موسوعة الفرق

المطلَبُ الأوَّلُ: خياناتُ بَعضِ الشِّيعةِ لآلِ البَيتِ


قد رُوِيَت خيانةُ الشِّيعةِ لإمامِ الأئِمَّةِ عِندَهم، وهو عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه ومَن بَعدَه من أهلِ البَيتِ وأئِمَّتِهم؛ فرُوي أنَّهم قالوا لعَليٍّ في حُروبِه مَعَ أهلِ الشَّامِ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لقد نَفِدَت نِبالُنا، وكَلَّت سُيوفُنا، ونَصلَت أسِنَّةُ رِماحِنا؛ فارجِعْ بنا فلنَستَعِدَّ بأحسَنِ عُدَّتِنا، فأدرَك عليٌّ أنَّ عَزائِمَهم هي التي كلَّت ووهَنَت لا سُيوفَهم، وبَدَأ بَعضُهم يتَسَلَّلونَ من مُعَسكرِه عائِدينَ إلى بُيوتِهم دونَ عِلمِه، فلمَّا رَأى ذلك رَجَعَ الكوفةَ، وانكسَرَ عليه رَأيُه في المَسيرِ [2350] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/89، 90)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (3/ 349). .
وأدرَك عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ هؤلاء القَومَ لا يُمكِنُ أن تَنتَصِرَ بهم قَضيَّةٌ مهما كانت عادِلةً، ولم يستَطِعْ أن يكتُمَ هذا الضِّيقَ، فقال لهم: (ما أنتُم إلَّا أُسودُ الشَّرى في الدَّعةِ، وثَعالبُ رَوَّاغةٌ حينَ تُدعَونَ إلى البَأسِ، وما أنتم لي بثِقةٍ، وما أنتم برَكبٍ يُصالُ بكم، ولا ذي عِزٍّ يُعتَصَمُ إليه، لعَمْرُ اللهِ لبئسَ حشَّاشُ الحَربِ أنتم، إنَّكم تُكادونَ ولا تَكيدونَ، وتُنتَقَصُ أطرافُكم ولا تَتَحاشَونَ) [2351] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/90)، ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) لعبد الشافي (ص: 91). .
وشيعةُ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه من أهلِ العِراقِ لم يتَقاعَسوا عنِ المسيرِ مَعَه لحَربِ الشَّامِ فحَسبُ، وإنَّما جَبُنوا وتَثاقَلوا عنِ الدِّفاعِ عن بلادِهم كذلك، فقد هاجَمَت جُيوشُ مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه مِنطَقةَ عَينِ التَّمر وغَيرَها من أطرافِ العِراقِ، فلم يُذعِنوا لأمرِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه بالنُّهوضِ لإخراجِهم منها، حتَّى قال لهم: (يا أهلَ الكوفةِ كُلَّما سَمِعتُم بمنسَرٍ [2352] المِنسَرُ هي القِطعةُ من الجيشِ تكونُ أمامَه. من مَناسِرِ أهلِ الشَّامِ انجَحَرَ كُلُّ امرِئٍ منكم في بَيتِه، وأغلقَ بابَه انجِحارَ الضَّبِّ في جُحرِه، والضَّبعِ في وجارِها، المَغرورُ مَن غَرَرتُموه، ولَمَن فازكم فازَ بالسَّهمِ الأخيَبِ، لا أحرارَ عِندَ النِّداءِ، ولا إخوانَ ثِقةٍ عِندَ النِّجاءِ، إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ) [2353] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/135)، ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) لعبد الشافي (ص: 96). .
ولمَّا استُشهِدَ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وبويِعَ ابنُه الحَسَنُ رَضيَ اللهُ عنه بالخِلافةِ لم يكُنْ يُؤمِنُ بجَدوى حَربِ مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه مَعَ أولئك الشِّيعةِ الذين خَذَلوا أباه من قَبلُ، وقد طالبوا في أوَّلِ الأمرِ الحَسَنَ بالخُروجِ لقِتالِ مُعاويةَ وأهلِ الشَّامِ، فأظهَرَ الحَسَنُ حُنكةً كبيرةً؛ إذ لم يُبادِرْ بمُصالحةِ مُعاويةَ وتَسليمِ الأمرِ له حَقنًا لدِماءِ المُسلمينَ؛ لأنَّه يعرِفُ تَهَوُّرَ أنصارِهم في العِراقِ، فأرادَ أن يُقيمَ الدَّليلَ على صِدقِ نَظرَتِه فيهم، وعلى سَلامةِ ما اتَّجَهَ إليه، فوافقَهم على المَسيرِ لحَربِ مُعاويةَ، وعَبَّأ جَيشَه، وبَعَثَ قَيسَ بنَ سَعدِ بنِ عُبادةَ في مُقدِّمَتِه على رَأسِ اثنَي عَشَرَ ألفًا، وسارَ هو خَلفَه، فلمَّا وصَلت تلك الأخبارُ إلى مُعاويةَ تَحَرَّك هو أيضًا بجَيشِه ونَزَل مَسكنًا، وبَينَما الحَسَنُ في المَدائِنِ إذ نادى مُنادٍ من أهلِ العِراقِ كَذِبًا أنَّ قَيسًا قد قُتِل، فسَرَتِ الفوضى في الجَيشِ، وعادَ إلى أهلِ العِراقِ طَبيعَتُهم في عَدَمِ الثَّباتِ، فاعتَدَوا على سُرادِقِ الحَسَنِ، ونَهَبوا مَتاعَه حتَّى إنَّهم نازَعوه بساطًا كان تَحتَه، وطَعنوه في فَخِذِه، وفَكَّر أحَدُ شيعةِ العِراقِ، وهو المُختارُ بنُ أبي عُبَيدٍ الثَّقَفيُّ [2354] المختارُ بنُ أبي عُبَيدٍ الثَّقَفيُّ هو الذي خرج فيما بعدُ في العراقِ، وادَّعى أنَّه من شيعةِ آلِ البيتِ، وجعل يطالِبُ بدَمِ الحُسَينِ، وكان يخفي خَلفَ ذلك مطامِعَه الشَّخصيَّةَ في المُلكِ. أن يوثِقَ الحَسَنَ بنَ عَليِّ ويُسَلِّمَه إلى مُعاويةَ؛ طَمَعًا في الغِنى والشَّرَفِ، فقد جاءَ عَمُّه سَعدُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفيُّ، وكان واليًا على المَدائِنِ من قِبَلِ عليٍّ، فقال له: هَل لك في الغِنى والشَّرَفِ؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثِقُ الحَسَنَ وتَستَأمِنُ به إلى مُعاويةَ، فقال له عَمُّه: عليك لعنةُ اللهِ! أثِبُ على ابنِ بنتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأوثِقُه؟! بئسَ الرَّجُلُ أنتَ [2355] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/159)، ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) (ص: 101). !
وقال الحَسَنُ رَضيَ اللهُ عنه: (أرى مُعاويةَ خَيرًا لي من هؤلاء؛ يزعُمونَ أنَّهم لي شيعةٌ، ابتَغَوا قَتلي وأخَذوا مالي! واللهِ لأن آخُذَ من مُعاويةَ ما أحقِنُ به دَمي في أهلي وآمَنُ به في أهلي خَيرٌ من أن يقتُلوني فيضيعَ أهلُ بَيتي وأهلي، واللهِ لو قاتَلتُ مُعاويةَ لأخَذوا بعُنُقي حتَّى يدفَعوا بي إليه سِلمًا، واللهِ لأن أُسالمَه وأنا عَزيزٌ خَيرٌ من أن يقتُلَني وأنا أسيرٌ) [2356] يُنظر: ((الاحتجاج)) للطبرسي (ص: 148). .
وبَعدَ وفاةِ مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه سَنةَ 60هـ وتولِّي يزيدَ بنِ مُعاويةَ الخِلافةَ تَوالت رَسائِلُ ورُسُلُ أهلِ العِراقِ على الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه تَفيضُ حَماسةً لمُبايعَتِه، وقالوا له: إنَّا قد حَبَسْنا أنفُسَنا عليك، ولسْنا نَحضُرُ الجُمعةَ مَعَ الوالي، فأقدِمْ علينا [2357] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/347). .
وبسَبَبِ إلحاحِهمُ الشَّديدِ قَرَّرَ الحُسَينُ رَضيَ اللهُ عنه إرسالَ ابنِ عَمِّه مُسلِمَ بنَ عَقيلٍ ليستَطلِعَ المَوقِفَ، فخَرَجَ مُسلِمٌ في شَوَّالٍ سَنةَ 60هـ.
وما أن عَلِمَ أهلُ العِراقِ بوُصولِه حتَّى جاؤوه فأخَذَ مِنهمُ البَيعةَ للحُسَينِ رَضيَ اللهُ عنه، ثُمَّ أرسَل إلى الحُسَيِن ببَيعةِ أهلِ الكوفةِ وأنَّ الأمرَ على ما يُرامُ، وحَثَّه على القُدومِ إلى الكوفةِ [2358] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 348). .
وكالعادةِ خَذَل الشِّيعةُ الحُسَينَ رَضيَ اللهُ عنه، وكان بَعضُ الصَّحابةِ قد حَذَّرَ الحُسَينَ مِنَ الخُروجِ إلى أهلِ العِراقِ لِما يُعرَفونَ من خيانَتِهم، حتَّى قال له ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه: (لا آمَنُ عليك أن يَغرُّوك ويَكذِبوك ويُخالفوك ويخذُلوك، وأن يستَنفِروا إليك، فيكونونَ أشَدَّ النَّاسِ عليك) [2359] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (4/37). .
وقد ظَهَرَ غَدرُ شيعةِ أهلِ الكوفةِ للحُسَينِ قَبلَ أن يصِلَ إليهم؛ فإنَّ الواليَ الأُمَويَّ عُبَيدَ اللهِ بنَ زيادٍ لَمَّا عَلمَ بأمرِ مُسلِمِ بنِ عَقيلٍ، وما يأخُذُ مِنَ البَيعةِ للحُسَينِ قَتَله وقَتَل مُضيفَه هانِئَ بنَ عُروةَ المُراديَّ، وسَكن شيعةُ الكوفةِ ولم يتَحَرَّكْ لهم ساكِنٌ، وتَنَكَّروا لوُعودِهم للحُسَينِ رَضيَ اللهُ عنه بالنُّصرةِ، واشتَرى ابنُ زيادٍ ذِمَمَهم بالأموالِ فخَذَلوه وقد عَلموا أنَّه قَريبٌ منهم [2360] يُنظر: ((مروج الذهب)) للمسعودي (3/67)، ((العالم الإسلامي في العصر الأموي)) لعبد الشافي (ص: 473). .
وكان الحُسَينُ رَضيَ اللهُ عنه في أهلِه وقِلَّةٍ من أصحابِه عَدَدُهم نَحوُ سَبعينَ، فقُتِل رَضيَ اللهُ عنه وسائِرُ أصحابِه! وقال قَبلَ مَوتِه: (اللَّهمَّ احكُمْ بَينَنا وبَينَ قَومٍ دَعَونا لينصُرونا فقَتَلونا!) [2361] يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 389). .
ويُقال: إنَّه دَعا عليهم قَبلَ مَقتَلِه، فقال: (اللَّهمَّ إن مَتَّعتَهم ففرِّقهم فِرَقًا، واجعَلْهم طَرائِقَ قِدَدًا، ولا تُرضِ الوُلاةَ عنهم أبَدًا؛ فإنَّهم دَعَونا لينصُرونا ثُمَّ عَدَوا علينا فقَتَلونا) [2362] يُنظر: ((الإرشاد)) للمفيد (ص: 241)، ((إعلام الورى)) للطبرسي (ص: 949). .
هذا، وقد كان في شيعةِ الصَّدرِ الأوَّلِ أيَّامَ عليٍّ والحَسَنِ والحُسَينِ -رِضوانُ اللهِ عليهم- فُضَلاءُ أخيارٌ، منهم بَعضُ الصَّحابةِ وفُضَلاءُ التَّابعينَ، وهؤلاء أبعَدُ النَّاسِ عنِ الخيانةِ، وكان تَشَيُّعُ أكثَرِ النَّاسِ قديمًا يقتَصِرُ على حُبِّ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه وأهلِ بَيتِه، وهذا أمرٌ مَطلوبٌ شَرعًا، فقد أوصى النَّبيُّ بحُبِّ العِترةِ الطَّاهرةِ، ومَعرِفةِ حَقِّهم، وكان بَعضُهم يُفضِّلُ عَليًّا على عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهما، ورُبَّما غَلا بَعضُهم ففضَّله على أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، ولكِنْ لم يكُنْ عِندَ فُضَلاءِ الشِّيعةِ الأوائِلِ البِدَعُ الشَّنيعةُ، كالقَولِ بعِصمةِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، والقَولِ بالرَّجعةِ والتَّقيَّةِ وغَيرِ ذلك مِمَّا ظَهَرَ بَعدَ ذلك في الشِّيعةِ الذين تَأثَّروا بما أظهَرَه عَبدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ اليهوديُّ وأمثالُه من أصحابِ الأفكارِ المُنحَرِفةِ، حتَّى وصل الأمرُ بغُلاةِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ إلى القَولِ بتَحريفِ القُرآنِ الكريمِ [2363] يُنظر: ((مع الاثني عشرية في الأصول والفروع)) لعلي السالوس (ص: 20 - 1128). .
وأيضًا خَذَل الشِّيعةُ من أهلِ الكوفةِ زَيدَ بنَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، فأظهَروا نُصرَتَه والبَيعةَ له حينَ خَرَجَ على الخَليفةِ هشامِ بنِ عَبدِ المَلكِ الأُمَويِّ، ثُمَّ سَألوه عن أبي بكرٍ وعُمَرَ فتَرَضَّى عنهما، وأبى أن يتَبَرَّأَ منهما فرَفضوه، فقال لهم: رَفَضْمتوني! وتَرَكوه يُقاتِلُ واليَ العِراقِ بقِلَّةٍ من أصحابِه حتَّى قُتِل سَنةَ 122 هجريَّة [2364] يُنظر: ((الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)) للهاروني الحسني (ص: 39 - 43)، ((تاريخ مدينة دمشق)) لابن عساكر (19/ 464، 468، 472)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (4/ 266)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (13/ 35)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 390)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (3/ 416). .

انظر أيضا: