبا بكرٍ رضِي اللهُ عنه جاء بكُلِّ مالِه؛ فالجوابُ: أنَّ أبا بكرٍ صاحِبُ مَعاشٍ وتجارةٍ؛ فإذا أخرَج الكُلَّ أمكَنه أن يستدينَ عليه فيَتمَعيَشَ، فمَن كان على هذه الصِّفةِ لا يُذَمُّ إخراجُه لمالِه.
وإنَّما الذَّمُّ مُتطرِّقٌ إلى مَن يُخرِجُ مالَه وليس مِن أربابِ المعايِشِ، أو يكونُ مِن أولئك إلَّا أنَّه ينقطِعُ عن المَعاشِ، فيبقى كَلًّا على النَّاسِ، يستَعطيهم، ويتعلَّقُ قَلبُه بالخَلقِ، ومتى حُرِّك بابُه نهَض قَلبُه، وقال: رِزقٌ قد جاء!
وهذا أمرٌ قبيحٌ بمَن يقدِرُ على المَعاشِ، وإن لم يقدِرْ كان إخراجُ ما يملِكُ أقبَحَ؛ لأنَّه يتعلَّقُ قلبُه بما في أيدي النَّاسِ، وربَّما ذلَّ لبعضِهم، أو تزيَّن له بالزُّهدِ، وأقَلُّ أحوالِه أن يُزاحِمَ الفُقَراءَ والمكافيفَ والزَّمْنى في الزَّكاةِ [4523] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 158)، ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 74، 75). .

انظر أيضا: