الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: الشُّفْعةُ إذا بِيعَ المَنْقولُ حالَ انْفِرادِه


تَثبُتُ الشُّفْعةُ في المَنْقولِ [114] المَنْقولُ: هو الشَّيءُ الَّذي يُمكِنُ نَقْلُه مِن مَحَلٍّ إلى آخَرَ، ويَشمَلُ النُّقودَ والعُروضَ والحَيَواناتِ، والمَكيلاتِ والمَوْزوناتِ. يُنظَرُ: ((درر الحكام شرح مجلة الأحكام)) لعلي حيدر (1/166). حالَ انْفِرادِه [115] سواءٌ كانَ المَنْقولُ تابِعًا للعَقَارِ أو غَيْرَ تابِعٍ له، أو كانَ مِن الزَّرْعِ والثِّمارِ أو مِن غَيْرِه. ، وهو رِوايةٌ عِنْدَ الحَنابِلةِ [116] ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مفلح (5/138)، ((الإنصاف)) للمرداوي (6/189). ، وهو قَوْلُ ابنِ حَزْمٍ [117] قالَ ابنُ حَزْمٍ: (فلا تَخْلو الشُّفْعةُ مِن أن تكونَ مِن طَريقِ النَّصِّ كما نقولُ نحن، أو مِن طَريقِ النَّظَرِ كما يَقولُ المُخالِفونَ؛ فإن كانَتْ مِن طَريقِ النَّصِّ فهذه النُّصوصُ الَّتي أَوْرَدْنا لا يَحِلُّ الخُروجُ عنها، وإن كانَتْ مِن طَريقِ النَّظَرِ -كما يَزعُمونَ أنَّها إنَّما جُعِلَتْ لدَفْعِ ضَرَرٍ عن الشَّريكِ- فالعِلَّةُ بذلك مَوْجودةٌ في غَيْرِ العَقَارِ كما هي مَوْجودةٌ في العَقَارِ، بلْ أَكثَرُ، وفيما لا يَنْقسِمُ، كوُجودِها فيما يَنْقسِمُ، بلْ هي فيما لا يَنْقسِمُ أَشَدُّ ضَرَرًا). ((المحلى)) (8/7). ، واخْتارَه ابنُ تَيْمِيَّةَ [118] قالَ المَرْداويُّ: (والرِّوايةُ الثَّانيةُ: فيه الشُّفْعةُ. اخْتارَه ابنُ عَقيلٍ، وأبو مُحمَّدٍ الجَوْزيُّ، والشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَه اللهُ. قالَ الحارِثيُّ: وهو الحَقُّ). ((الإنصاف)) (6/189). ، وابنُ القَيِّمِ [119] قالَ ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا الآثارُ فقدْ جاءَتْ بِهذا وهذا، ولو قُدِّرَ عَدَمُ صِحَّتِها بالشُّفْعةِ في المَنْقولِ فهي لم تَنْفِ ذلك، بل نَبَّهَتْ عليه كما ذَكَرْنا، وأمَّا تَأبيدُ الضَّرَرِ وعَدَمُه ففَرَقٌ فاسِدٌ؛ فإنَّ مِن المَنْقولِ ما يكونُ تَأبيدُه كتَأبيدِ العَقَارِ؛ كالجَوْهرةِ والسَّيْفِ والكِتابِ والبِئْرِ، وإن لم يَتَأبَّدْ ضَرَرُه مَدى الدَّهْرِ فقدْ يَطولُ ضَرَرُه كالعَبْدِ والجاريةِ، ولو بَقِيَ ضَرَرُه مُدَّةً فإنَّ الشَّارِعَ مُريدٌ لدَفْعِ الضَّرَرِ بكُلِّ طَريقٍ ولو قَصُرَتْ مُدَّتُه، وأمَّا تَفْريقُكم بكَثْرةِ الضَّرَرِ في العَقَارِ وقِلَّتِه في المَنْقولِ، فلَعَمْرُ اللهِ إنَّ الضَّرَرَ في العَقَارِ يَكثُرُ مِن تلك الجِهاتِ، ولكنْ يُمكِنُ رَفْعُه بالقِسْمةِ، وأمَّا الضَّرَرُ في المَنْقولِ فإنَّه لا يُمكِنُ رَفْعُه بقِسْمتِه! على أنَّ هذا مُنْتَقِضٌ بالأرْضِ الواسِعةِ الَّتي ليس فيها شيءٌ ممَّا ذَكَرْتُم). ((إعلام الموقعين)) (3/377). ، وابنُ بازٍ [120] قالَ ابنُ بازٍ: (الشَّيءُ المَنْقولُ، الصَّحيحُ: فيه شُفْعةٌ). ((الموقع الرسمي للشيخ ابن باز)). ، وابنُ عُثَيْمينَ [121] قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (الرِّوايةُ الأخيرةُ عن الإمامِ أحْمَدَ هي الصَّحيحةُ؛ لعُمومِ قَوْلِه: «في كلِّ ما لم يُقسَمْ»، أي: الشُّفْعةُ فيما لم يُقسَمْ، و«ما» اسمٌ مَوْصولٌ، والأسْماءُ المَوْصولةُ تُفيدُ العُمومَ، ولأنَّ الضَّرَرَ في غَيْرِ الأرْضِ حاصِلٌ بالنِّسْبةِ للشَّريكِ، أَرَأيْتَ لو أنَّ رَجُلَينِ اشْتَرَكا في سيَّارةٍ فباعَ أحَدُهما نَصيبَه مِن هذه السَّيَّارةِ على رَجُلٍ سَيِّئِ الخُلُقِ، أَيَتَضرَّرُ الشَّريكُ أو لا يَتَضرَّرُ؟ الجَوابُ: يَتَضرَّرُ؛ فالضَّرَرُ حاصِلٌ في الأرْضِ وفيما يُنْقَلُ، فالصَّوابُ أنَّ الحَديثَ عامٌّ، وأنَّ كلَّ شيءٍ فيه شُفْعةٌ، حتَّى لو كانَ بَيْنَك وبَيْنَ شَخْصٍ قَلَمٌ، وباعَ نَصيبَه مِن القَلَمِ فلك أن تَشْفَعَ على القَوْلِ الرَّاجِحِ، أو كانَ بَيْنَكما كِتابٌ مَثَلًا فباعَ نَصيبَه مِنه فلك أن تَشْفَعَ؛ لأنَّ الضَّرَرَ حاصِلٌ بِهذا كما يَحصُلُ في الأرْضِ، وأمَّا قَوْلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ: «فإذا وَقَعَتِ الحُدودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعةَ» فهذا الحُكْمُ يَنْطبِقُ على بعضِ أفْرادِ العُمومِ، ولا يَقْتَضي التَّخْصيصَ إذا قُلْنا: فيما لم يُقسَمْ مِن كلِّ شيءٍ؛ فالسَّيَّاراتُ وما أَشبَهَها مِن المَنْقولاتِ ليس فيها طُرُقٌ ولا حُدودٌ، والأرْضُ فيها طُرُقٌ وحُدودٌ وتَفْريعٌ، حُكْمٌ يَتَعلَّقُ ببعضِ العامِّ لا يَقْتَضي التَّخْصيصَ، كما قالَ العُلَماءُ في قَوْلِه تَعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ فكَلِمةُ «بُعولَتُهنَّ» تَقْتَضي أنَّ مَن لا رَجْعةَ لها لا تَتَربَّصُ ثَلاثةَ قُروءٍ، معَ أنَّ لَفْظَ «المُطلَّقاتِ» عامٌّ، لكنَّ العُلَماءَ قالوا: إنَّ المُطلَّقةَ عليها العِدَّةُ؛ سواءٌ كانَ زَوْجُها له المُراجَعةُ أو لا، وعليه فالصَّوابُ أنَّ الشُّفْعةَ ثابِتةٌ في كلِّ مُشْتَرَكٍ مِن الأراضي والنَّخيلِ والزُّروعِ وغَيْرِها). ((التعليق على الكافي)) (6/497). .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: ((قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالشُّفْعةِ في كلِّ ما لم يُقسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحُدودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعةَ)) [122] أخرجه البخاريُّ (2257) واللَّفْظُ له، ومُسلِمٌ (1608) مطولًا. .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا نَصٌّ عامٌّ يَتَناوَلُ المَنْقولَ والعَقَارَ [123] ((إعلام الموقعين)) لابن القَيِّمِ (3/374). .
ثانِيًا: لأنَّ الضَّرَرَ بالشَّرِكةِ فيما لا يَنْقسِمُ أَبلَغُ مِن الضَّرَرِ بما يَقبَلُ القِسْمةَ؛ فإذا كانَ الشَّارِعُ مُريدًا لرَفْعِ الضَّرَرِ الأدْنى، فالضَّرَرُ الأَعْلى أَوْلى بالرَّفْعِ [124] يُنظَرُ: ((المحلى)) لابن حَزْمٍ (8/7)، ((إعلام الموقعين)) لابن القَيِّمِ (3/375). .
ثالِثًا: أنَّ الشَّارِعَ مُريدٌ لدَفْعِ الضَّرَرِ بكُلِّ طَريقٍ ولو قَصُرَتْ مُدَّتُه [125] ((إعلام الموقعين)) لابن القَيِّمِ (3/375).

انظر أيضا: