الموسوعة الحديثية


-  عَنْ مُجاهِدٍ، قُلتُ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما: إنِّي أُرِيدُ أنْ أُهاجِرَ إلى الشَّأْمِ، قالَ: لا هِجْرَةَ، ولَكِنْ جِهادٌ، فانْطَلِقْ فاعْرِضْ نَفْسَكَ، فإنْ وجَدْتَ شيئًا، وإلَّا رَجَعْتَ. وقالَ النَّضْرُ: أخْبَرَنا شُعْبَةُ، أخْبَرَنا أبو بشْرٍ، سَمِعْتُ مُجاهِدًا، قُلتُ لِابْنِ عُمَرَ: فقالَ: لا هِجْرَةَ اليومَ، أوْ بَعْدَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِثْلَهُ.
الراوي : مجاهد بن جبر المكي | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 4309 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] [قوله: وَقَالَ النَّضْرُ... معلق]
الهِجْرةُ مِن مكَّةَ إلى المَدينةِ انقَطَعَ حُكمُها بعْدَ فَتحِ مكَّةَ، وأمَّا الجِهادُ فهو فَريضةٌ ماضيةٌ في الأُمَّةِ إلى قيامِ السَّاعةِ، ولا يَنقَطِعُ عن هذه الأُمَّةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي التَّابِعيُّ مُجاهدُ بنُ جَبرٍ أنَّه أخبَرَ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عن رَغبَتِه وإرادَتِه الهِجْرةَ إلى الشَّامِ، وهو اسمٌ تاريخيٌّ لجُزءٍ مِنَ المَشرِقِ العَربيِّ يَمتَدُّ على السَّاحِلِ الشَّرقيِّ للبَحرِ الأبيَضِ المُتوسِّطِ إلى حُدودِ بلادِ الرَّافِدَينِ؛ العِراقِ، وتُشكِّلُ هذه المِنطَقةُ اليومَ بالمَفْهومِ الحَديثِ كلًّا مِن: سوريَّةَ، ولُبنانَ، والأُردُنَّ، وفِلَسطينَ التَّاريخيَّةَ، بالإضافةِ إلى مَناطقَ حُدوديَّةٍ مُجاوِرةٍ مِثلِ مِنطَقةِ الجَوفِ، ومِنطَقةِ الحُدودِ الشَّماليَّةِ في المَملَكةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّةِ، وتَشمَلُ قِسمًا مِن سَيْناءَ والمَوصِلِ، وعندَ البَعضِ فإنَّ المِنطَقةَ تتَّسِعُ لتَشمَلَ قُبرُصَ، وكاملَ سَيْناءَ، والجَزيرةَ الفُراتيَّةَ.
فأجابَه عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما بأنَّه لا هِجْرةَ الآنَ، أو لا هِجْرةَ بعْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبعْدَ أنْ فُتِحَتْ مكَّةُ، وظهَرَ الإسْلامُ، ولم يَبْقَ سِوى نِيَّةِ الجِهادِ المَفْروضِ على المُسلِمينَ عندَ نُزولِ العدُوِّ، أوِ إرادةِ الفَتحِ والغَزوِ؛ فالهِجْرةُ وجَبَتْ لمَعنيَيْنِ؛ أحَدُهما: نُصرةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّه كان في قِلَّةٍ، فوجَبَ على النَّاسِ النَّفيرُ إليه لنَصْرِه على أعْدائِه، والآخَرُ: لاقْتِباسِ العِلمِ، وفَهمِ الدِّينِ، وكان أعظَمُ المَخُوفِ عليهم مكَّةَ، فلمَّا فُتِحَتْ مكَّةُ أمِنَ المُسلِمونَ، وانتَشَرَ الدِّينُ، فقيلَ للنَّاسِ: قدِ انقَطَعتِ الهِجْرةُ، وبَقيَتْ نِيَّةُ المُجاهَدةِ، وقد ورَدَ هذا اللَّفظُ: «لا هِجْرةَ بعدَ الفَتحِ» مَرْفوعًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أكثَرَ مِن حَديثٍ في الصَّحيحَينِ وغَيرِهما، وهو يَتضمَّنُ بِشارةً منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ مكَّةَ ستَستَمِرُّ دارَ إسْلامٍ أبَدًا؛ لأنَّه نَفى أنْ يَكونَ هناك هِجْرةٌ بعدَ فَتحِها، وهذا يدُلُّ على أنَّها لن تَعودَ دارَ كُفرٍ مرَّةً أُخْرى؛ إذِ الهِجرةُ لا تَكونُ إلَّا مِن دارِ الكُفرِ.
ثمَّ أرشَدَ ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما مُجاهِدًا، فقال له: «انطَلِقْ، فاعْرِضْ نفْسَكَ» للجِهادِ، فإنْ وجَدْتَ شيئًا مِنَ الجِهادِ، أو منَ القُدرةِ عليه؛ فجاهِدْ، وإنْ لم تَجِدْ شيئًا مِن ذلك، رجَعْتَ ثانيةً إلى مُقامِكَ ومَوطِنِكَ.