الموسوعة الحديثية


- أرسَل إليَّ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ فقال : إنَّه قد حضَر المدينةَ أهلُ أبياتٍ مِن قومِك وإنَّا قد أمَرْنا لهم برَضْخٍ فاقسِمْه بَيْنَهم فقُلْتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ مُرْ بذلك غيري فقال : اقبِضْ أيُّها المَرْءُ قال : فبَيْنا أنا كذلك إذ جاءه مولاه يرفَأُ فقال : هذا عُثمانُ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ والزُّبيرُ بنُ العوَّامِ قال : ولا أدري أذكَر طلحةَ أم لا يستأذِنونَ عليك قال : ائذَنْ لهم قال : ثمَّ مكَث ساعةً ثمَّ جاء فقال : العبَّاسُ وعليٌّ يستأذِنانِ عليك فقال : ائذَنْ لهما : فلمَّا دخَل العبَّاسُ قال : يا أميرَ المُؤمِنينَ اقضِ بَيْني وبيْنَ هذا هما حينَئذٍ يختَصِمانِ فيما أفاء اللهُ على رسولِه مِن أموالِ بني النَّضيرِ فقال القومُ : اقضِ بَيْنَهما يا أميرَ المُؤمِنينَ وأرِحْ كلَّ واحدٍ منهما مِن صاحبِه فقد طالَتْ خصومتُهما فقال عُمَرُ : أنشُدُكما اللهَ الَّذي بإذنِه تقومُ السَّمواتُ والأرضُ أتعلَمونَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : ( لا نُورَثُ ما ترَكْنا صدقةٌ ) قالوا : قد قال ذاك ثمَّ قال لهما مِثْلَ ذلك فقالا : نَعم قال : فإنِّي أُخبِرُكم عن هذا الفيءِ إنَّ اللهَ جلَّ وعلا خصَّ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشيءٍ لم يُعطِه غيرَه فقال : {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] فكانت هذه لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً واللهِ ما حازها دونَكم ولا استأثَرها عليكم لقد قسَمها بَيْنَكم وبثَّها فيكم حتَّى بقي ما بقي مِن المالِ فكان يُنفِقُ على أهلِه سَنةً ـ وربَّما قال مَعمَرٌ : يحبِسُ منها قُوتَ أهلِه سَنةً ـ ثمَّ يجعَلُ ما بقي مَجعَلَ مالِ اللهِ فلمَّا قبَض اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال أبو بكرٍ : أنا أَولى برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَه أعمَلُ فيها ما كان يعمَلُ ثمَّ أقبَل على علِيٍّ والعبَّاسِ قال : وأنتما تزعُمانِ أنَّه كان فيها ظالِمًا فاجرًا واللهُ يعلَمُ أنَّه صادقٌ بارٌّ تابِعٌ لِلحقِّ ثمَّ وُلِّيتُها بعدَ أبي بكرٍ سنَتينِ مِن إمارتي فعمِلْتُ فيها بمِثلِ ما عمِل فيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ وأنتما تزعُمانِ أنِّي فيها ظالمٌ فاجرٌ واللهُ يعلَمُ أنِّي فيها صادقٌ بارٌّ تابعٌ لِلحقِّ ثمَّ جِئْتُماني جاءني هذا ـ يعني العبَّاسَ ـ يبتغي ميراثَه مِن ابنِ أخيه وجاءني هذا ـ يعني عليًّا ـ يسأَلُني ميراثَ امرأتِه فقُلْتُ لكما : إنِّي سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : ( لا نُورَثُ ما ترَكْنا صدقةٌ ) ثمَّ بدا لي أنْ أدفَعَه إليكما فأخَذْتُ عليكما عهدَ اللهِ وميثاقَه لَتَعمَلانِّ فيها بما عمِل فيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ وأنا ما وُلِّيتُها فقُلْتُما : ادفَعْها إلينا على ذلك تُريدانِ منِّي قضاءً غيرَ هذا والَّذي بإذنِه تقومُ السَّمواتُ والأرضُ لا أقضي بَيْنَكما فيها بقضاءٍ غيرِ هذا إنْ كُنْتُما عجَزْتُما عنها فادفَعاها إليَّ قال : فغلَب علِيٌّ عليها فكانت في يدِ علِيٍّ ثمَّ بيَدِ حسَنِ بنِ علِيٍّ ثمَّ بيَدِ حُسينِ بنِ علِيٍّ ثمَّ بيَدِ علِيِّ بنِ حُسينٍ ثمَّ بيَدِ حَسَنِ بنِ حَسَنٍ ثمَّ بيَدِ زيدِ بنِ حَسَنٍ قال مَعمَرٌ : ثمَّ كانت بيَدِ عبدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم : 6608 | خلاصة حكم المحدث : صحيح

بيْنَا أَنَا جَالِسٌ في أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ، إذَا رَسولُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ يَأْتِينِي، فَقالَ: أَجِبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فَانْطَلَقْتُ معهُ حتَّى أَدْخُلَ علَى عُمَرَ، فَإِذَا هو جَالِسٌ علَى رِمَالِ سَرِيرٍ، ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ فِرَاشٌ، مُتَّكِئٌ علَى وِسَادَةٍ مِن أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ عليه، ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقالَ: يا مَالِ، إنَّه قَدِمَ عَلَيْنَا مِن قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ، وقدْ أَمَرْتُ فيهم برَضْخٍ، فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بيْنَهُمْ. فَقُلتُ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لو أَمَرْتَ به غيرِي. قالَ: اقْبِضْهُ أَيُّهَا المَرْءُ. فَبيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقالَ: هلْ لكَ في عُثْمَانَ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، والزُّبَيْرِ، وسَعْدِ بنِ أَبِي وقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قالَ: نَعَمْ. فأذِنَ لهمْ، فَدَخَلُوا، فَسَلَّمُوا وجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا، ثُمَّ قالَ: هلْ لكَ في عَلِيٍّ وعَبَّاسٍ؟ قالَ: نَعَمْ. فأذِنَ لهمَا، فَدَخَلَا، فَسَلَّما فَجَلَسَا، فَقالَ عَبَّاسٌ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وبيْنَ هذا. وهُما يَخْتَصِمَانِ فِيما أَفَاءَ اللَّهُ علَى رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مَالِ بَنِي النَّضِيرِ، فَقالَ الرَّهْطُ -عُثْمَانُ وأَصْحَابُهُ-: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اقْضِ بيْنَهُمَا، وأَرِحْ أَحَدَهُما مِنَ الآخَرِ. قالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ، أَنْشُدُكُمْ باللَّهِ الذي بإذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ والأرْضُ، هلْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: لا نُورَثُ، ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ. يُرِيدُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَفْسَهُ؟ قالَ الرَّهْطُ: قدْ قالَ ذلكَ. فأقْبَلَ عُمَرُ علَى عَلِيٍّ وعَبَّاسٍ، فَقالَ: أَنْشُدُكُما اللَّهَ، أَتَعْلَمَانِ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ قالَ ذلكَ؟ قالَا: قدْ قالَ ذلكَ. قالَ عُمَرُ: فإنِّي أُحَدِّثُكُمْ عن هذا الأمْرِ؛ إنَّ اللَّهَ قدْ خَصَّ رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الفَيْءِ بشَيءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، فَكَانَتْ هذِه خَالِصَةً لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللَّهِ ما احْتَازَهَا دُونَكُمْ، ولَا اسْتَأْثَرَ بهَا علَيْكُم، قدْ أَعْطَاكُمُوهَا وبَثَّهَا فِيكُمْ، حتَّى بَقِيَ منها هذا المَالُ، فَكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُنْفِقُ علَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِن هذا المَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ ما بَقِيَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ باللَّهِ، هلْ تَعْلَمُونَ ذلكَ؟ قالوا: نَعَمْ. ثُمَّ قالَ لِعَلِيٍّ وعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُما باللَّهِ، هلْ تَعْلَمَانِ ذلكَ؟ قالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بما عَمِلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّه فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِن إمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بما عَمِلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، واللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي، وكَلِمَتُكُما واحِدَةٌ، وأَمْرُكُما واحِدٌ، جِئْتَنِي يا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وجَاءَنِي هذا -يُرِيدُ عَلِيًّا- يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِن أَبِيهَا، فَقُلتُ لَكُمَا: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: لا نُورَثُ، ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ. فَلَمَّا بَدَا لي أَنْ أَدْفَعَهُ إلَيْكُمَا، قُلتُ: إنْ شِئْتُما دَفَعْتُهَا إلَيْكُمَا، علَى أنَّ عَلَيْكُما عَهْدَ اللَّهِ ومِيثَاقَهُ: لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بما عَمِلَ فِيهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبِما عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وبِما عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلتُمَا: ادْفَعْهَا إلَيْنَا، فَبِذلكَ دَفَعْتُهَا إلَيْكُمَا، فأنْشُدُكُمْ باللَّهِ، هلْ دَفَعْتُهَا إلَيْهِما بذلكَ؟ قالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ علَى عَلِيٍّ وعَبَّاسٍ، فَقالَ: أَنْشُدُكُما باللَّهِ، هلْ دَفَعْتُهَا إلَيْكُما بذلكَ؟ قالَا: نَعَمْ. قالَ: فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غيرَ ذلكَ؟! فَوَاللَّهِ الذي بإذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ والأرْضُ، لا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غيرَ ذلكَ، فإنْ عَجَزْتُما عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إلَيَّ؛ فإنِّي أَكْفِيكُمَاهَا.
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 3094 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

الفَيْءُ مِمَّا خَصَّ به اللهُ عزَّ وجلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الغَنائمِ، ممَّا لم يَقدِرْ عليه المُسلِمونَ بخَيلٍ ولا رِكابٍ، وقد أوضَحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يُفعَلُ فيه، وفي كُلِّ ما تَرَكَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ مَوتِه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ مالِكُ بنُ أوْسٍ -مُختَلَفٌ في صُحبَتِه- أنَّه بيْنَما هو جالِسٌ مع أهلِه حِين مَتَعَ النَّهارُ، أيِ: اشتَدَّ حَرُّه وارتفَعَ، إذْ أتاهُ رَسولُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يَطلُبُه لِمُقابَلةِ أميرِ المُؤمِنينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فذَهَبَ مالِكٌ مع رَسولِ عُمَرَ حتَّى دَخَلَ على عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، فإذا هُو جالِسٌ على رِمالِ سَريرِه، وهو ما يُنسَجُ مِن وَرَقِ النَّخيلِ لِيُضطَجَعَ عليه، وليسَ بيْنَه وبيْنَه فِراشٌ، مُتَّكِئٌ على وِسادةٍ مِن أدَمٍ، وهو الجِلدُ، فسَلَّمَ عليه مالِكٌ وجَلَسَ، فقال عُمَرُ: «يا مالِ» وهذا نِداءُ تَرخيمٍ يَدُلُّ على القُربِ القَلبيِّ والتَّوَدُّدِ في المُحادَثةِ، «إنَّه قَدِمَ علينا مِن قَومِكَ أهلُ أبياتٍ» قيلَ: كانوا مِن بَني نَصرِ بنِ مُعاويةَ بنِ أبي بَكرِ بنِ هَوازِنَ، وكان قدْ أصابَهم جَدْبٌ في بِلادِهم، فجاؤوا إلى المَدينةِ لِيَطلُبوا العَوْنَ والزَّادَ، ولذلك قدْ أمَرَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه فيهم برَضْخٍ، وهو عَطيَّةٌ قَليلةٌ غَيرُ مُقَدَّرةٍ، وأمَرَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه مالِكًا أنْ يَقبِضَ هذا المالَ ويُقَسِّمَه بيْنَهم، فقال مالِكٌ مُعتَذِرًا: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لو أمَرتَ به غَيْري، أي: لو أمَرتَ بقَبضِه وتَقسيمِه أحَدًا غَيْري، فعَزَمَ عليه عُمَرُ في قَبضِه، وبيْنَما مالِكٌ جالِسٌ مع عُمَرَ على هذه الحالةِ، إذْ أتاهُ حاجِبُه -واسمُه يَرْفَا- وكانَ مِن مَوالي عُمَرَ، فقال حاجِبُه: هلْ لكَ في عُثمانَ، وعَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، والزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ، وسَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنهم، يَستأذِنونَ؟ فأذِنَ لهم عُمَرُ، فدَخَلوا فسَلَّموا وجَلَسوا، ثم جَلَسَ يَرْفَا يَسيرًا، ثمَّ قال لِعُمَرَ: هلْ لكَ في علِيٍّ وعَبَّاسٍ؟ قال: نَعَمْ. فأذِنَ لهما، فدَخَلا فسَلَّما فجَلَسا، وكان علِيُّ بنُ أبي طالِبٍ والعَبَّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنهما يَختَصِمانِ فيما بيْنَهما في أموالِ بَني النَّضيرِ التي أفاءَها اللهُ على نَبيِّه، ومَن يَتوَلَّاها، فطَلَبا مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَقضيَ بيْنَهما، وأكَّدَ الرَّهطُ -عُثمانُ، وعَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، والزُّبَيرُ، وسَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ- لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّ عليه أنْ يَقضيَ بيْنَهما حتَّى يُريحَ أحَدَهما مِنَ الآخَرِ، والرَّهطُ: الجَماعةُ مِنَ الرِّجالِ ما دُونَ العَشَرةِ، وقيلَ: ما دُونَ الأربَعينَ، ثمَّ وَجَّهَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه خِطابَه لِعُثمانَ بنِ عَفَّانَ ومَن معه مِنَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، فقال عُمَرُ لِلجَميعِ: «تَيْدَكم»، أيِ: اصبِروا وأمْهِلوا، أنشُدُكم -أي: أسْأَلُكم- باللهِ الذي بإذنِه تَقومُ السَّماءُ والأرضُ، هلْ تَعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «لا نُورَثُ، ما تَرَكْنا صَدَقةٌ»؟ أي: أنَّ ما تَرَكَه جَماعةُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أموالٍ لا تُورَثُ لِأهْلِيهم، بلْ ما تَرَكوه صَدَقةٌ. فأجابوهُ بِنَعَمْ.
ثمَّ وَجَّهَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه تلكَ الكَلِمةَ إلى علِيٍّ والعَبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنهما، فوَافَقاهُ، ثمَّ بَدَأ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُوضِّحُ أصلَ هذا المالِ المُتَنازَعِ عليه، وأنَّه مِنَ الفَيءِ الذي قال اللهُ تَعالى فيه {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6].
ثم بَيَّنَ لهم عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه كيف كان يُنفِقُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على نِسائِه، وما تَبَقَّى منه جَعَلَه في مالِ اللهِ في بَيتِ المالِ الخاصِّ بالمُسلِمينَ، وجَعَلَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُذَكِّرُهم بما كان مِن فِعلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الفَيْءِ تُجاهَ علِيٍّ والعَبَّاسِ وباقي أهْلِ بَيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه ما جَمَعَه لِنَفْسِه، ولا استأْثَرَ به وَحدَه، وما استَبَدَّ به عليكم، بلْ كانَ لكمْ منه نَصيبٌ، وبَقيَ منه هذا المالُ الذي تَطلُبونَه، ثمَّ سَألَ عُمَرُ الجَميعَ باللهِ: هلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَعَلَ كُلَّ ذلك في حَياتِه؟ فوافَقوهُ على ما قال، ثمَّ جَعَلَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُذَكِّرُهم بعَمَلِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه في هذا المالِ بعْدَما وَليَ أمْرَ المُسلِمينَ بعْدَ وَفاتِه، وأنَّهُ عَمِلَ فيه بعَمَلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال عُمَرُ قاصِدًا أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «واللهُ يَعلَمُ إنَّ أبا بَكرٍ فيها لَصادِقٌ بارٌّ راشِدٌ تابِعٌ لِلحَقِّ».
ثمَّ انتَقَلَ عُمَرُ يُذَكِّرُهم بعَمَلِه في ذلك المالِ بعْدَما تُوُفِّيَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وَوَليَ عمَرُ الأمْرَ بعْدَه، وأنَّه عَمِلَ في هذا المالِ بعَمَلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعَمَلِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، لِمُدَّةِ سَنَتَيْنِ مِن إمارَتِه رَضيَ اللهُ عنه، يَقولُ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عن نَفْسِه: «واللهُ يَعلَمُ إنِّي فيها لَصادِقٌ بارٌّ راشِدٌّ تابِعٌ لِلحَقِّ».
ثمَّ إنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه ذَكَّرَ علِيًّا والعَباسَ رَضيَ اللهُ عنهما بما كانَ مِنهُما مِن قَبْلِ خُصومَتِهما هذه، وقَولُه: «جِئتُماني تُكَلِّماني، وكَلِمَتُكما واحِدةٌ، وأمْرُكما واحِدٌ»، أي: كانَ حالُكما أنتُما الاثنانِ عِندَما جِئتُما تَطلُبانِ هذا الفَيءَ أنَّ كَلِمَتَكما واحِدةٌ، ليس بيْنَكما خُصومةٌ، وذَكَّرَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه العَبَّاسَ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه بطَلَبِه مِن قَبلُ، الذي يَسأَلُ فيه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه نَصيبَه في هذا المالِ؛ لِأنَّ العَبَّاسَ كانَ عَمَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذَكَّرَ علِيَّ بنَ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّهُ أتاهُ مِن قَبْلُ يَسأَلُه نَصيبَ امرأتِه فاطِمةَ بِنتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال لهما عُمَرُ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا نُورَثُ، ما تَرَكْنا صَدَقةٌ»، قال عُمَرُ: فلَمَّا ظَهَرَ لي أنْ أدفَعَه إليكما، وصَحَّ عِندي أنْ أُوَلِّيَكما أمْرَ هذا المالِ، على أنْ تَعمَلا فيه بعَمَلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعَمَلِ أبي بَكرٍ، وعَمَلي مُنذُ وَلِيتُها، فوَافَقاهُ على أنْ يُوَلِّيَهما أمْرَ المالِ، وعلى ما شَرَطَ عليهما.
ثمَّ سَألَ عُمَرُ عُثمانَ ومَن معه مِنَ الصَّحابةِ باللهِ على أنَّ ما حَكى هو ما حَدَثَ حَقًّا؟ فقالوا: نَعَمْ. ثمَّ وَجَّهَ سُؤالَه لِعلِيٍّ والعَبَّاسِ، فقالا: نَعَمْ. فقال عُمَرُ: فتَلتَمِسانِ وتَطْلُبانِ مِنِّي قَضاءً غَيرَ ذلك؟! فوَاللهِ الذي بإذْنِه تَقومُ السَّماءُ والأرضُ لا أقضي غَيرَ ذلك، فإنْ عَجَزْتما عنها فلم تَستَطيعا العَمَلَ فيها بمِثلِ عَمَلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأبي بَكرٍ، وعُمَرَ، فادفَعاها إلَيَّ؛ فإنِّي أكْفِيكُماها، فأقومُ بأمْرِها ورِعايَتِها على الوَجْهِ الذي يُرضِي اللهَ ورَسولَه.
وفي الحَديثِ: أنَّ لِلحاكِمِ العالِمِ أنْ يَفصِلَ في الأُمورِ الشَّائِكةِ ويُرَتِّبَ أُمورَ الدَّولةِ بما فيه المَصلَحةُ، بعْدَ مُشاوَرةِ أهلِ العِلمِ والاختِصاصِ.
وفيه: بَيانُ أنَّ الأنبياءَ لا يُوَرِّثونَ مالًا، وإنَّما مِيراثُهمُ العِلمُ، وما تَرَكوه مِنَ المالِ هو صَدَقةٌ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الاعتِذارِ عنِ الوِلاياتِ والتَّكليفاتِ التي يُكلَّفُ بها المُسلِمُ مِن قِبَلِ الحاكِمِ إذا عَلِمَ مِن نَفْسِه ضَعفًا، أو عَدَمَ القِيامِ بحَقِّ الوِلايةِ.
وفيه: بَيانُ مَناقِبِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه مِنَ الزُّهدِ والعَدلِ، وحُسنِ الفَصلِ في المُنازَعاتِ.