الموسوعة الفقهية

الفصل الرابع: طوافُ الإفاضةِ


المبحث الأوَّل: تعريفُ طوافِ الإفاضةِ
الإفاضة لغةً: هي الزَّحْفُ والدَّفْعُ في السَّيرِ بكثرةٍ، ولا يكونُ إلَّا عن تفرُّقٍ وجَمعٍ. وأصلُ الإفاضةِ الصَّبُّ، فاستُعيرَتْ للدَّفعِ في السير... ومنه طوافُ الإفاضةِ يومَ النَّحرِ، يُفيضُ مِن مِنًى إلى مكَّةَ، فيطوفُ ثم يرجِعُ ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 212، 213), و ((تاج العروس)) للزبيدي (18/ 501).
أسماءُ طَوافِ الإفاضةِ:
سُمِّيَ طوافُ الإفاضةِ بعدَّةِ أسماءَ؛ منها:
1- طوافُ الإفاضةِ: وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يأتي بعد إفاضَتِه من مِنًى إلى مكَّة.
2- طوافُ الزِّيارة: وذلك لأنَّ الحاجَّ يأتي مِن مِنًى لزيارةِ البَيتِ، ولا يقيمُ بمكَّةَ بل يرجِعُ إلى مِنًى.
3- طوافُ الصَّدَر: لأنَّه يُفعَل بعد الرُّجوعِ, والصَّدَرُ: يطلق أيضًا على طوافِ الوَداعِ.
4- طوافُ الواجِبِ، وطوافُ الرُّكْنِ، وطوافُ الفَرْضِ: وذلك باعتبارِ الحُكْمِ ((المجموع)) للنووي (8/12)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/390), ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/505).
المبحث الثَّاني: حُكْمُ طوافِ الإفاضةِ
طوافُ الإفاضةِ رُكْنٌ مِن أركانِ الحَجِّ، لا يَصِحُّ الحجُّ إلا به، ولا ينوبُ عنه شيءٌ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
يقول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
اتَّفَق أهلُ التَّفسيرِ أنَّ المرادَ بالطَّوافِ المأمورِ به في هذه الآيةِ: هو طوافُ الإفاضةِ قال ابنُ جرير: (وعُنِيَ بالطَّوافِ الذي أمَرَ جلَّ ثناؤه حاجَّ بيتِه العتيقِ به في هذه الآيةِ: طوافُ الإفاضةِ الذي يُطاف به بعد التعريفِ، إمَّا يومَ النَّحرِ وإمَّا بعده، لا خلاف بين أهل التأويلِ في ذلك). ((جامع البيان)) (18/615).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
أنَّ صَفِيَّةَ بنتَ حُيَيٍّ- زوجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حاضَتْ، فذكَرَتْ ذلك لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((أحابِسَتُنا هي؟ قالوا: إنَّها قد أفاضت، قال: فلا إذًا. وفي روايةٍ لمسلمٍ: لَمَّا أراد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ينفِرَ، إذا صفِيَّةُ على بابِ خِبائِها كئيبةً حزينةً. فقال: عَقْرى حَلْقى! إنَّكِ لحابِسَتُنا. ثم قال لها: أكنتِ أفضْتِ يومَ النَّحرِ؟ قالت: نعم. قال: فانفِري )) رواه البخاري (1757)، ومسلم (1211)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قولَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أحابِسَتُنا هي؟)) يدلُّ على أنَّ هذا الطَّوافَ لا بدَّ مِنَ الإتيانِ به, وأنَّ عدَمَ الإتيانِ به موجِبٌ للحَبْسِ قال البغوي: (ثبت بهذا الحديثِ أنَّ مَن لم يطُفْ يومَ النَّحر طوافَ الإفاضةِ لا يجوزُ أن ينفِرَ) ((معالم التنزيل)) (5/382), وقال ابنُ دقيق العيد: (فإنَّ سياقَه يدلُّ على أنَّ عدمَ طوافِ الإفاضةِ موجِبٌ للحبس) ((إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام)) (1/333).
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماعَ على ركنيَّة طوافِ الإفاضةِ: ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (وأجمعوا أنَّ الطَّوافَ الواجِبَ هو طوافُ الإفاضة). ((الإجماع)) (1/58). , وابْنُ حَزْمٍ قال ابنُ حزم: (وأجمعوا أنَّ الطَّوافَ الآخِرَ المسمَّى طوافَ الإفاضةِ بالبيت، والوقوفَ بعَرَفة؛ فرضٌ). ((مراتب الإجماع)) (1/42). , وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (أنَّ الطَّوافَ الحابِسَ للحائِضِ الذي لا بدَّ منه، هو طوافُ الإفاضة، وكذلك يسمِّيه أهلُ الحجازِ: طوافَ الإفاضة، ويسمِّيه أهلُ العراقِ طوافَ الزيارة.... وهو واجِبٌ فرضًا عند الجميع، لا ينوب عنه دمٌ، ولا بدَّ مِنَ الإتيانِ به) ((التمهيد)) (17/267). , وابنُ رشد قال ابنُ رشد: (وأجمعوا على أنَّ الواجِبَ منها الذي يفوت الحجُّ بفواتِه هو طوافُ الإفاضة). ((بداية المجتهد)) (1/343). , وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (يسمَّى طوافَ الإفاضةِ؛ لأنَّه يأتي به عند إفاضَتِه من مِنًى إلى مكَّة، وهو ركنٌ للحجِّ لا يتِمُّ إلَّا به؛ لا نعلم فيه خلافًا). ((المغني)) (3/390). , والنوويُّ قال النووي: (وهذا الطَّواف- أي طوافُ الإفاضة- ركنٌ من أركانِ الحجِّ، لا يصِحُّ الحجُّ إلَّا به بإجماعِ الأمَّة). ((المجموع)) (8/220). , وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (لا بدَّ بعد الوقوف من طوافِ الإفاضةِ، وإن لم يطُفْ بالبيتِ لم يتِمَّ حَجُّه باتِّفاق الأمة) ((مجموع الفتاوى)) (26/302).
المبحث الثَّالث: اشتراطُ كونِ طوافِ الإفاضةِ بعد الوقوفِ بعَرَفةَ
يُشْتَرَطُ أن يَسْبِقَ طوافَ الإفاضةِ الوقوفُ بعَرَفةَ, فلو طاف للإفاضةِ قبل الوقوفِ بعَرَفةَ لا يَسْقُطُ به فَرْضُ الطَّوافِ قال الشافعي: (ومَن قَدَّمَ طوافَه للحجِّ قبل عَرَفةَ بالبيتِ وبين الصَّفا والمروة فلا يحلُّ حتى يطوفَ بالبيتِ سبعًا) ((الأم)) (2/237). وقال النووي: (وشَرْطُه أن يكون بعد الوقوفِ بعرفاتٍ، حتى لو طاف للإفاضةِ بعد نِصْفِ ليلةِ النَّحرِ قبل الوقوفِ ثم أسرَعَ إلى عرفاتٍ، فوقف قبل الفَجرِ؛ لم يصِحَّ طوافُه؛ لأنَّه قَدَّمَه على الوقوفِ) ((شرح النووي على مسلم)) (8/193). ويُنْظَر: ((حاشية ابن عابدين)) (2/517), ((حاشية الدسوقي)) (2/34), ((المجموع)) للنووي (8/266), ((كشاف القناع)) (2/505).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 29]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لا يُمكِنُ قضاءُ التَّفَثِ والوفاءُ بالنَّذْرِ إلَّا بعد الوقوفِ بعَرَفةَ ومُزْدَلِفةَ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (7/340).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حاكيًا عمَلَه بعد الوقوفِ بعَرَفةَ والمبيتِ بالمُزْدَلِفةِ والرميِ: ((ثم ركِبَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأفاضَ إلى البيتِ، فصلَّى بمكَّة الظُّهرَ )) رواه مسلم (1218)
2- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أفاض يومَ النَّحرِ، ثم رجَعَ فصَلَّى الظُّهرَ بمِنًى)) قال نافعٌ: ((فكان ابنُ عُمَرَ يُفيضُ يومَ النَّحرِ، ثمَّ يرجِعُ فيُصَلِّي الظُّهرَ بمِنًى، ويذكُرُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَعَلَه )) رواه مسلم (1308)
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
 نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (وأمَّا تقديمُ طوافِ الفَرْضِ على الوقوفِ؛ فلا يُجْزي مع العَمْدِ بلا نزاعٍ) ((مجموع الفتاوى)) (26/231). وقال: (وفيه أيضًا تقديمُ الطَّوافِ قبل وَقْتِه الثابتِ بالكتابِ والسُّنَّة والإجماعِ. والمناسِكُ قبل وقتِها لا تُجْزِئ) ((مجموع الفتاوى)) (26/203).
المبحث الرابع: وقتُ طوافِ الإفاضةِ
المطلب الأوَّل: السنَّةُ في وقتِ طوافِ الإفاضةِ
يُسَنُّ أن يكونَ طوافُ الإفاضةِ في يومِ النَّحْرِ أوَّلَ النَّهارِ، بعد الرَّميِ والنَّحرِ والحَلْقِ، وهو أفضلُ وقتٍ لبدايَتِه قال الشنقيطي: (الظَّاهِرُ أنَّ أوَّلَ وَقْتِه أوَّلُ يومِ النَّحر بعد الإفاضة من عَرَفة ومُزْدَلِفة، كما فعل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه طاف طوافَ الإفاضةِ يومَ النَّحرِ، بعد رمي جَمْرة العقبة، والنَّحر، والحَلْق، وقال: «خذوا عني مناسِكَكم») ((أضواء البيان)) (4/406).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- حديثُ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفيه: ((أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رمى جَمْرةَ العَقَبةِ، ثمَّ انصرَفَ إلى المنحَرِ، فنَحَرَ هَدْيَه, ثمَّ أفاض إلى البيتِ، فصلى بمكَّةَ الظُّهْرَ )) رواه مسلم (1218)
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفاض يومَ النَّحْرِ، ثم رجَعَ فصلى الظُّهرَ بمِنًى. قال نافعٌ: فكان ابنُ عُمَرَ يُفيضُ يومَ النَّحرِ، ثم يرجِعُ فيُصَلِّي الظهرَ بمِنًى. ويذكُرُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَعَلَه )) رواه مسلم (1308)
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك النوويُّ قال النووي: (واتَّفقوا على أنَّه يُستحَبُّ فِعْلُه يومَ النَّحرِ بعد الرميِ والنَّحرِ والحَلْقِ) ((شرح النووي على مسلم))(9/58).
المطلب الثَّاني: أوَّلُ وقتِ طوافِ الإفاضةِ؟
اختلف العُلَماء في تحديدِ أوَّل وقت طواف الإفاضة على قولينِ:
القول الأوّل: أنَّ أوَّلَ وقتِ طوافِ الإفاضةِ بعد منتصَفِ ليلةِ النَّحرِ لِمَن وقف بعَرَفةَ قَبْلَه، وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/221), ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/307). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (4/33)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لابن قُدامة (3/466). , واختارَه ابنُ باز قال ابنُ باز: (لا يجوزُ رَمْيُ جَمْرةِ العقبةِ قبل منتصَفِ اللَّيلِ مِن ليلةِ النَّحر، وكذا طوافُ الإفاضة). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/143).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((أرسلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأمِّ سَلَمةَ ليلةَ النَّحْرِ، فرَمَتِ الجَمْرةَ قبل الفَجْرِ ثم مَضَتْ فأفاضت، وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تعني عندَها )) رواه أبو داود (1942) واللفظ له، والدارقطني (2/276)، والحاكم (1723)، والبيهقي (9846). قال محمد بن عبدالهادي في ((المحرر)) (265): رجاله رجال مسلم، وصححه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (2/262)، وجود إسناده وقواه ووثق رجاله ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/162) وصحَّح إسنادَه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/250)، وقال ابنُ حجر في ((بلوغ المرام)) (215): إسناده على شرط مسلم، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (5/146): رجاله رجال الصحيح.
