الموسوعة الحديثية


- خَرَجَ جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ في رَهطٍ من المُسلِمينَ فِرارًا بدِينِهم أنْ يُفتَنوا عنه إلى أرضِ الحَبَشةِ، وبَعَثتْ قُرَيشٌ عمرَو بنَ العاصِ، وعِمارةَ بنَ الوليدِ بنِ المُغيرةِ وأمَروهما أنْ يُسرِعا السَّيرَ، ففَعَلا وأهْدَوُا النَّجاشيَّ فَرَسًا وجُبَّةَ دِيباجٍ، وأهْدَوْا لِعُظَماءِ الحَبَشةِ هَدايا، فلمَّا قَدِمَا على النَّجاشيِّ قَبِلَ هَداياهم، وأجلَسَ عمرَو بنَ العاصِ على سَريرِه، فقال عمرُو بنُ العاصِ: إنَّ بأرضِكَ رِجالًا مِنَّا سُفَهاءَ ليسوا على دِينِكم ولا على دِينِنا، فادْفَعْهم إلينا، فقالت عُظَماءُ الحَبَشةِ للنَّجاشيِّ: أجَلْ، فادْفَعْهم إليهم، فقال النَّجاشيُّ: لا واللهِ، لا أدفَعُهم إليهم حتى أُكلِّمَهم وأَعلَمَ على أيِّ شَيءٍ هم، فقال عمرُو بنُ العاصِ: هم أصحابُ الرَّجُلِ الذي خَرَجَ فينا، وسنُخبِرُك بما تَعرِفُ من سَفَهِهم وخِلافِهم الحَقَّ، أنَّهم لا يَشهَدون أنَّ عيسى ابنُ اللهِ، ولا يَسجُدون لك إذا دَخَلوا عليك كما يَفعَلُ مَن أتاكَ في سُلطانِك، فأرسَلَ النَّجاشيُّ إلى جَعفَرٍ وأصحابِه، وقد أجلَسَ النَّجاشيُّ عمرَو بنَ العاصِ على سَريرِه، فلم يَسجُدْ له جَعفَرٌ ولا أصحابُه وحَيَّوْه بالسَّلامِ، فقال عمرٌو وعِمارةُ: أَلَمْ نُخبِرْك خَبَرَ القَومِ، فقال النَّجاشيُّ: ألَا تُحدِّثوني أيُّها الرَّهْطُ، ما لكم لا تُحيُّوني كما يُحَيِّيني مَن أَتاني من قَومِكم، وأَخبِروني ماذا تَقولون في عيسى ابنِ مَريَمَ؟ وما دِينُكم أنَصارى أنتم؟ قالوا: لا، قال: فيَهودُ أنتم؟ قالوا: لا، قال فَعَلى دينِ قَومِكم؟ قالوا لا، قال: فما دِينُكم؟ قالوا: الإسلامُ، قال: وما الإسلامُ؟ قالوا: نَعبُدُ اللهَ وحدَه لا شَريكَ له، ولا نُشرِكُ به شَيئًا، قال: مَن جاءَكم بهذا؟ قالوا: جاءَنا به رَجُلٌ من أنْفُسِنا، قد عَرَفْنا وَجْهَه ونَسَبَه، قد بَعَثَه اللهُ إلينا كما بَعَثَ الرُّسَلَ إلى مَن قَبلَنا، فأَمَرَنا بالبِرِّ للوالدَيْنِ والصِّدقِ والوَفاءِ وأداءِ الأمانةِ، ونَهانا أنْ نَعبُدَ الأوثانَ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ وحدَه، ولا نُشرِكَ به شَيئًا، فصدَّقْناه، وعَرَفْنا كَلامَ اللهِ، وعَلِمْنا أنَّ الذي جاءَ به من عندِ اللهِ، فلمَّا فَعَلْنا ذلك عادانا قَومُنا، وعادَوُا النَّبيَّ الصَّادِقَ وكذَّبوه وأرادوا قَتلَه، وأرادونا على عِبادَةِ الأوْثانِ، ففَرَرْنا إليكَ بدِينِنا ودِمائِنا من قَومِنا، فقال النَّجاشيُّ: واللهِ إنْ خَرَجَ هذا الأمرُ إلَّا من المِشكاةِ التي خَرَجَ منها أمْرُ موسى عليه السَّلامُ، قال جَعفَرٌ: وأمَّا التَّحيَّةُ فإنَّ رسولَنا أخبَرَنا أنَّ تَحيَّةَ أهلِ الجَنَّةِ السَّلامُ، فأمَرَنا بذلك، فحَيَّيْناكَ بالذي يُحيِّي به بعضُنا بعضًا، وأما عيسى فهو عبدُ اللهِ ورسولُه، وكَلِمَتُه أَلْقاها إلى مَريَمَ، ورُوحٌ منه، وابنُ العَذراءِ البَتولِ، فخَفَضَ النَّجاشيُّ يَدَه إلى الأرضِ وأخَذَ منها عُودًا، وقال: واللهِ ما زادَ ابنُ مَريَمَ على هذا وَزنَ هذا العُودِ، فقال عُظَماءُ الحَبَشةِ: واللهِ لئن سَمِعَتْ هذا الحَبَشةُ لَتَخلَعَنَّكَ، فقال النَّجاشيُّ: واللهِ لا أقولُ في عيسى غَيرَ هذا أبدًا، ثم قال: أَرجِعوا إلى هذا هَديَّتَه يُريدُ عمرَو بنَ العاصِ، واللهِ لو رَشَوْني في هذا دَبَرَ ذَهَبٍ -والدَّبَرُ في لِسانِ الحَبَشةِ الجَبَلُ- ما قَبِلْتُه، وقال لجَعفَرٍ وأصحابِه: امْكُثوا، فأنتم سُيومٌ –والسُّيومُ: الآمِنون- وأمَرَ لهم بما يُصلِحُهم من الرِّزقِ، وقال: مَن نَظَرَ إلى هؤلاءِ الرَّهطِ نَظرَةً تُؤذيهم فقد غَرِمَ -أي: فقد عَصاني- وكان اللهُ قد ألقى العَداوَةَ بين عمرِو بنِ العاصِ وعِمارةَ في مَسيرِهما قَبلَ أنْ يَقدُمَا إلى النَّجاشيِّ ثم اصْطَلَحا حين قَدِمَا على النَّجاشيِّ؛ لِيُدرِكا حاجَتَهما التي خَرَجا إليها من طَلَبِ المُسلِمينَ، فلمَّا أخْطَأهما ذلك رَجَعا إلى شَرِّ ما كانا عليه من العَداوَةِ، فمَكَرَ عَمرٌو بعِمارَةَ، فقال: يا عِمارةُ، إنَّك رَجُلٌ جَميلٌ فاذهَبْ إلى امرَأةِ النَّجاشيِّ، فتحدَّثْ عندَها إذا خَرَجَ زَوجُها، فإنَّ ذلك عَونٌ لنا في حاجَتِنا، فراسَلَها عِمارةُ حتى دَخَلَ عليها، فلمَّا دَخَلَ عليها انطَلَقَ عمرٌو إلى النَّجاشيِّ، فقال له: إنَّ صاحبي هذا صاحِبُ نِساءٍ، وإنَّه يُريدُ أهلَك، فاعلَمْ عِلْمَ ذلك، فبَعَثَ النَّجاشيُّ، فإذا عمارةُ عندَ امرأتِه، فأمر به فنَفَخَ في إحليلِه ثم أُلقيَ في جَزيرةٍ من البَحرِ، فجُنَّ، واستَوْحَشَ مع الوَحْشِ، ورَجَعَ عمرٌو إلى مكَّةَ قد أهلَكَ اللهُ صاحِبَه، وخيَّبَ مَسيرَه، ومَنَعَه حاجَتَه.
الراوي : موسى بن عقبة | المحدث : السيوطي | المصدر : الخصائص الكبرى
الصفحة أو الرقم : 1/149 | خلاصة حكم المحدث : ورد نحو ذلك من طرق موصولة عن ابن مسعود وأبي موسى وأم سلمة