الموسوعة الحديثية


- لَمْ أَنْهَ عنِ البُكاءِ ، إِنَّما نَهَيْتُ عَنْ صوتَيْنِ أحمقَينِ فاجريْنِ ، صوتٌ عند نغَمَةٍ مزمارُ شيطانٍ ولَعِبٌ ، و صوتٌ عندَ مصيبةٍ ، خمشُ وجوهٍ ، وشقُّ جيوبٍ ، و رنَّةُ الشيطانِ ، وإِنَّما هذِهِ رحمةٌ
الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 5194 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه الترمذي (1005)، وابن أبي شيبة (12251)، وعبد بن حميد (1004) مطولا باختلاف يسير
أكثَرُ النَّاسِ بلاءً هم الأنبياءُ، وكان نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أكثَرَ الأنبياءِ بلاءً؛ حتى إنَّه ابتُلِيَ في كُلِّ أولادِه جميعًا؛ فلم يَبْقَ منهم أحدٌ حيًّا إلَّا فاطِمَةُ.
وهذه الرِّوايةُ جزءٌ مِن حديثٍ -كما عندَ البيهقيِّ- وفيه يقولُ جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما: خرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى النَّخْلِ، ومعه عبدُ الرحمنِ بنُ عَوفٍ، وذَهَبَ به إلى ابنِه إبراهيمَ، وهو يُعالِجُ سَكراتِ المَوتِ، وكان عُمرُ إبراهيمَ وَقتَها ثمانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، قال: "فإذا ابنُه يَجودُ بنَفْسِه"، أي: يُخرِجُها ويَدفَعُها كما يَدفَعُ الإنسانُ مالَه، وهذا كِنايةٌ عن الاحتِضارِ والمَوتِ، "فأخَذه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حِجْرِه فَبَكى"، أي: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا رَأى حالةَ وَلَدِه تلك أخَذه ورفَعَه وجعَله في حِجْرِه، ونَظَرَ إليه النَّظَراتِ الأخيرةَ، وهو يرَى سَكَراتِ المَوتِ على وَجْهِه، فبَكَى ودَمَعتْ عَينُه، فقال له عبدُ الرَّحمنِ: "أَتَبْكي يا رسولَ اللهِ، وأنتَ تَنْهى عن البُكاءِ؟" فعَجِبَ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوفٍ لَمَّا رَأى حالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَأى بُكاءَه، ولِسانُ حالِه يقولُ: يا رسولَ اللهِ، النَّاس لا يَصْبِرون وأنتَ تَفعَلُ كفِعْلِهم، فكأنَّه تعجَّبَ منه مع ما عَهِدَه عليه من الحَثِّ على الصَّبْرِ والنَّهْيِ عن الجَزَعِ؛ فكان ردُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنِّي لم أَنْهَ عن البُكاءِ"، أي: البُكاءِ المجرَّدِ الذي لا يَصحَبُه أيُّ نوعٍ مِن أنواعِ المخالفاتِ الشرعيَّةِ في الأقوالِ والأفعالِ في الحُزنِ أو الفَرحِ؛ "إنَّما نَهَيتُ عن صَوتَينِ أحْمَقينِ فاجِرَينِ"، ثم فسَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ووضَّح ما أجْمَلَه في هَذيْنِ الصَّوْتينِ، فقال: "صَوتٌ عندَ لَهْوٍ ولَعِبٍ" وقَصَدَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الغِناءَ المُحرَّمَ الذي يَصدُرُ عندَ اللَّهْوِ واللَّعِبِ، وزادَ في ذَمِّه وانتِقاصِه، فقال: "ومَزاميرِ الشَّيْطانِ"، ونُسِبَ إلى الشَّيْطانِ دَلالةً على التَّحْقيرِ والذَّمِّ والانتِقاصِ، هذا هو الصَّوتُ الأوَّلُ الذي نَهى عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمَّا الصَّوتُ الثاني، فهو الذي عبَّر عنه بقَولِه: "وصَوتٌ عندَ مُصيبةٍ"، أي: الصَّوتُ التي يَصدُرُ عندَ وُقوعِ المَصائِبِ، وهي التي تُعبِّرُ عن السَّخَطِ وعَدَمِ الرِّضا بقَضاءِ اللهِ، وضرَب لها أمْثِلَةٍ، فقال: "خَمْشِ وُجوهٍ"، أي: تَقْشيرِ الوُجوهِ بالأظافِرِ، "وشَقِّ الجُيوبِ" جَمْعُ جَيبٍ، وهو ما يُفتَحُ مِن الثَّوبِ ليُدخِلَ فيه الرَّأْسَ، أي: وشَقِّ ثيابِه مِن شِدَّة الجَزَعِ، "ورَنَّةِ شَيْطانٍ"، أي: الصَّيْحةِ، وقيل: الغِناءُ، ولا شكَّ أنَّ هذا كُلَّه يُعبِّرُ عمَّا في النَّفْسِ من عَدَمِ الرِّضا بقَضاءِ اللهِ تَعالى، ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإنَّما هذه رحمةٌ"، أي: إنَّ ما تُشاهِدُه أَثَرٌ من آثارِ الرَّحْمَةِ ليس أثرًا من آثارِ السَّخَطِ؛ فإنَّها في القُلوبِ.
وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ البُكاءِ والحُزنِ عِندَ المصيبةِ مع الصَّبرِ عليها، مع البُعدِ عمَّا يَصحَبُ ذلك مِن نَوحٍ وشقٍّ للثِّيابِ ونحوِ ذلك( ).