الموسوعة الحديثية


-  أنَّهُ كانَ يَحْمِلُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وحَاجَتِهِ، فَبيْنَما هو يَتْبَعُهُ بهَا، فَقالَ: مَن هذا؟ فَقالَ: أنَا أبو هُرَيْرَةَ، فَقالَ: ابْغِنِي أحْجَارًا أسْتَنْفِضْ بهَا، ولَا تَأْتِنِي بعَظْمٍ ولَا برَوْثَةٍ. فأتَيْتُهُ بأَحْجَارٍ أحْمِلُهَا في طَرَفِ ثَوْبِي حتَّى وضَعْتُهَا إلى جَنْبِهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، حتَّى إذَا فَرَغَ مَشيتُ، فَقُلتُ: ما بَالُ العَظْمِ والرَّوْثَةِ؟ قالَ: هُما مِن طَعَامِ الجِنِّ، وإنَّه أتَانِي وفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ -ونِعْمَ الجِنُّ- فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لهمْ أنْ لا يَمُرُّوا بعَظْمٍ ولَا برَوْثَةٍ إلَّا وجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا.
الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 3860 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
دَعْوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورِسالتُه عامَّةٌ للجِنِّ والإنْسِ، وقدْ آمَنَ نَفرٌ مِن الجِنِّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَرأَ عليهمُ القُرآنَ، كما ذكَر اللهُ تعالَى ذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان يَحمِلُ معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إداوةً -وهي إناءٌ صَغيرٌ مِن جِلدٍ، يُتَّخذُ لحِفظِ الماءِ- لوُضوئِه وحاجَتِه، وهو كِنايةٌ عنِ البَوْلِ والبَرازِ، فبيْنَما هو يَتبَعُه بها، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن هذا؟» فقال: أنا أبو هُرَيْرةَ، فقال: «ابْغِني»، أيِ: اطلُبْ لي أحْجارًا، «أستَنفِضْ»، أي: أستَنْجِ بها، وهو استِخدامُ الأحْجارِ لإزالةِ أثَرِ البَولِ والبَرازِ مِن مَواضِعِ خُروجِهما، «ولا تَأْتِني بعَظْمٍ، ولا برَوْثةٍ»، وهي فَضَلاتُ البَهائمِ والدَّوابِّ، فجاءَه أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه بأحْجارٍ يَحمِلُها في طرَفِ ثَوْبِه، ووضَعَها بجِوارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ ابتَعَدَ عنه، حتَّى إذا فرَغ مِن حاجَتِه مشَى معَه، فقال له: «يا رَسولَ اللهِ، ما بالُ العَظْمِ والرَّوْثةِ؟»، أي: اسْتِثْناؤُهما في الاسْتِنْجاءِ بهما لماذا؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هما مِن طَعامِ الجِنِّ، والجِنُّ هم خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، خلَقَهم مِن نارٍ، وهم نَوعٌ منَ الأرْواحِ العاقِلةِ، المُكلَّفةِ على نَحوِ ما عليه الإنْسانُ، مُجرَّدونَ عنِ المادَّةِ، مُستَتِرونَ عنِ الحَواسِّ، لا يُرَوْنَ على طَبيعَتِهم ولا بصُورَتِهمُ الحَقيقيَّةِ، ولهم قُدرةٌ على التَّشكُّلِ، يَأكُلونَ، ويَشرَبونَ، ويَتَناكَحونَ، ولهم ذُرِّيَّةٌ، مُحاسَبونَ على أعْمالهم في الآخِرةِ.
وأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه جاءَه وفْدٌ مِن جِنِّ نَصِيبِينَ، وهي بَلدةٌ بالجَزيرةِ بيْنَ الشَّامِ والعِراقِ، وقيلَ: باليَمَنِ، وجِنُّها سَاداتُ الجِنِّ، وقد أثْنى عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال عنهم: «ونِعمَ الجِنُّ»! وقد سَأَلوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الزَّادَ، وهذا يَحتمِلُ أنْ يكونَ وقَعَ في هذه اللَّيلةِ، أو وقَعَ فيما مَضَى، فدَعا لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يمُرُّوا بعَظْمٍ، ولا رَوْثةٍ إلَّا وَجَدوا عليها طَعامًا.
وذُكِرَ في سبَبِ مَدْحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للجِنِّ بقولِه: «ونِعْمَ الجِنُّ»، ما رَواه التِّرمِذيُّ عن جابرٍ قال: «خرَج رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أصْحابِه، فقَرأَ عليهم سُورةَ الرَّحمَنِ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، فسَكَتوا، فقال: لقد قَرأْتُها على الجِنِّ ليلةَ الجِنِّ، فكانوا أحسَنَ مَرْدودًا منكم؛ كُنتُ كلَّما أتَيْتُ على قولِه: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قالوا: لا بشَيءٍ مِن نِعَمِكَ ربَّنا نُكذِّبُ، فلكَ الحَمدُ».
وقدْ وفَدَ الجِنُّ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أكثَرَ مِن مرَّةٍ؛ فأحْيانًا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعلَمُ بوُجودِهم ويُحدِّثُهم، كما في هذا الحَديثِ، وأحْيانًا لا يَشعُرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك.
وفي الحَديثِ: ما يدُلُّ على لُطفِ اللهِ بالآدَميِّينَ؛ لأنَّه اخْتارَ لهم لُبابَ الأشْياءِ، وجعَل ما لم يَختَرْه لهم -كالعِظامِ- زادًا لإخْوانِهم مِنَ الجِنِّ.
وفيه: ما يدُلُّ على حُسنِ صُحْبةِ أصْحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: النَّهيُ عن الاسْتِنْجاءِ والاسْتِطابةِ بالعَظْمِ والرَّوْثِ.