الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: حكم تزويج الصَّغيرةِ


المسألةُ الأولى: تزويجُ الأبِ للصَّغيرةِ البِكرِ
يجوزُ للأبِ تزويجُ ابنتِه البكرِ الصغيرةِ دونَ إذنِها [369]     نصَّ بعضُ أهل العلمِ على بُطلانِ الزواج إذا لم تراعَ فيه مصلحةُ الصَّغيرةِ، وأنَّ على القاضي حينئذ فَسخَه. قال الشوكاني: (أما مع عدَمِ المصلحة المُعتَبَرةِ، فليس للنِّكاحِ انعقادٌ مِن الأصل، فيجوزُ للحاكمِ بل يجِبُ عليه التَّفرقةُ بين الصَّغيرةِ ومَن تزوَّجَها، ولها الفرارُ متى شاءت، سواءٌ بلغت التكليفَ أم لم تبلُغ، ما لم يقَعْ منها الرِّضا بعد تكليفِها). ((وبل الغمام على شفاء الأوام)) (2/33). وقال ابن عثيمين: (فالذي يظهَرُ لي أنَّه من النَّاحيةِ الانضِباطيَّةِ في الوَقتِ الحاضِرِ: أن يُمنَعَ الأبُ من تزويجِ ابنتِه مُطلقًا، حتى تبلُغَ وتُستأذَنَ، وكم من امرأةٍ زوَّجها أبوها بغيرِ رضاها، فلما عرَفَت وأتعَبَها زوجها قالت لأهلها: إمَّا أن تفكوني من هذا الرَّجُل، وإلَّا أحرقتُ نفسي! وهذا كثيرًا ما يقعُ؛ لأنَّهم لا يُراعون مصلحةَ البنت، وإنَّما يراعون مصلحةَ أنفُسِهم فقط، فمَنعُ هذا عندي في الوقتِ الحاضرِ مُتعيِّنٌ، ولكلِّ وقتٍ حُكمُه). ((شرح صحيح البخاري)) (6/272). ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [370]     ((الهداية شرح البداية)) للمَرغيناني (1/202)، ((البناية)) للعيني (5/121). ، والمالِكيَّةِ [371]     ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/522)، ((التاج والإكليل)) للمواق (3/514). ، والشَّافِعيَّةِ [372]     ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 206)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/149). ، والحَنابِلةِ [373]     الحَنابِلة يقولون بوجوب إذنِها إذا بلغت تسعَ سنين حتى ولو لم تبلُغْ. ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (7/20)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/43). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [374]     قال الشافعي: (إنكاحُ الآباءِ الصغارَ قديمًا، وإنْ لم يختَلِفْ أحد أنَّ ذلك جائِزٌ عليهنَّ). ((اختلاف الحديث - ملحق بكتاب الأم)) (10/142). وسئل الإمام أحمد عن: (الجارية الصغيرة يُزوِّجها أبوها؟ قال: ليسَ بين الناس في هذا اختلافٌ). ((مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح)) (3/129). وقال ابنُ نصر المَرْوزي: (أجمع أهلُ العِلمِ على أنَّ نكاحَ الأبِ جائزٌ على ابنِه وابنتِه الصَّغيرينِ، ولا خيارَ لهما إذا أدركا؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزوَّج عائشةَ وهي بنتُ سِتٍّ، وبنى بها وهي بنتُ تسعٍ). ((اختلاف الفقهاء)) (ص: 227). وقال ابنُ المُنذِرِ: (أجمع أهلُ العلم على أنَّ نِكاحَ الأبِ ابنتَه البكرَ الصغيرةَ جائزٌ إذا زوَّجَها من كفُؤٍ. هذا قولُ مالكٍ، والثَّوريِّ، واللَّيثِ بنِ سَعدٍ، والأوزاعيِّ، وعُبيدِ الله بن الحَسَن، والشَّافعيِّ، وأحمَدَ، وإسحاقَ، وأبي عُبيدٍ، وأبي ثَورٍ، وأصحابِ الرأي، وحُجَّتُهم في ذلك حديثُ عائشةَ. وبه نقولُ). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (5/19). وقال ابنُ عبد البر: (أجمع العلماءُ على أنَّ للأبِ أن يزوِّجَ ابنتَه الصغيرة ولا يشاوِرَها، وأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزوَّجَ عائشةَ بنتَ أبي بكرٍ وهي صغيرةٌ بنتُ سِتِّ سنينَ أو سبعِ سنينَ، أنكَحَه إيَّاها أبوها). ((الاستذكار)) (5/400). وقال القاضي عياض: (حديثُ عائشةَ هذا أصلٌ في جبر الآباء بناتِهم الأبكارَ، وتزويجِ الصِّغارِ منهنَّ، ولا خلافَ بين العلماء في جوازِ تزويج الأب ابنَتَه الصَّغيرةَ التي لا يُوطأُ مثلُها). ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (4/572). وقال النووي: (أجمع المسلمون على جواز تزويجِه بنتَه البِكرَ الصغيرة لهذا الحديث، وإذا بلغت فلا خيارَ لها في فَسخِه عند مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز، وقال أهل العراق: لها الخيارُ إذا بلغَتْ، أمَّا غيرُ الأب والجَدِّ من الأولياء فلا يجوزُ أن يزوِّجَها عند الشافعي، والثوري، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عُبيد، والجُمهور). ((شرح النووي على مسلم)) (9/206). وقال ابن حجر: (قال ابن بطال: يجوزُ تزويجُ الصغيرة بالكبير إجماعًا، ولو كانت في المهدِ، لكِنْ لا يمكَّنُ منها حتى تصلُحَ للوطءِ). ((فتح الباري)) لابن حجر (9/124). لكن خالف في ذلك ابن شبرمة، قال ابن حزم: (قال ابن شبرمة: لا يجوزُ إنكاحُ الأبِ ابنَتَه الصغيرةَ حتى تبلُغَ وتأذَنَ). ((المحلى)) (9/38). وقال ابن رشد: (اتَّفَقوا على أنَّ الأبَ يُجبِرُ ابنَه الصغير على النِّكاح، وكذلك ابنَتَه الصغيرةَ البِكرَ ولا يستأمرها؛ لِما ثبت أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزوَّج عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها بنتَ سِتٍّ أو سبعٍ، وبنى بها بنتَ تِسعٍ بإنكاحِ أبي بكرٍ أبيها رَضِيَ اللهُ عنه، إلَّا ما رويَ مِن الخلافِ عن ابن شبرمة). ((بداية المجتهد)) (2/6).  
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الله تعالى حكَمَ بصحَّةِ طلاقِ الصَّغيرةِ التي لم تَحِضْ، والطَّلاقُ لا يقَعُ إلَّا في نكاحٍ صحيحٍ، فتضمَّنَت الآيةُ جوازَ تزويجِ الصَّغيرةِ [375]     ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/346). ، ولا جِهةَ يَصِحُّ نِكاحُها معها إلَّا أن يزَوِّجَها أبوها [376]     ((المجموع)) للنووي (16/168).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزوَّجَها وهي بنتُ سِتِّ سنينَ، وأُدخِلَت عليه وهي بِنتُ تِسعٍ، ومكَثَت عنده تِسعًا )) [377]     أخرجه البخاري (5133) واللفظ له، ومسلم (1422).
وَجهُ الدَّلالةِ:
هذا صَريحٌ في جوازِ تَزويجِ الأبِ الصَّغيرةَ بغيرِ إذنِها؛ لأنَّه لا إذنَ لها [378]     ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (4/572).
ثالثًا: لأنَّ الأبَ ليس كسائِرِ الأولياءِ، بدليلِ تصَرُّفِه في مالِها ونظَرِه لها، وأنَّه غيرُ متَّهَمٍ عليها [379]     ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/401).
رابعًا: أنَّ الكُفءَ لا يتَّفِقُ في كلِّ وَقتٍ، فكانت الحاجةُ ماسَّةً إلى إثباتِ الوِلايةِ للوليِّ في صِغَرِها، ولأنَّه لو انتظَرَ بلوغَها لفات ذلك الكُفءُ، ولا يُوجَدُ مِثلُه [380]     ((المبسوط)) للسرخسي (4/212).
المسألةُ الثَّانيةُ: تزويجُ غَيرِ الأبِ مِن الأولياءِ للصَّغيرةِ البِكرِ
لغيرِ الأبِ مِن الأولياءِ تَزويجُ الصَّغيرةِ البِكرِ، وهذا مذهَبُ الحَنَفيَّةِ [381]     اشترطَ الحنفيَّةُ أن يكونَ لها الخِيارُ بعد البُلوغِ؛ إن شاءت أقامَت على النِّكاحِ، وإن شاءت فَسَخَت. ((مختصر القدوري)) (ص: 146). ، وهو الصَّحيحُ مِن مذهَبِ الحَنابِلةِ [382]     اشترط الحنابلةُ إذنَها وأن تكونَ قد بلغَتْ تِسعَ سِنينَ، ولا خيارَ لها إذا بلَغَت. ((الإنصاف)) للمرداوي (8/48)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/46)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/56). ، ورجَّحَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ [383]     ويُشتَرَط إذنُها، وبلوغُ تِسعِ سِنينَ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (إذا بلَغَت تسعَ سنين فإنَّه يزوِّجُها الأولياءُ مِن العَصَباتِ، والحاكِمِ، ونائِبِه- في ظاهِرِ مَذهَبِ أحمَدَ، وهو مذهَبُ أبي حنيفة، وغيرهما، كما دَلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّة... المَشهورُ في مذهَبِ أحمَدَ وغَيرِه: أنَّها لا تُزوَّجُ إلَّا بإذنِه، ولا خيارَ لها إذا بلَغَت. وهذا هو الصحيحُ الذي دلَّت عليه السُّنَّة). (مجموع الفتاوى)) (32/44). ، وهو قَولُ ابنِ باز [384]     ويُشتَرَطُ إذنها، وبلوغُ تِسعِ سِنينَ، قال ابن باز: (الواجِبُ على الأبِ أن يستأذِنَها إذا بلَغَت تِسعًا فأكثَرَ، وهكذا أولياؤُها لا يُزوِّجونَها إلَّا بإذنِها. هذا هو الواجِبُ على الجميعِ، ومن زوَّجَ بغير إذنٍ فالنِّكاحُ غيرُ صَحيحٍ؛ لأنَّ مِن شَرطِ النِّكاح الرِّضا من الزَّوجينِ، فإذا زوَّجَها بغيرِ رضاها وقَهَرها بالوَعيدِ الشَّديدِ أو بالضَّربِ، فالزواجُ غيرُ صحيحٍ، إلَّا الأبَ فيما دونَ التِّسعِ، لو زوَّجَها وهي صغيرةٌ أقَلُّ من التِّسعِ، فلا حَرَجَ على الصَّحيحِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (20/415). ، وابنِ عثيمين [385]     ويُشتَرَطُ إذنها، وبلوغُ تِسعِ سِنينَ، قال ابن عثيمين: (غيرُ المكَلَّفة وهي التي تم لها تسعُ سنين، فهل يُشتَرَط رضاها أو لا؟ الصحيحُ أيضًا أنَّه يُشتَرَطُ رضاها؛ لأنَّ بنتَ تِسعِ سنين بدأت تتحَرَّكُ شَهوتُها وتحِسُّ بالنِّكاح، فلا بُدَّ من إذنها، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو الحَقُّ). ((الشرح الممتع)) (12/57). وقال: (قوله: «إلا بإذنِهما» الضميرُ المثنى يعود على الكبيرة العاقلةِ وبنتِ التسعِ، فصار بقيةُ الأولياء لا يزوِّجون ذَكرًا، ولا صغيرةً دون تسعٍ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، ولا كبيرةً عاقلةً، ولا بنتَ تِسعٍ إلَّا بإذنهما) ((الشرح الممتع)) (12/65).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 3]
وَجهُ الدَّلالةِ:
دلَّت الآيةُ بمَفهومِها على أنَّ لِغَيرِ الأبِ مِن الأولياءِ مِمَّن يحِلُّ له الزَّواجُ باليتيمةِ أن يتزوَّجَ بها إذا أقسَطَ لها [386]     ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (3/80).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((تُستأمَرُ اليتيمةُ في نفسِها، فإنْ سكَتَت فهو إذنُها، وإن أبَت فلا جوازَ عليها )) [387]     أخرجه أبو داود (2093)، والنسائي (3270)، وأحمد (7527) واللفظ لهم، والترمذي (1109) باختلاف يسير. حسَّنه الترمذي، وذكر ثبوتَه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (32/48)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (13/264)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2093): حسن صحيح. وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1272).
2- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((تُستأمَرُ اليَتيمةُ في نَفسِها، فإنْ سَكَتَت فقد أَذِنَت، وإن أبَت لم تُكرَهْ )) [388]     أخرجه أحمد (19516)، والدارمي (2185)، وابن حبان (4085). صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2/180) وقال: على شرط الشيخين. وذكر ثبوته ابنُ عبد البر في ((الاستذكار)) (4/404)، وجوَّده محمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (3/157)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/283): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. وصحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2/259) وقال: على شرطهما. وصحَّح الحديثَ الوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (825).
وجهُ الدَّلالةِ مِن الحديثَينِ:
فيه أنَّ اليتيمةَ تُنكَحُ بإذنِها [389]     ((المغني)) لابن قدامة (7/42).
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((توفِّيَ عُثمانُ بنُ مَظعون وتَرَك ابنةً له مِن خُويلةَ بنتِ حَكيمِ بنِ أُميَّةَ بنِ حارثةَ بنِ الأوقصِ، قال: وأوصى إلى أخيه قُدامةَ بنِ مَظعونٍ، قال عبدُ الله: وهما خالاي، قال: فخَطَبتُ إلى قُدامةَ ابنِ مَظعونٍ ابنةَ عُثمانَ بنِ مظعون فزوَّجَنيها، ودخل المغيرةُ بنُ شُعبةَ -يعني إلى أمِّها- فأرغبها في المالِ، فحَطَّت إليه، وحَطَّت الجاريةُ إلى هوى أمِّها، فأبَيَا حتى ارتفَعَ أمرُهما إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال قُدامةُ بنُ مَظعونٍ: يا رسولَ اللهِ، ابنةُ أخي أوصى بها إليَّ، فزوجْتُها ابنَ عَمَّتِها عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، فلم أقصِّرْ بها في الصَّلاحِ، ولا في الكَفاءةِ، ولكِنَّها امرأةٌ، وإنَّما حَطَّت إلى هوى أمِّها، قال: فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هي يتيمةٌ، ولا تُنكَحُ إلَّا بإذنِها. قال: فانتُزِعَت -واللهِ- مِنِّي بعد أن ملَكْتُها، فزوَّجوها المغيرةَ )) [390]     أخرجه أحمد (6136)، والدارقطني (3/230)، والبيهقي (14027). وثَّق رجالَه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/283)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/273)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (9/7)، وحسَّن إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (6/233).
ثالثًا: من الآثارِ
عن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ قال: (سألتُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها عن قَولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء: 3] قالت: يا بنَ أُختي، هذه اليتيمةُ تكونُ في حَجرِ وَليِّها، تَشرَكُه في مالِه، ويُعجِبُه مالُها وجمالُها، فيريدُ أن يتزوَّجَها بغيرِ أن يُقسِطَ في صَداقِها فيُعطيَها مِثلَ ما يُعطيها غيرُه، فنُهُوا عن نِكاحِهنَّ إلَّا أن يُقسِطوا لهنَّ، ويَبلُغوا لهنَّ أعلى سُنَّتِهنَّ في الصَّداقِ ) [391]     أخرجه البخاري (4574) واللفظ له، ومسلم (3018).
المسألةُ الثَّالثةُ: تسليمُ الصغيرةِ لِزَوجِها للاستِمتاعِ بها
لا تُسلَّمُ الصَّغيرةُ التي لا تُطيقُ الوَطءَ لِزَوجِها للاستمتاعِ بها، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [392]     ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/128)، ((الفتاوى الهندية)) (1/287). ، والمالِكيَّةِ [393]     ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/119)، ((منح الجليل)) لعليش (3/343). ، والشَّافِعيَّةِ [394]     ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (7/382)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/224). ، والحَنابِلةِ [395]     بعضُ الحَنابِلة حدَّدها ببلوغِ تِسعِ سنين، وبعضُهم بالاستطاعةِ وتحمُّل الجِماع. ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (8/176)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/277)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/41)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/470). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/259).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ وُجوبَ التَّسليمِ إنَّما كان لِضَرورةِ تَمكينِه مِن تَسليمِ الحُقوقِ المتعَلِّقةِ بالزَّوجيَّةِ، وهي مُنتَفيةٌ هنا [396]     ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (8/176)، ((البيان)) للعمراني (9/496).
ثانيًا: لأنَّه لا يُؤمَنُ أن يَحمِلَه فَرطُ الشَّهوةِ على جماعِها، فيُوقِعُ ذلك جنايةً بها [397]     ((البيان)) للعمراني (9/496).
المَسألةُ الرَّابِعةُ: تزويجُ الصَّغيرةِ الثيِّبِ [398]     الثيِّبُ: هي مَن أُزيلَت بَكارتُها بوَطءٍ حلالٍ أو محرَّمٍ. يُنظر: ((الكافي في فقه الإمام أحمد)) لابن قدامة (3/19)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 206).
اختلَفَ العُلَماءُ في حُكمِ تَزويجِ الثيِّبِ الصَّغيرةِ على قَولَينِ:القول الأول: للأبِ تَزويجُ الثيِّبِ الصَّغيرةِ كما لو كانت بِكرًا، بغيرِ إذنِها، وهذا مذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [399]     ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (2/256)، ((مختصر القدوري)) (ص: 146). ، والمالِكيَّةِ [400]     ((الكافي)) لابن عبد البر (2/522). ، والحَنابِلةِ [401]     ((الإقناع)) للحجاوي (3/169)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/43).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّها صغيرةٌ، فجاز إجبارُها، كالبِكرِ والغُلامِ [402]     ((المغني)) لابن قدامة (7/44).
ثانيًا: لأنَّها لا إذنَ لها مُعتبَرٌ [403]     ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/634)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/53). القول الثاني: ليس للوليِّ -أبٍ أو غيرِه- تزويجُ الثيِّبِ الصَّغيرةِ، حتى تبلُغَ وتأذَنَ، وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [404]     ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 206)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/149). ، ووجهٌ عند الحَنابِلةِ [405]     ((المغني)) لابن قدامة (7/44)، ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (7/21). ، وهو قَولُ ابنِ شبرمة [406]     قال ابن حزم: (قال ابن شبرمة: لا يجوزُ إنكاحُ الأبِ ابنَتَه الصغيرةَ حتى تبلُغَ وتأذَنَ). ((المحلى)) (9/38). ، وابنِ حَزمٍ [407]     قال ابن حزم: (فإن كانت ثيبًا من زوجٍ مات عنها أو طلَّقها لم يجُزْ للأب ولا لغيرِه أن يزوِّجَها حتى تبلُغَ، ولا إذنَ لهما قبل أن تبلُغَ). ((المحلى)) (9/38). ويُنظر: ((البناية شرح الهداية)) للعيني (5/90). ، والصَّنعانيِّ [408]     قال الصنعاني: (قولُه: «ليس للوليِّ مع الثيِّبِ أمرٌ» أي: إنْ لم ترْضَ؛ لِما سلف من الدليل على اعتبارِ رضاها، وعلى أنَّ العقدَ إلى الوليِّ، وأما قولُه: «واليتيمةُ تُستأمَرُ» فاليتيمةُ في الشَّرعِ: الصغيرةُ التي لا أبَ لها، وهو دليلٌ للناصر والشافعي في أنَّه لا يزوِّجُ الصغيرةَ إلَّا الأبُ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: تُستأمَرُ اليتيمةُ، ولا استِئمارَ إلَّا بعد البُلوغِ؛ إذْ لا فائدةَ لاستئمارِ الصغيرةِ... فالأرجَحُ ما ذهب إليه الشَّافعيُّ). ((سبل السلام)) (2/175).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّة
1- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الثيِّبُ أحَقُّ بنَفسِها مِن وَليِّها، والبِكرُ تُستأمَرُ، وإذنُها سُكوتُها )) [409]     أخرجه مسلم (1421).
2- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا تُنكَحُ البِكرُ حتى تُستأذَنَ، ولا الثيِّبُ حتى تُستأمَرَ، فقيل: يا رَسولَ اللهِ، كيف إذنُها؟ قال: إذا سكَتَت )) [410]     أخرجه البخاري (6968) واللفظ له، ومسلم (1419).
وجهُ الدَّلالةِ مِن الحَديثَينِ:
أنَّ الثيِّبَ صَغيرةً كانت أو كبيرةً لا تُزَوَّجُ حتى تُستأمَرَ، ولا تُجبَرُ على النِّكاحِ، أو تُؤخَّرُ حتى تبلُغَ فتَصيرَ أهلًا للاستِئمارِ [411]     يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (9/40)، ((شرح النووي على مسلم)) (9/204)، ((التوضيح)) لابن الملقن (24/420)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/197).
ثانيًا: لأنَّ في تأخيرِها فائِدةً، وهي أن تبلُغَ فتَختارَ لنَفسِها ويُعتبَرَ إذنُها، فوجب التأخيرُ، بخلافِ البِكرِ [412]     ((المغني)) لابن قدامة (7/44).
ثالثًا: قياسًا على الثيِّبِ الكَبيرةِ [413]     ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (7/21).
رابعًا: لأنَّها لا شَهوةَ لها ولا تتناسَلُ، فانتفى مَقصِدُ النِّكاحِ فيها [414]     ((البناية)) للعيني (5/90).

انظر أيضا: