موسوعة الفرق

المَطلبُ الثَّاني: مَراحِلُ تَطَوُّرِ وِلايةِ الفقيهِ في الفِكرِ الشِّيعيِّ


مَرَّت نَظَريَّةُ وِلايةِ الفقيهِ بعِدَّةِ مَراحِلَ في الفِكرِ الشِّيعيِّ، ومِن أهَمِّ هذه المَراحِلِ:
المرحَلةُ الأولى: السُّفراءُ في عَصرِ الغَيبةِ الصُّغرى
كانت بداياتُ ظُهورِ نَظَريَّةِ وِلايةِ الفَقيهِ في عَصرِ الغَيبةِ الصُّغرى [1869] الغَيبةُ الصُّغرى هو مصطلَحٌ يشيرُ إلى الوقتِ الممتَدِّ من سَنةِ 260هـ، أي: عِندَ مقتَلِ الإمامِ الحادِي عَشَرَ، وهو الحَسَنُ العسكريُّ إلى وفاةِ السَّفيرِ الرَّابع سنةَ 329 هـ، فطيلةَ 69 سنةً غاب المهديُّ فيها عن الأنظارِ، لكِنَّه كان يتَّصِلُ بشيعتِه عن طريقِ وكلاءَ خاصِّين يسمَّون بالسُّفَراءِ، وعددُهم أربعةٌ. وتسمَّى بالغَيبةِ الصُّغرى في مقابِلِ الغَيبةِ الكبرى التي بدأت سنةَ 329 هـ، وهي مستمرَّةٌ إلى الآنَ حتى يظهَرَ المهديُّ للعَلَنِ. مُتَمَثِّلةً في أشخاصِ السُّفراءِ الأربَعةِ الذينَ كانوا -كما يزعُمونَ- نوَّابًا للإمامِ المَهديِّ؛ فهم الواسِطةُ بَينَه وبَينَ النَّاسِ فيما يُريدُ تَبليغَهم إيَّاه، وهؤلاء السُّفَراءُ الأربَعةُ هم كما يذكُرُ الشِّيعةُ:
1- عُثمانُ بنُ سَعيدٍ العُمريُّ، وكانت سِفارَتُه مِن سَنةِ 260هـ حتَّى سَنةِ 265هـ تقريبًا [1870] يُنظر: ((الرسائل العشر)) للطوسي (ص: 16). ، وقد قامَ بدَورِه سفيرًا للإمامِ المُنتَظَرِ -كما تَزعُم الشِّيعةُ- في سِرِّيَّةٍ تامَّةٍ، فقد كان يتَّجِرُ بالسَّمنِ تَغطيةً على الأمرِ، ويأخُذُ الأموالَ التي تُدفَعُ له باسمِ الخُمُسِ وحَقِّ أهلِ البَيتِ، فيضَعُها في جِرابِ السَّمنِ تَقيَّةً وخَوفًا [1871] يُنظر: ((كتاب الغيبة)) للطوسي (ص: 354). .
وقد ادَّعى مِثلَ دَعواه آخَرونَ، كُلُّ واحِدٍ يزعُمُ أنَّه البابُ للغائِبِ، وكُلُّ واحِدٍ يُخرِجُ توقيعًا يزعُمُ أنَّه خَرَجَ مِنَ المُنتَظَرِ الغائِبِ، ويتَضَمَّنُ لَعْنَ الآخَرِ وتَكذيبَه، وقد ذَكرَ الطُّوسِيُّ أسماءَهم تَحتَ عُنوانِ: (ذِكر المَذمومينَ الذينَ ادَّعَوا البابيَّةَ، لعنَهم اللهُ) [1872] ((كتاب الغيبة)) (ص: 397). ويُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (51/367). .
2- مُحَمَّدُ بنُ عُثمانَ بنِ سَعيدٍ العُمريُّ، وكانت مُدَّةُ سِفارَتِه مِن سَنةِ 265هـ حتَّى سَنةِ 305هـ، فتَولى البابيَّةَ أربَعينَ سَنة، يحمِلُ النَّاسُ إليه أموالَهم، ويُخرِجُ إليهم الفتاوى في أمرِ الدِّينِ والدُّنيا [1873] يُنظر: ((الغيبة)) للطوسي (ص: 366). .
3- الحُسَينُ بنُ روحٍ النُّوبَختيُّ، وكانت مُدَّةُ سِفارَتِه مِن سَنةِ 305هـ حتَّى سَنةِ 326هـ [1874] يُنظر: ((الغيبة)) للطوسي (ص: 368). .
4- عَليُّ بنُ مُحَمَّدٍ السِّمريُّ، وكانت مُدَّةُ سِفارَتِه مِن سَنةِ 326هـ حتَّى سَنةِ 329هـ [1875] يُنظر: ((عقائد الشيعة الإمامية)) لابن بابويه (ص: 117). ، وبه انتَهت مَرحَلةُ السُّفراءِ؛ حَيثُ سُئِل عِندَ مَوتِه أن يوصيَ، فقال: (للهِ أمرٌ هو بالغُه) [1876] يُنظر: ((عقائد الشيعة الإمامية)) لابن بابويه (ص: 393).  .
وبإعلانِ السَّفيرِ الرَّابعِ: عَليِّ بنِ مُحَمَّدٍ السِّمريِّ عن انتِهاءِ الغَيبةِ الصُّغرى بَدَأت مَرحَلةٌ أُخرى مِن مَراحِلِ النِّيابةِ والوِلايةِ عن الإمامِ الغائِبِ، وهي مَرحَلةُ الغَيبةِ الكُبرى التي تَطَوَّرت فيها وِلايةُ الفقيهِ [1877] يُنظر: ((ولاية الفقيه وتطورها)) لخالد التويجري (ص: 11). .
وقد كان هناك نِزاعٌ فيمَن يكونُ هو البابَ عِندَ الإمامِ المُنتَظَرِ؛ ومِن ذلك قَولُ مُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ الشَّلمغانيِّ؛ فقد ادَّعى النِّيابةَ عن المَهديِّ، ونافسَ ابنَ روحٍ عليها، فقال: (ما دَخَلْنا مَعَ أبي القاسِمِ الحُسَينِ بنِ روحٍ إلَّا ونحن نَعلمُ فيما دَخَلْنا فيه، لقد كُنَّا نتهارَشُ على هذا الأمرِ كما تَتَهارَشُ الكِلابُ على الجِيَفِ) [1878] يُنظر: ((الغيبة)) للطوسي (ص: 392)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (51/359). .
المرحَلةُ الثَّانيةُ: فتحُ بابِ الاجتِهادِ
بمَوتِ السَّفيرِ الرَّابعِ سَنةَ 329هـ بَدَأتِ الغَيبةُ الكُبرى لمَهديِّ الشِّيعةِ المُنتَظَرِ، وبإعلانِ الغَيبةِ الكُبرى أصبَحَتِ المسؤوليَّةُ التي وُضِعت للإمامِ مِن تَنفيذِ أوامِرِ اللهِ -كما يزعُمونَ- مُتَوقِّفةً؛ لاختِفائِه، وانقِطاعِ السُّفراءِ بَينَه وبَينَ النَّاسِ؛ فكان محرَّمًا على الشِّيعةِ تَجاوُزُ الإمامِ، والتَّعَدِّي على اختِصاصاتِه، ومِن ذلك ما يُعرَفُ عِندَ الشِّيعةِ بالوِلاياتِ السَّبعِ، وهي:
1- الوِلايةُ على أموالِ القُصَّرِ والصِّغارِ مِمَّن لا وليَّ لهم.
2- الوِلايةُ على أخذِ الخُمُسِ، والزَّكاةِ، والأوقافِ العامَّةِ، وصَرفِها في مَوارِدِها.
3- الوِلايةُ على إجراءِ الحُدودِ الخارِجةِ عن مَنصِبِ القَضاءِ.
4- الوِلايةُ على الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ فيما يتَوقَّفُ على ضَربٍ أو جُرحٍ أو قَتلٍ أحيانًا.
5- الوِلايةُ على الحُكومةِ والسِّياسةِ وتَنظيمِ البلادِ، وحِفظِ الثُّغورِ، والجِهادِ، وكُلِّ ما يرتَبطُ بالمُجتَمَعِ والمَصالحِ العامَّةِ التي يتَوقَّفُ عليها.
6- الوِلايةُ على الأموالِ والنُّفوسِ مطلقًا.
7- الوِلايةُ على التَّشريعِ، بأن يكونَ له حَقُّ وضعِ القَوانينِ وتَشريعِها بحَسبِ ما يراه مِنَ المَصالحِ [1879] يُنظر: ((ولاية الفقيه وحدودها)) لناصر الشيرازي (ص: 9). .
فهذه الوِلاياتُ السَّبعُ كان يتَوقَّفُ فِعلُها على وُجودِ الإمامِ الغائِبِ المُنتَظَرِ، وهو ما أحدَثَ حالةَ رُكودٍ وجُمودٍ عِندَ الشِّيعةِ بسَبَبِ تَعَطُّلِ هذه الأحكامِ، وذلك ما جَعَل بَعضَ عُلماءِ الشِّيعةِ يلجؤون إلى فتحِ بابِ الاجتِهادِ في بَعضِ المَسائِلِ الجَديدةِ. ومِن ضِمنِ ما استَنَدوا إليه رِوايةٌ تُنسَبُ إلى المَهديِّ المُنتَظَرِ أنَّه قال: (أمَّا الحَوادِثُ الواقِعةُ فارجِعوا فيها إلى رواةِ حَديثِنا؛ فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حُجَّةُ اللهِ عليكم) [1880] يُنظر: ((الغيبة)) للطوسي (ص: 291)، ((الاحتجاج)) للطبرسي (2/283)، ((وسائل الشيعة)) للحر العاملي (27/140)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (2/90). .
لكِنَّ اجتِهادَهم كان محدودًا في بدايتِه بسَبَبِ وُجودِ مُعارَضةٍ مِن قِبَلِ العَديدِ مِن عُلماءِ الشِّيعةِ؛ حَيثُ يَعُدُّونَ هذا الاجتِهادَ تدخُّلًا في خُصوصيَّاتِ الأئِمَّةِ؛ لأنَّهم كانوا يعتَقِدونَ أنَّ التَّشريعاتِ الجَديدةَ إنَّما هي خاصَّةٌ بالأئِمَّةِ وحدَهم، فجاءَ الاجتِهادُ أيضًا على مَراحِلَ، مِن أبرَزِها:
أوَّلًا: مَرحَلةُ الحَسَنِ بنِ عَقيلٍ العمَّانيِّ، فهو مِن أوائِلِ مَن فتَحَ بابَ الاجتِهادِ في المَذهَبِ الاثنَي عَشريٍّ ويُعَدُّ أوَّلَ مَن هَذَّبَ الفِقهَ، واستَعمَل النَّظَرَ، وفتَقَ البَحثَ عن الأُصولِ والفُروعِ مِن بدايةِ الغَيبةِ الكُبرى [1881] يُنظر: ((الفوائد الجلية)) لبحر العلوم (2/220)، ((مرآة الكتب)) للتبريزي (ص: 496). ، ويُعَدُّ كِتابُه: (المُتَمَسِّك بحَبلِ آلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) مِن أوائِلِ الكُتُبِ التي اتَّجَهت إلى استِنباطِ الفُروعِ والأحكامِ مِنَ الأُصولِ المَوجودةِ في الأحاديثِ لدَيهم [1882] يُنظر: ((جواهر الفقه)) لابن البراج (ص: 13). .
ويرى بَعضُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ أنَّ مِن أقدَمِ مَن قامَ بالاستِنباطِ مِن مُتونِ الأحاديثِ للحاجةِ إلى ذلك هو الطُّوسِيُّ في كِتابه: (المَبسوط والخِلاف في الفِقهِ) [1883] يُنظر: ((الجامع للشرايع)) ليحيى بن سعيد الحلي (ص: 4). .
ثانيًا: أعلنَ بَعضُ عُلماءِ الإماميَّةِ جَوازَ تَولِّي الفقيهِ إقامةَ الحُدودِ والقَضاءَ مِن قِبَلِ سَلاطينِ الجَورِ، وزَعَموا أنَّ هذه الوِلايةَ إنَّما هي مِنَ الإمامِ المُنتَظَرِ.
قال أحمَدُ الكاتِبُ عن بَعضِ عُلماءِ الشِّيعةِ: (كانت آراؤُهم هذه في بابِ الحُدودِ مُتَمَيِّزةً عن آرائِهم في الأبوابِ الأُخرى التي كانوا يلتَزِمونَ فيها بنَظَريَّةِ التَّقيَّةِ والانتِظارِ، وكانت وسيلةً كُبرى ساعَدَتهم على الخُروجِ مِن سائِرِ المَرافِقِ الأُخرى، وكانت فرضيَّةُ النِّيابةِ الحَقيقيَّةِ التي اقتَرَحَ بَعضُ العُلماءِ افتِراضَها عِندَ إجبارِ الحاكِمِ الظَّالمِ للفقيهِ أو لغَيرِه على إقامةِ الحُدودِ قاعِدةً أساسيَّةً لتَطويرِ نَظَريَّةِ النِّيابةِ العامَّةِ ووِلايةِ الفَقيهِ فيما بَعدُ) [1884] ((تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)) (ص: 20). .
وكان شَيخُهم المُفيدُ من أوائِلِ مَن ذَكَر أنَّ الفقيهَ العادِلَ مِنَ الشِّيعةِ إذا نَصَبَه السُّلطانُ الجائِرُ فله أن يقبَلَ هذا المَنصِبَ؛ لأنَّه في الحَقيقةِ مِنَ الإمامِ المُنتَظَرِ؛ حَيثُ أكَّدَ ذلك بقَولِه: (فأمَّا إقامةُ الحُدودِ فهو إلى سُلطانِ الإسلامِ المَنصوبِ مِن قِبَلِ اللهِ تعالى، وهم أئِمَّةُ الهدى مِن آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السَّلامُ، ومَن نَصَبوه لذلك مِنَ الأُمَراءِ والحُكَّامِ، وقد فوَّضوا النَّظَرَ فيه إلى فُقَهاءِ شيعَتِهم مَعَ الإمكانِ، ومَن تَأمَّرَ على النَّاسِ مِن أهلِ الحَقِّ بتَمكينِ ظالمٍ له، وكان أميرًا مِن قِبَلِه في ظاهرِ الحالِ؛ فإنَّما هو أميرٌ في الحَقيقةِ مِن قِبَلِ صاحِبِ الأمرِ الذي سَوَّغَه ذلك، وأذِنَ له فيه دونَ المُتَغَلِّبِ مِن أهلِ الضَّلالِ) [1885] ((المقنعة)) (ص: 810-812). .
ثالثًا: تَطَوَّر الفِكرُ الشِّيعيُّ وتَوسَّع، فجاءَ مِن عُلمائِهم مَن يُجيزُ إقامةَ الفقيهِ للحُدودِ مِن غَيرِ إجبارٍ لأحَدٍ، ومِن أشهرِ مَن قال بذلك: ابنُ مُطَهَّرٍ الحُيُّ، واحتَجَّ لذلك بأنَّ للفُقَهاءِ الحُكمَ بَيْنَ النَّاسِ، فكان إليهم إقامةُ الحُدودِ، ولأنَّ تَعطيلَها فيه مَفاسِدُ عَديدةٌ [1886] يُنظر: ((تذكرة الفقهاء)) لابن المطهر الحلي (1/459). .
رابعًا: تَجاوزَتِ الوِلايةُ مَسألةَ إقامةِ الحُدودِ إلى ما هو أوسَعُ مِن ذلك، كالنِّيابةِ عن الإمامِ في دَفعِ الزَّكاةِ والخُمُسِ، وصَلاةِ الجُمعةِ، فنَجِدُ شَيخَهم المُفيدَ يوجِبُ دَفعَ الزَّكاةِ للفُقَهاءِ، فيقولُ: (فإذا عُدِم السُّفَراءُ بَينَه وبَينَ رَعيَّتِه وجَبَ حَملُها إلى الفُقَهاءِ المَأمونينَ مِن أهلِ وِلايتِه؛ لأنَّ الفقيهَ أعرَفُ بمَوضِعِها مِمَّن لا فِقهَ له في ديانَتِه) [1887] ((المقنعة)) (ص: 252). .
وقد كانت طَريقةُ دَفعِ الخُمُسِ عِندَ الشِّيعةِ على مَراحِلَ:
1- وُجوبُ الخُمُسِ في عَصرِ الغَيبةِ مَعَ القَولِ بدَفنِه، أو الاحتفاظِ به حتَّى ظُهورِ المَهديِّ، أو الإيصاءِ به مِن واحِدٍ إلى واحِدٍ حتَّى مَوعِدِ الظُّهورِ.
2- تَسليمُ الخُمُسِ إلى الفُقَهاءِ للاحتِفاظِ به حتَّى وقتِ ظُهورِ الإمامِ.
3- جَوازُ قيامِهم بتَوزيعِه بأنفُسِهم على المُحتاجينَ [1888] يُنظر: ((تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)) لأحمد الكاتب (ص: 22). .
أمَّا صَلاةُ الجُمعةِ فقد حَرَّمَ عَدَدٌ مِن عُلماءِ الشِّيعةِ إقامَتَها بدونِ حُضورِ الإمامِ المُنتَظَرِ، ثُمَّ في القَرنِ السَّابعِ والثَّامِنِ الهجريَّينِ قالوا بجَوازِ إقامةِ الفُقَهاءِ للجُمُعةِ باعتِبارِهم نوَّابًا عامِّينَ لإمامِهم المَهديِّ [1889] يُنظر: ((تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)) لأحمد الكاتب (ص: 23)، ((ولاية الفقيه وتطورها)) لخالد التويجري (ص: 14). .
المرحَلةُ الثَّالِثةُ: دَورُ (الكَرَكيِّ والنَّراقيِّ) في تَطويرِ وِلايةِ الفقيهِ
تَطَوَّرت فِكرةُ وِلايةِ الفقيهِ تطوُّرًا واضحًا عِندَ الكَرَكيِّ والنَّراقيِّ، ويتَّضِحُ ذلك بعَرضٍ موجَزٍ لما قدَّمَه كُلٌّ منهما في تَطويرِ هذه النَّظَريَّةِ.
أوَّلًا: الكَرَكيُّ
وهو أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ الحُسَينِ بنِ عَبدِ العالي الكَرَكيُّ العامِليُّ، المُلقَّبُ بالمُحَقِّقِ الثَّاني، مُجتَهِدٌ أُصوليٌّ إماميٌّ، وُلدَ في جَبَلِ عامِلٍ بلُبنانَ، ورَحل إلى مِصرَ، وسافرَ إلى العِراقِ، ثُمَّ استَقَرَّ في بلادِ العَجَمِ، وتوفِّيَ في نَجَف الكوفةِ سَنةَ 940ه [1890] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (4/ 281). .
وكانتِ الظُّروفُ قد تَهَيَّأت للكَرَكيِّ لنَشرِ المَذهَبِ الشِّيعيِّ وآرائِه الفِقهيَّةِ، وذلك بَعدَ أن استَدعَته الدَّولةُ الصَّفويَّةُ التي أعلنَتِ المَذهَبَ الإماميَّ مذهبًا رَسميًّا، واحتاجت لمَن يدعو لهذا المَذهَبِ وينشُرُ أفكارَه؛ فاستَعانت به، ويظهَرُ ذلك عِندَما دَعاه طهماسب بنُ الشَّاهِ إسماعيلَ الصَّفويِّ للمُشارَكةِ مَعَه في الحُكمِ، ووُجوبِ طاعَتِه، وأصدَرَ قرارًا بذلك، قال فيه: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ: حَيثُ إنَّه يبدو ويتَّضِحُ مِنَ الحَديثِ الصَّحيحِ النِّسبةِ إلى الإمامِ الصَّادِقِ عليه السَّلامُ الذي يقولُ فيه: «انظُروا إلى مَن كان قد رَوى حَديثَنا، ونَظَرَ في حلالِنا وحرامِنا، وعَرَف أحكامَنا؛ فارضَوا به حَكَمًا؛ فإنِّي قد جَعَلتُه عليكم حاكمًا، فإذا حَكمَ بحُكمٍ فمَن لم يقبَلْه منه فإنَّما بحُكمِ اللهِ استَخَفَّ، وعلينا رَدَّ، وهو رادٌّ على اللهِ وهو على حَدِّ الشِّركِ باللهِ» [1891] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/67). ، واضِحٌ أنَّ مُخالفةَ حُكمِ المُجتَهدينَ الحافِظينَ لشَرعِ سَيِّدِ المُرسَلينَ هو والشِّركُ في دَرَجةٍ واحِدةٍ؛ لذلك فإنَّ كُلَّ مَن يُخالفُ حُكمَ خاتَمِ المُجتَهدينَ، ووارِثِ عُلومِ سَيِّدِ المُرسَلينَ نائِبِ الأئِمَّةِ المَعصومينَ -لا زال اسمُه العَليُّ عَليًّا عاليًا- ولا يُتابعُه؛ فإنَّه لا مَحالةَ مَلعونٌ مَردودٌ، وعن مَهبِطِ المَلائِكةِ مَطرودٌ، وسَيُؤاخَذُ بالتَّأديباتِ البَليغةِ، والتَّدبيراتِ العَظيمةِ) [1892] يُنظر: ((جامع المقاصد)) للكركي (1/33). .
فبَدَأ المُحَقِّقُ الكَرَكيُّ في تَطبيقِ النِّيابةِ العامَّةِ عن الإمامِ المُنتَظَرِ بَعدَ هذا القَرارِ الذي أصدَرَه الشَّاهُ طهماسب بوُجوبِ طاعَتِه، والحَذَرِ مِن مُخالفتِه، فأكَّد الكَرَكيُّ على ذلك في العَديدِ مِن مُؤَلَّفاتِه، ومِمَّا جاءَ عنه في التَّأكيدِ على أنَّ لنائِبِ الإمامِ الحَقَّ في إصدارِ الأحكامِ، ووُجوبِ العَمَلِ بها؛ لأنَّه نائِبٌ مِن قِبَلِ إمامِهم المُنتَظَرِ، وكُلُّ ما يقولُه حَقٌّ يجِبُ اتِّباعُه، مِمَّا جاءَ في ذلك قَولُه: (اتَّفقَ أصحابُنا رِضوانُ اللهِ عليهم على أنَّ الفقيهَ العَدلَ الإماميَّ الجامِعَ لشَرائِطِ الفتوى، المُعَبَّرَ عنه بالمُجتَهدِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ: نائِبٌ مِن قِبَلِ أئِمَّةِ الهدى صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم، في حالِ الغَيبةِ في جَميعِ ما للنِّيابةِ فيه مَدخَلٌ؛ فيجِبُ التَّحاكُمُ إليه، والانقيادُ إلى حُكمِه) [1893] ((رسائل الكركي)) (1/142). .
وبهذا يكونُ الكَرَكيُّ قد أسَّسَ لشَرعيَّةٍ سياسيَّةٍ بتَدَخُّلِ العُلماءِ في السُّلطةِ والسِّياسةِ، بل كسَرَ الحاجِزَ الذي كان بَيْنَ الفقيهِ والحاكِمِ في الفِقهِ الإماميِّ؛ وذلك بتَطبيقِه وِلايةَ الفقيهِ، ولو بشَكلٍ مَحدودٍ عَمَليًّا، وهذا ينفي فِكرةَ أنَّ الخُمينيَّ هو أوَّلُ مُفكِّرٍ شيعيٍّ يوفَّقُ في تَطبيقِ نَظَريَّةِ وِلايةِ الفقيهِ عَمَليًّا، في حينِ يرى بَعضُ الباحِثينَ أنَّ قيامَ دَعوةٍ واضِحةٍ وصَريحةٍ لتَسَلُّمِ الفقيهِ المُجتَهدِ زِمامَ السُّلطةِ الكُلِّيَّةِ للدَّولةِ نيابةً عن الإمامِ الغائِبِ لم تَحدُثْ إلَّا على يدِ الخُمينيِّ [1894] يُنظر: ((نظرية ولاية الفقيه دراسة وتحليل ونقد)) لعرفان فتاح (ص: 40). .
ثانيًا: النَّراقيُّ
وهو أحمَدُ بنُ مَهديِّ بنِ أبي ذَرٍّ الكاشانيُّ النَّراقيُّ، مِن عُلماءِ الإماميَّةِ ومُجتَهِديهم، له تَصانيفُ كثيرةٌ؛ منها: (مَناهج الوُصول إلى عِلمِ الأُصول)، و(عَوائِد الأيَّام في قَواعِد الفُقَهاء)، و(مِفتاح الأحكامِ) مُختَصَرٌ في أُصولِ الفِقه، و(المُستَنَد) في الفِقه الاستِدلاليِّ، وقد توفِّيَ في بَعضِ قُرى مَدينة كاشانَ بإيرانَ سَنةَ 1244ه، ونُقِل نَعشُه إلى النَّجَفِ [1895] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (1/ 260). .
وللنَّراقيِّ السَّبقُ في بَثِّ التَّفكيرِ لدى فُقَهاءِ الشِّيعةِ عن كيفيَّةِ وطَريقةِ إقامةِ دَولةٍ إسلاميَّةٍ، يتَزَعَّمُها ويقومُ بها الفقيهُ الجامِعُ للشُّروطِ، فقد ساهَمَ في ذلك عِندَما حَمَّل الفقيهَ مسؤوليَّةَ الوِلايةِ التي كانت للمَعصومِ، وعَدَّه نائِبَه، واستَشهَدَ لذلك بالأدِلَّةِ العَقليَّةِ والنَّقليَّةِ التي تُثبِتُ نَظَريَّتُه في وِلايةِ الفقيهِ، فالتَّنظيرُ الذي قامَ به المُحَقِّقُ النَّراقيُّ لوِلايةِ الفقيهِ، وما تَبعَه مِن بُحوثٍ ومُناقَشاتٍ حَولَ هذه المَسألةِ مَهَّدَ للخُمينيِّ أن يتَقدَّمَ في نَقلةٍ كُبرى، وهي السَّعيُ الجادُّ لإقامةِ حُكومةٍ إسلاميَّةٍ يتَزَعَّمُها الفقيهُ العادِلُ، فضلًا عن التَّنظيرِ لها، والاستِدلالِ عليها [1896] يُنظر: ((ولاية الفقيه عند الشيعة الاثني عشرية وموقف الإسلام منها)) لأحمد سيد (ص: 141). .
والنَّراقيُّ يُعَدُّ أوَّلَ مَن أفرَدَ مَسألةَ وِلايةِ الفقيهِ تَحتَ عُنوانٍ مُستَقِلٍّ، وهو ما جَعَل مَن جاءَ بَعدَه يهتَمُّ بالمَسألةِ ويبحَثُها؛ فقد استَطاعَ تَحقيقَ نَقلةٍ نَوعيَّةٍ في صياغةِ نِظامِ الحُكمِ في عَصرِ الغَيبةِ المُتَمَثِّلِ بوِلايةِ الفقيهِ، واعتُبِرت مُحاولتُه خُطوةً مُتَقدِّمةً لتَأسيسِ مَشروعٍ مَنهَجيٍّ للبَحثِ في نِظامِ الدَّولةِ في الفِقهِ الجَعفريِّ [1897] يُنظر: ((مجلة تراثنا)) (1/126) مؤسسة آل البيت، 1410هـ، قم. .
وقد ذَكرَ النَّراقيُّ وظيفةَ الفُقَهاءِ في أُمورِ النَّاسِ، وما لهم فيها مِنَ الوِلايةِ، فحَدَّدَها بأمرَينِ:
الأمرُ الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ ما كان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأئِمَّةِ فهو للفقيهِ أيضًا، إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ عليه مِن إجماعٍ أو نَصٍّ أو غَيرِهما.
الأمرُ الثَّاني: أنَّ كُلَّ فِعلٍ مُتَعَلِّقٍ بأُمورِ العِبادِ في دينِهم أو دُنياهم ولا بُدَّ مِنَ الإتيانِ به، ولا مَفرَّ منه، إمَّا عقلًا أو عادةً، فهو وظيفةُ الفقيهِ، وله التَّصَرُّفُ فيه والإتيانُ به [1898] يُنظر: ((عوائد الأيام)) للنراقي (ص: 536). .
فنَجِدُ أنَّ النَّراقيَّ قد أعطى صَلاحيَّاتٍ للفُقَهاءِ حتَّى تَشابَهت وِلايتُهم بوِلايةِ المَعصومِ عِندَهم، وجَعلهم حُكَّامًا في زَمَنِ الغَيبةِ، ونوَّابًا عن الأئِمَّةِ [1899] يُنظر: ((عوائد الأيام)) للنراقي (ص: 529). .
فالنَّراقيُّ قد طَوَّرَ نَظَريَّةَ وِلايةِ الفقيهِ مِن كونِها مُرتَبطةً بإجازةِ المُلوكِ كما عِندَ الكَرَكيِّ إلى تَصَدِّي الفُقَهاءِ بأنفُسِهم للحُكمِ، وتَجاوُزِ ما يُسَمَّى بـ (نَظَريَّة الانتِظارِ) [1900] يُنظر: ((تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)) لأحمد الكاتب (ص: 28). .
هذه بإيجازٍ أهَمُّ مَراحِلِ ما يُسَمَّى بـولايةِ الفقيهِ؛ حَيثُ كانت بداياتُها مُتَمَثِّلةً في السُّفراءِ الأربَعةِ ودَورِهم كنوَّابٍ لإمامِهم المُنتَظَرِ، ثُمَّ بَعدَ ذلك سَعى العَديدُ مِن عُلماءِ الشِّيعةِ لكسرِ الجُمودِ الحاصِلِ بَعدَ انقِطاعِ السُّفراءِ، وبدايةِ ما يُسَمَّى بـ(الغَيبةِ الكُبرى)، ثُمَّ فتحِ بابِ الاجتِهادِ بشَكلٍ مَحدودٍ، واستِنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مِنَ الأدِلَّةِ المُعتَبَرةِ عِندَهم، فانتَقَلوا إلى الاجتِهادِ فيما يتَعَلَّقُ بجَوازِ إقامةِ الحُدودِ والقَضاءِ مِن قِبَلِ سَلاطينِ الجَورِ، وبَعدَ ذلك أجازوا إقامةَ الفقيهِ للحُدودِ وغَيرِها حتَّى مِن غَيرِ موافَقةِ سَلاطينِ الجَورِ، ولم يقتَصِروا على إقامةِ الحُدودِ، بل تَجاوزوا ذلك إلى تَولِّي القَضاءِ، وقَبضِ الخُمُسِ، والزَّكاةِ، ثُمَّ أخَذت وِلايةُ الفقيهِ مَنحًى آخَرَ تمَثَّل في ظُهورِ المُحَقِّقِ الكَرَكيِّ الذي بَدَأت على يدَيه وِلايةُ الفقيهِ تَتَوسَّعُ أكثَرَ، حتَّى شَمِلتِ الشُّؤونَ السِّياسيَّةَ، ثُمَّ تَطَوَّرت وِلايةُ الفقيهِ أكثَرَ على يدِ المُحَقِّقِ النَّراقيِّ، بحَيثُ أجازَ إقامةَ دَولةٍ تَكونُ تَحتَ رِعايةِ الفقيهِ وحُكمِه، بحُكمِ أنَّه نائِبٌ عن الإمامِ في كُلِّ شَيءٍ، ثُمَّ جاءَ الخُمينيُّ بَعدَ ذلك وأفرَدَ كتابًا خاصًّا بوِلايةِ الفقيهِ وأهَمِّيَّتها وضَرورَتِها لدى الشِّيعةِ، وظَهَرت آثارُ تلك النَّظَريَّةِ واضِحةً في دُستورِ إيرانَ [1901] يُنظر: ((ولاية الفقيه وتطورها)) لخالد التويجري (ص: 19). .

انظر أيضا: