الموسوعة الحديثية


- . . . وإذا أردت بعبادِك فتنةً فاقبضْني إليك غيرَ مفتونٍ
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الألباني | المصدر : إرواء الغليل | الصفحة أو الرقم : 684 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه الترمذي (3233) بلفظه، وأحمد (3484)، وعبد بن حميد في ((المنتخب-صبحي السامرائي)) (682) باختلاف يسير.
كرَّمَ اللهُ سُبحانه وتَعالى نَبيَّه محمَّدًا، وأطْلَعَه على كثيرٍ مِن المعارِفِ والغيبيَّاتِ التي تَدورُ في الملَأِ الأعْلى.
وهذا المتْنُ جُزءٌ مِن حديثٍ طويلٍ عندَ التِّرمذيِّ يَجمَعُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعضًا مِن الأعمالِ الصالحةِ التي أطْلَعَه اللهُ تعالى عليها، وتكونُ سَببًا لِغُفرانِ الذُّنوبِ؛ فيقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أتاني اللَّيلةَ ربِّي تَبارك وتَعالى في أحسَنِ صُورةٍ -قال: أحسَبُه قال: في المنامِ-"، أي: إنَّه أثناءَ استِثْقالِه في النَّومِ رأى ربَّه سُبحانه وتَعالى، وقولُه: (تَبارك وتَعالى) فيه إشارةٌ إلى التَّنزيهِ عمَّا لا يَلِيقُ به سُبحانه، "فقال: يا محمَّدُ، هلْ تَدْري فِيمَ يَختصِمُ الملأُ الأعلى؟" أي: فِيمَ يَبحَثون ويَتجادَلون؟ والملأُ الأعلى: الأشرافُ مِن الملائكةِ المقرَّبينَ، "قلتُ: لا"، وفي رِوايةٍ عندَ التِّرمذيِّ مِن حديثِ مُعاذٍ أنَّه "قالَها ثلاثًا"، أي: جعَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ يَسأَلُه هذا السُّؤالَ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ وذلك لبَيانِ أهمِّيَّتِه، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فوضَعَ يَدَه بيْن كَتِفيَّ حتَّى وجَدْتُ بَرْدَها بيْن ثَدْيَيَّ"، أي: على صَدْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "أو قال: في نَحْري"، أي: أسفَلَ الرَّقبةِ وأعلى الصَّدْرِ، والمرادُ: شَعَرْتُ ببَرْدِها على قَلْبي وصَدْري، كأنَّه أرادَ بذلك أنْ يَضَعَ الفَيضَ في قلْبِه بنُزولِ الرَّحمةِ، وانْصِبابِ العُلومِ عليه، وهذا مِن تَخْصيصِه إيَّاه بمَزيدِ الفضْلِ عليه، ووَضْعُ اليدِ نُؤمِنُ به مِن غيرِ تَكييفٍ، ولا تَمثيلٍ، ولا تَعطيلٍ، ولا نُفسِّرُه بما يُفسَّرُ به صِفاتُ الخَلْقِ، بلْ يُوكَلُ عِلمُ الكيفيَّةِ إلى اللهِ تعالى، "فعلِمْتُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ"، والمعنى: أنَّ اللهَ تعالى وضَعَ في قلْبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِلمَ ما أرادَ له أنْ يَعلَمَه، فقال اللهُ سُبحانه وتَعالى: "يا محمَّدُ، هل تَدْري فِيمَ يَختصِمُ الملأُ الأعلى؟" أي: أعادَ عليه ربُّه سبحانَه السُّؤالَ بعدَما انكشَفَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شأْنُ ما يَتحدَّثون فيه، "قلْتُ: نعمْ؛ في الكفَّاراتِ"، أي: يَبحَثون ويَتكلَّمون في الكفَّاراتِ، والمرادُ: بها هنا بعضُ العِباداتِ التي يَغفِرُ ويَمحو اللهُ عزَّ وجلَّ بها الذُّنوبَ والسَّيِّئاتِ، وقد فَسَّرَها بقولِه: "والكفَّاراتُ: المُكثُ في المساجدِ بعدَ الصَّلواتِ"، أي: الانتظارُ في المساجِدِ بعدَ الصَّلاةِ للذِّكرِ والطاعاتِ، وقيل: لانتظارِ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ، "والمشْيُ على الأقدامِ إلى الجَماعاتِ"، والمرادُ بها صلاةُ الجماعةِ بالمسجدِ؛ لأنَّ الماشِيَ لها -كما ثبَتَ في غيرِ تلك الرِّوايةِ-: "لم يَخْطُ خُطوةً إلَّا رفَعَه اللهُ بها درَجةً، وحطَّ عنه خطيئةً، حتى يَدخُلَ المسجِدَ".
"وإسباغُ الوُضوءِ في المكارِهِ"، وهو أنْ يُبالِغَ في وُصولِ الماءِ إلى الأعضاءِ، وخاصَّةً في البَرْدِ الشَّديدِ، "ومَن فعَلَ ذلك عاشَ بخَيرٍ"، أي: عاشَ حَياتَه في الدُّنيا في خَيرٍ وطاعةٍ، "ومات بخَيرٍ" على طاعةِ اللهِ وبحُسنِ الخاتمةِ، "وكان مِن خَطيئتِه كيَومِ ولَدَتْه أُمُّه"، أي: خرَجَ مِن ذُنوبِه كلِّها وغفَرَها اللهُ له، فكان خاليًا منها كيَومِ ولَدَتْه أُمُّه، "وقال: يا محمَّدُ، إذا صلَّيْتَ فقُلْ"، أي: في دُعائِك في الصَّلاةِ: "اللَّهمَّ إنِّي أَسأَلُك فِعلَ الخيراتِ"، أي: أطلُبُ منك العَونَ على إقامةِ أوامرِ الدِّينِ والأعمالِ الصالحةِ، "وترْكَ المنكَراتِ"، أي: الأعمالَ المَنْهيَّ عنها مِن أقوالٍ وأفعالٍ تُوجِبُ الذُّنوبَ على صاحبِها، "وحُبَّ المساكينِ"، أي: حُبَّ الفُقراءِ والعطْفَ عليهم. وقِيل: المرادُ بالمساكينِ هنا مَن كان قلْبُه مُستكينًا للهِ، خاضعًا خاشِعًا له؛ ولأنَّ المساكينَ ليس عندهم مِن الدُّنيا ما يُوجِبُ مَحبَّتَهم لأجْلِه، فلا يُحَبُّون إلَّا للهِ عزَّ وجلَّ، والحُبُّ في اللهِ مِن أوثَقِ عُرى الإيمانِ؛ وذلك أنَّ المُحِبَّ لهم يَقرَبُ أنْ يَعمَلَ بعَمَلِهم، "وإذا أردْتَ بعِبادِك فِتنةً"، أي: ضلالةً أو عُقوبةً دُنيويَّةً، "فاقْبِضني إليك غيرَ مَفتونٍ"، أي: تَوفَّني دونَ أنْ تَشمَلَني تلك الضَّلالةُ أو العُقوبةُ.
"قال: والدَّرجاتُ" والمرادُ رَفعُ الدَّرجاتِ يكونُ بأُمورٍ، وهي: "إفشاءُ السَّلامِ"، أي: نشْرُه والإكثارُ منه، والسلامُ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإفشاؤه طريقٌ مُوصِلٌ للمَحبَّةِ بيْن المسلمينَ، التي هي سببٌ لدُخولِ جَنَّةِ الخُلدِ، والسَّلامُ هو التَّحيَّةُ المبارَكةُ بيْن هذه الأُمَّةِ، الذي يَنْبغي تَعميمُه على مَن يَعرِفُه الإنسانُ ومَن لم يَعرِفْه؛ حتى يكونَ خالِصًا للهِ تعالى، "وإطعامُ الطَّعامِ"، أي: للمُحتاجِ والفقيرِ، ويَدخُلُ فيه إطعامُ الضَّيفِ والإحسانُ إليه؛ لأنَّ إطعامَ الطَّعامِ به قِوامُ الأبدانِ، وتَزدادُ فَضيلةُ إطعامِ الطَّعامِ وبَذلِه في الوقتِ الذي تَزدادُ الحاجةُ إليه؛ قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]، أي: في وَقتٍ فيه شِدَّةُ جُوعٍ، كما أنَّ إطعامَ الطَّعامِ للضَّيفِ مِن كَمالِ الإيمانِ، "والصلاةُ باللَّيلِ والناسُ نِيامٌ"، أي: قِيامُ اللَّيلِ بالنَّوافلِ والتَّهجُّدِ، كما قالَ اللهُ تعالى واصفًا عِبادَه المؤمنينَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].
وفي الحَديثِ: إثباتُ رُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للهِ عزَّ وجلَّ في رُؤيا مِن مَنامِه.
وفيه: إثباتُ أنَّ للهِ تعالى يَدًا على الوَجْهِ الذي يَلِيقُ بذاتِه وجَلالِه.
وفيه: الحثُّ على قِيامِ اللَّيلِ، والأخْذِ بالأسبابِ المُعِينةِ على ذلك.
وفيه: أنَّ الطَّاعاتِ الخالصةَ لوجْهِ اللهِ تكونُ سبيلًا إلى مَغفرةِ الذُّنوبِ .