موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
 الآيتان (1 - 2)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ

غريب الكلمات:

بَرَاءَةٌ: أي: تَبَرُّؤٌ وقَطعٌ للمُوالاةِ والعِصمةِ والأمانِ، وأصلُ (برء): يدلُّ على التباعُدِ مِن الشَّيءِ ومُزايَلتِه [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 182)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/236)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 134)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 220). .
فَسِيحُوا: أي: فَسِيروا واذهَبُوا، وأصلُ (سيح): يدلُّ على استمرارِ شَيءٍ وذَهابِه [16] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 182)، ((تفسير ابن جرير)) (11/319)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/119)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 134)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 220)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 523). .

المعنى الإجمالي:

يَقولُ اللهُ تعالى: هذه بَراءةٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ المُشركينَ الذين عاهَدتُموهم، أيُّها المُسلِمونَ فنقضوا عهدهم، فَسِيرُوا- أيُّها المُشرِكونَ- في الأرضِ أربعةَ أشهُرٍ- هي مدةُ الإمهالِ- أينَما شِئتُم آمِنينَ، لا يَنالُكم مِن المُسلِمينَ سُوءٌ، واعلَمُوا أنَّكم لن تُعجِزوا اللهَ، ولن تَفُوتوا مِن عِقابِه إن أرادَه بكم، واعلَمُوا أنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافرينَ.

تفسير الآيتين:

بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) .
أي: هذه بَراءةٌ مِن اللهِ ورَسولِه إلى جميعِ المُشركينَ الذين عاهَدتُموهم، أيُّها المُسلِمونَ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/303)، ((البسيط)) للواحدي (10/280)، ((تفسير ابن كثير)) (4/102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 328)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/245). قال ابنُ جريرٍ: (العهودُ بين المُسلِمينَ والمُشركينَ على عهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُن يتولَّى عَقدَها إلَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو من يَعقِدُها بأمرِه، ولكنَّه خاطَبَ المؤمنينَ بذلك لِعلمِهم بمعناه، وأنَّ عُقودَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمَّتِه كانت عُقودَهم؛ لأنَّهم كانوا لكُلِّ أفعالِه فيهم راضينَ، ولعقوده عليهم مُسَلِّمين، فصار عَقْدُه عليهم كعُقودِهم على أنفُسِهم؛ فلذلك قال: إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا كان مِن عَقدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَهدِه). ((تفسير ابن جرير)) (11/303، 304)، ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/447). .
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) .
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
أي: فَسِيُروا واذهَبُوا- أيُّها المُشرِكونَ- في أرضِ اللهِ أينَما شِئتُم، آمِنينَ مُدَّةَ أربعةِ أشهُرٍ، لا يَنالُكم فيها مِن المُسلِمينَ سُوءٌ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/319)، ((تفسير ابن عطية)) (3/4، 5)، ((تفسير الرازي)) (15/524)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/68)، ((تفسير ابن كثير)) (4/102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 328)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/106)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/250). قال ابنُ عطية: (وأوَّلُ هذا الأجَلِ: يومُ النَّحرِ، وآخِرُه: يومُ العاشِرِ مِن ربيع الآخر). ((تفسير ابن عطية)) (3/4-5)، وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ تيميَّة، وابنُ القيِّم. يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) (2/881-882). وقال الشنقيطي: (محلُّ ذلك إنَّما هو في أصحابِ العُهودِ المُطلَقةِ غيرِ المُوَقَّتةِ بوقتٍ مُعَيَّنٍ، أو من كانت مُدَّةُ عَهدِه المُوَقَّتِ أقلَّ مِن أربعة أشهُرٍ، فتَكمُلُ له أربعةُ أشهرٍ، أمَّا أصحابُ العُهودِ المُوَقَّتةِ الباقي مِن مُدَّتِها أكثَرُ مِن أربعةِ أشهُرٍ، فإنَّه يجِبُ لهم إتمامُ مُدَّتِهم). ((أضواء البيان)) (2/113). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/311)، ((تفسير ابن كثير)) (4/102). .
وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّكم إن اختَرْتُم الاستمرارَ على الكُفرِ في مُدَّةِ عَهْدِكم- وأنتم آمِنونَ فيها مِن المُسلِمينَ- غيرُ فائِتينَ مِن عِقابِ اللهِ إن أرادَه بكم؛ فأنتُم على أرضِه وفي سُلطانِه، وتَحتَ قُدرَتِه، فبادِرُوا بالتَّوبةِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/320)، ((تفسير ابن عطية)) (3/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 328). .
وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافرينَ في الدُّنيا والآخِرةِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/320)، ((الوسيط)) للواحدي (2/476)، ((تفسير ابن عطية)) (3/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 328). .

الفوائد التربوية :

 قَوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ فيه ضَمانٌ مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ بِنَصرِه المُؤمِنينَ على الكافِرينَ [21] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/429). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ افتُتِحَت السُّورةُ- كما تُفتَتَحُ العُهودُ وصُكوكُ العُقودِ- بأدَلِّ كَلِمةٍ على الغَرَض الذي يُرادُ منها، كما في قَولِهم: هذا ما عَهِدَ به فلانٌ، وهذا ما اصطَلَحَ عليه فُلانٌ وفُلانٌ، وقَولِ المُوَثِّقينَ: باع أو وكَّل أو تزوَّجَ، وذلك هو مقتضى الحالِ في إنشاءِ الرَّسائِلِ والمواثيقِ ونَحوِها [22] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/102). .
2- قال الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أعلَنَ اللهُ لِهَؤلاء هذه البَراءةَ؛ لِيَأخُذوا حِذْرَهم، وفي ذلك تضييقٌ عليهم إن داموا على الشِّركِ؛ لأنَّ الأرضَ صارَت لأهلِ الإسلامِ، كما دلَّ عليه قولُه تعالى بَعدُ: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/104). [التوبة: 3] .
3- قَولُ الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ لَمَّا كان الأمرُ بهذا السَّيرِ مُفرَّعًا على البراءةِ مِن العَهدِ، ومُقرِّرًا لِحُرمةِ الأشهُرِ الحُرُم؛ عُلِمَ أنَّ المُرادَ السَّيرُ بأمنٍ دُونَ خَوفٍ في أيِّ مكانٍ مِن الأرضِ، وليس هو سَيرَهم في أرضِ قَومِهم؛ دلَّ على ذلك إطلاقُ السِّياحةِ وإطلاقُ الأرضِ، فكان المعنى: فَسِيحُوا آمِنينَ حيثُما شِئتُم من الأرضِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/105). .
4- قال اللهُ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ أنذَرَ المُعاهَدينَ في مُدَّةِ عَهدِهم، أنَّهم وإن كانوا آمِنينَ، فإنَّهم لن يُعجِزوا اللهَ ولن يَفُوتُوه، وأنَّه مَن استمَرَّ منهم على شِركِه فإنَّه لا بُدَّ أن يُخزِيَه، فكان هذا ممَّا يَجلِبُهم إلى الدُّخولِ في الإسلامِ، إلَّا مَن عاند وأصَرَّ، ولم يُبالِ بِوَعيدِ اللهِ له [25] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 328). .
5- المقصودُ مِن قَولِه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أمورٌ: الأولُ: أن يتفَكَّروا لأنفُسِهم ويَحتاطوا في هذا الأمرِ. والثاني: لئلَّا يُنسَبَ المُسلِمونَ إلى نَكثِ العَهدِ. والثالث: أراد اللهُ أن يعُمَّ جميعَ المُشرِكينَ بالجهادِ، فعَمَّ الكُلَّ بالبراءةِ، وأجَّلَهم أربعةَ أشهُرٍ؛ وذلك لقُوَّةِ الإسلامِ، وتخويفِ الكُفَّارِ، ولا يصِحُّ ذلك إلَّا بنَقْضِ العُهودِ. والرابع: أراد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحُجَّ في السَّنةِ الآتيةِ، فأمَرَ بإظهارِ هذه البَراءةِ؛ لئلَّا يُشاهِدَ العُراةَ [26] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/524). .
6- في قَول اللهِ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمَّا كانت السِّياحةُ تُطلَقُ على غَيرِ السَّيرِ، حقَّقَ المعنى بِقَولِه: فِي الْأَرْضِ [27] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/371). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ لَمَّا كان الإسلامُ قد ظهَرَ بعد أن كان خَفِيًّا، وقَوِيَ بعد أن كان ضعيفًا، افتتَحَ تعالى وَعْظَهم بالكلمةِ التي تُقالُ أوَّلًا لِمَن يُرادُ تَقريعُ سَمْعِه وإيقاظُ قَلْبِه، وتَنبيهُه على أنَّ ما بَعدَها أمرٌ مُهِمٌّ، ينبغي مَزيدُ الاعتناءِ به، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ [28] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/371). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- قولُه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ فيه إيثارُ الجُملةِ الاسميَّة على الفِعليَّة- فلم يُعبَّر بالجُملةِ الفِعليَّة، كأنْ يُقال: (قد بَرِئ اللهُ ورسولُه من الذين .. أو نحوُ ذلك)-؛ للدَّلالةِ على دَوامِ هذه البَراءةِ واستمرارِها، وللتَّوسُّل إلى تَهويلِها بالتنوينِ التَّفخيميِّ [29] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/40). .
2- قَولُه تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ
- قولُه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فيه تلوينُ الخِطابِ بصَرْفه عن المُسلِمينَ، وتَوجيهِه إلى المُشرِكينَ مع حُصولِ المقصودِ بصِيغةِ أَمْرِ الغائبِ (فَلْيَسيحوا) أيضًا؛ للمُبالغةِ في الإعلامِ بالإمهالِ حسْمًا لمادةِ تَعلُّلهم بالغفلةِ، وقطعًا لشأفةِ اعْتِذارهم بعدمِ الاستعدادِ [30] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/40). ، وهو التفاتٌ من غَيْبة إلى خطابٍ، وفي ضِمنِهِ تهديدٌ [31] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/367). .
- وإيثارُ صيغةِ الأمرِ في قولِه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ مع تَسنِّي إفادةِ ذلك المعنى بطريقِ الإخبارِ أيضًا- كأن يُقال مثلًا: فلكم أنْ تَسيحوا، أو نحو ذلك-؛ لإظهارِ كَمالِ القُوَّةِ والغَلَبةِ، وعَدمِ الاكْتِراثِ لهم ولاستعدادِهم، فكأنَّ ذلك أمْرٌ مَطلوبٌ منهم [32] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/40). .
- وذُكِر فِي الْأَرْضِ؛ لقَصْدِ التَّعميمِ لأقطارِ الأرضِ من دارِ الإسلامِ وغيرِها [33] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/40). .
- قولُه: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ فيه وضْعُ الاسمِ الجَليلِ مَوضِعَ المُضْمَر- حيثُ لم يَقُل: (وأنَّه)-؛ لتربيةِ المهابةِ، وتَهويلِ أمْرِ الإخزاءِ، وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعارٌ، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ أيضًا في قولِه: مُخْزِي الْكَافِرِينَ- حيثُ لم يَقُلْ: (وأنَّ اللهَ مُخْزيكم)-؛ لذمِّهم بالكفرِ بعدَ وصْفِهم بالإشراكِ، والإشعارِ بأنَّ عِلَّةَ الإخزاءِ هي كُفرُهم [34] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/41). .