2- عن أسماءَ ((أنَّها نَزَلت ليلةَ جَمعٍ عند المُزدَلفةِ، فقامت تصلِّي، فصلَّت ساعةً، ثم قالت: يا بُنَيَّ، هل غاب القمَرُ؟ قلتُ: لا. فصلَّت ساعةً، ثم قالت: هل غاب القمَرُ؟ قلتُ: نعم. قالت: فارتَحِلوا. فارتَحَلْنا، ومضَينا حتى رَمَت الجمرةَ، ثم رجَعَت فصَلَّت الصُّبحَ في مَنزِلِها. فقلتُ لها: يا هنتاه، ما أرانا إلَّا قد غَلَّسْنا. قالت: يا بنيَّ، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أذِنَ للظُّعُنِ )) رواه البخاري (1679) واللفظ له، ومسلم (1291)
وَجْهُ الدَّلالةِ مِنَ الحديثينِ:
أنَّ ظاهِرَ النَّصِّ جوازُ الدَّفعِ مِنَ المُزْدَلِفةِ قبل منتصَفِ اللَّيلِ، والرَّميِ؛ لأنَّ أمَّ سَلَمةَ وأسماءَ رَضِيَ اللهُ عنهما رَمَتا الجَمْرةَ قبل الصُّبحِ؛ فهذا دليلٌ على جوازِ الرَّميِ قبل الفجرِ، فإذا جاز رميُ الجَمْرةِ قبل الفجرِ؛ جاز فِعْلُ بقيَّةِ أعمالِ يومِ النَّحرِ؛ لأنَّها مترابطةٌ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (50/246،251،252).
ثانيًا: قياسُ الطَّوافِ على الرَّميِ؛ بجامعِ أنَّهما من أسبابِ التَّحلُّلِ؛ فإنَّه بالرميِ للجِمار والذَّبحِ والحَلْقِ يحصُلُ التحلُّلُ الأوَّلُ، وبالطَّوافِ يحصُلُ التَّحلُّلُ الأكبرُ، فكما أنَّ وقتَ الرَّميِ يبدأُ عندهم بعد نِصْفِ اللَّيلِ، فكذا وقتُ طوافِ الإفاضةِ ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/52)، ويُنْظَر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/307).
القول الثاني: يبتِدئُ مِن طُلوعِ الفَجرِ الثَّاني يومَ النَّحرِ، وهذا مذهب الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/518), ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/148). , والمالِكيَّة ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/ 496)، ويُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/814). , وهو روايةٌ عن أحمد ((الإنصاف)) للمرداوي (4/33).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- فِعْلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع قوله: ((لِتَأخُذوا مناسِكَكم )) رواه مسلم (1218) ؛ فقد طاف طوافَ الإفاضةِ يومَ النَّحرِ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 406).
ثانيًا: أنَّ ما قبل الفجْرِ مِنَ الليلِ وقْتُ الوقوفِ بعَرَفة، والطَّوافُ مُرَتَّبٌ عليه، فلا يصِحُّ أن يتقدَّمَ ويَشغَلَ شيئًا من وقتِ الوقوف، فالوقتُ الواحدُ لا يكون وقتًا لركنينِ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/ 132)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/ 52).
فرعٌ: أداءُ طوافِ الإفاضةِ أيَّامَ التَّشريقِ
إذا أخَّرَ طوافَ الإفاضةِ عن يومِ النَّحرِ وأدَّاه في أيَّامِ التَّشريقِ؛ صَحَّ طوافُه، ولا شيءَ عليه.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
 نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (وأجمعوا على أنَّ مَن أخَّرَ الطَّوافَ عن يومِ النَّحرِ، فطافه في أيَّامِ التَّشريِقِ؛ أنَّه مؤدٍّ للفَرْضِ الذي أوجبَه الله عليه، ولا شيءَ عليه في تأخيرِه) ((الإجماع)) (1/59). والنوويُّ قال النووي: (فإن أخَّرَه عنه وفَعَلَه في أيَّامِ التَّشريقِ أجزأه ولا دَمَ عليه بالإجماع) ((شرح النووي على مسلم)) (9/58).
المطلب الثَّالث: آخِرُ وقتِ طوافِ الإفاضةِ
طوافُ الإفاضةِ ليس لآخِرِه وقتٌ قال ابنُ قُدامة: (الصحيحُ أن آخِرَ وقتِه غيرُ محدودٍ؛ فإنَّه متى أتى به صَحَّ بغيرِ خلاف) ((المغني)) (3/391). ، ولا يلزَمُ بتأخيرِه دَمٌ الحنفيَّةُ قالوا: يمتدُّ آخِرُ وقتِه إلى آخِرِ العُمُرِ، لكنَّه يأثمُ ويلزَمُه دمٌ إذا أخَّرَه عن أيَّامِ النَّحرِ ولياليها. قال ابن نجيم: (والمراد بالزَّمان المخصوصِ في الطَّوافِ: مِن طلوعِ الفَجْرِ يومَ النَّحرِ إلى آخِرِ العُمُر) ((البحر الرائق)) (2/330)، ويُنْظَر: ((حاشية ابن عابدين)) (2/518،519). ، وهو مذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/224)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/192). ، والحَنابِلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/588)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/391). ، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ قال النووي: (فإن أخَّرَه عن أيَّامِ التَّشريقِ؛ فقد قال جمهور العُلَماء كمذهبنا: لا دَمَ، وممَّنْ قاله: عطاء، وعمرو بن دينار، وابن عيينة، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد، وابن المُنْذِر، وهو رواية عن مالك) ((المجموع)) (8/224). ، وهو اختيارُ ابنِ باز قال ابنُ باز: (لا دليلَ لِمَن قال بعدمِ جوازِ تأخيرِ طوافِ الإفاضةِ عن ذي الحِجَّةِ، والصَّوابُ جوازُ التأخيرِ، ولكنِ الأَوْلى المبادرةُ به) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/148). ، وبه أفتَتِ اللجنةُ الدَّائمةُ جاء في فتوى اللَّجنة الدائمة: (وطوافُ الإفاضةِ رُكْنٌ مِن أركانِ الحَجِّ لا يتِمُّ إلَّا به، ووقتُه واسعٌ، لكِنِ الأَوْلى المبادرةُ به في يومِ العيدِ إذا تيسَّرَ ذلك) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (11/256).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ طوافَ الإفاضةِ ليس له وقتٌ يفوتُ بفواتِه، فإنَّه متى أتى به صَحَّ ((المغني)) لابن قُدامة (3/391).
ثانيًا: أنَّ الأصلَ عَدَمُ الدَّمِ حتى يَرِدَ الشَّرْعُ به ((المجموع)) للنووي (8/224).
ثالثًا: أنَّه طاف فيما بعد أيَّامِ النَّحرِ طوافًا صحيحًا، فلم يلزَمْه دمٌ، كما لو طاف أيَّامَ النَّحرِ ((المغني)) لابن قُدامة (3/391).
المطلب الرابع: وقتُ طوافِ الإفاضةِ الواجِبِ وما يترتَّبُ على تأخيرِه
اختلف أهلُ العِلْمِ في وقتِ طوافِ الإفاضةِ الواجِبِ قال ابنُ المُنْذِر: (ولا أعلَمُهم يختلفونَ أنَّ مَن أخَّر الطَّوافَ عن يومِ النَّحر وطاف في أيَّامِ التشريقِ؛ أنَّه مؤدٍّ للفَرْضِ الذي أوجبَه الله عليه، ولا شيءَ عليه في تأخيرِه). ((الإشراف)) (3/ 362). ، وما يترتَّبُ على تأخيرِه، على أقوال، أقواها قولان:
القول الأوّل: يجِبُ أداؤُه قبل خروجِ شَهْرِ ذي الحِجَّةِ، فإذا خرج لَزِمَه دمٌ، وهذا مذهَبُ المالِكيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/376), ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/22). واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (يجوز للإنسانِ أن يؤخِّرَ طوافَ الإفاضةِ وسَعْيَ الحجِّ لآخِرِ يومٍ مِن شَهْرِ ذي الحِجَّة، ولا يجوز له أن يؤخِّرَهما عن ذلك) ((مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين)) (21/379).
الدَّليل مِنَ الكتاب
قال اللهُ تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ دليلٌ على أنَّ الحجَّ مؤَقَّتٌ بأشهُرٍ محدَّدةٍ، لا يجوزُ تأخيرُه عنها, وتأخيرُ الطَّوافِ إلى مُحَرَّمٍ، فِعْلٌ للرُّكْنِ في غيرِ أشهُرِ الحَجِّ ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/62)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (50/261).
القول الثاني: لا يلزَمُه شيءٌ بالتأخيرِ أبدًا، وهذا مذهب الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/224). ، والحَنابِلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/588), ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/503)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لابن قُدامة (3/466). ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ قال النووي: (فإن أخَّرَه عن أيَّامِ التشريق؛ فقد قال جمهور العُلَماء كمذهبنا: لا دَمَ، وممَّن قاله: عطاء وعمرو بن دينار وابن عيينة وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد وابن المُنْذِر وهو رواية عن مالك). ((المجموع)) (8/224). ، واختاره ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أُحِبُّ ألَّا يؤخِّرَ عن يوم النَّحر، فإن أخَّرَه وطاف بعد أيامِ التَّشريقِ أجزأه ولا شيء عليه) ((الإشراف)) (3/362). , وابنُ باز قال ابنُ باز: (لا دليلَ لِمَن قال بعدم جوازِ تأخير طواف الإفاضةِ عن ذي الحِجَّة، والصواب جوازُ التأخير، ولكنِ الأَوْلى المبادرةُ به). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/148).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه لا دليلَ على عَدَمِ جوازِ تأخيرِ طوافِ الإفاضةِ عن ذي الحِجَّةِ ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/148).
ثانيًا: أنَّ الأصلَ عَدَمُ الدَّمِ حتى يَرِدَ الشَّرْعُ به ((المجموع)) للنووي (8/ 224).
المطلب الرابع: الشُّربُ مِن ماءِ زَمْزَمَ
يُسَنُّ الشُّرْبُ مِن ماءِ زَمْزَمَ نصَّ المالكيةُ والشَّافعيَّةُ والحَنابِلة على سنيَّة الشُّربِ من زَمْزَمَ مطلقًا، كما ذهب الشَّافعيَّة والحَنابِلة إلى استحباب الشرب منها بعد طواف الإفاضةِ. يُنْظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/193) ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/503)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/34)، وذهب الحنفية والحَنابِلة وبعض المالكية إلى استحباب الشرب من زمزم بعد طواف الوداع. يُنْظَر: ((الهداية)) للمرغيناني(1/151)، ((مواهب الجليل)) (4/155)، ((كشاف القناع)) (2/512) للبهوتي. قال ابنُ عثيمين: (ثبت أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد أن طاف طوافَ الإفاضةِ يومَ العيد شَرِبَ من ماء زمزمَ؛ ولهذا استحَبَّ العُلَماء أن يشرَبَ من ماءِ زمزمَ بعد طواف الإفاضةِ) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (23/218). وقال أيضًا: (اختلف العُلَماءُ رحمهم الله: هل الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرِبَ ذلك تعبُّدًا، أو محتاجًا للشرب؟ هذا محَلُّ تردُّدٍ عندي، أمَّا أصل الشربِ من ماء زمزم فسُنَّة، فما دامت المسألةُ مشكوكًا هل هي عبادة، أو طبيعة؟ فلا نقول: إنَّه يُشرَع إلَّا لو أمَرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمِنَ الممكن أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا طاف احتاج إلى الشرب، ولهذا لم يبلغْني أنَّه عليه الصَّلاة والسلام شَرِبَ حين طاف للعُمْرةِ: عُمْرةِ الجِعْرَانَةِ، وعُمْرةِ القضاء، وعلى هذا ففيه احتمالٌ قويٌّ جدًّا أنَّه شَرِبَه لحاجَتِه إليه، فالذين لم يذكرُوه لأنَّهم لا يرون أنَّه مشروع، وإنما احتاج الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يشرَبَ فشَرِبَ) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (23/220). ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/151) ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/357)، ((الفتاوى الهندية)) (1/226). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) (4/163)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/330). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) (8/270)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/511)، ويُنظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) (4/374). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 506)، ويُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (1/518)، ويُنْظَر: ((المغني)) له (3/394)، ((شرح عمدة الفقه)) لابن تيميَّة (3/550). ، وهو قولُ ابْنِ حَزْمٍ قال ابنُ حزم: (ويستحب الإكثار من شرب ماء زمزم، وأن يستقي بيده منها) ((المحلى)) (5/217).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، فذكر حديثَ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: (ثم ركِبَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأفاض بالبيتِ، فصلَّى بمكَّةَ الظُّهرَ، وأتى بني عبد المطَّلِب يَسقونَ على زمزمَ، فقال: انزِعُوا بني عبدِ المُطَّلِبِ، فلولا أنْ يغْلِبَكم النَّاسُ على سِقايَتِكم لنَزَعْتُ معكم، فناوَلُوه دَلْوًا فشَرِبَ منه) رواه مسلم (1218).
2- قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي ذرٍّ- في حديث إسلامِ أبي ذَرٍّ-: ((فمَن كان يُطْعِمُك؟)) قال قلتُ: ما كان لي طعامٌ إلَّا ماءُ زمزمَ، فسَمِنْتُ حتى تكسَّرَتْ عُكَنُ بطني (تكسَّرَتْ): انثَنَتْ لكثرَةِ السِّمَن وانْطَوَت. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 28). (عُكَن بَطْني) جمع عُكْنة: وَهِي طِيَّاتُ الْبَطْنِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 159). وما أجدُ على كَبِدي سَخْفَةَ جُوعٍ (سَخْفَةَ جُوعٍ) السَّخَف: الخِفَّةُ في كُلِّ شيءٍ. وسَخْفَةَ جوعٍ: هي الخِفَّةُ والضَّعْفُ والهُزال يعترِي الإنسانَ إذا جاعَ. يُنظر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 490)، ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 28). فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((إنَّها مباركةٌ؛ إنَّها طعامُ طُعْمٍ )) رواه مسلم (2473).
 وفي رواية: ((وشِفاءُ سُقْمٍ )) والزيادة أخرجها أبو داود الطيالسي في ((مسنده)) (459)، والبيهقي (9939). قال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/1503): ثابت، وصحَّحَ سنَدَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/246)، وقال ابنُ باز في ((فتاواه نور على الدرب)) (17/298): ثابت، وصحَّحه الألباني في ((مناسك الحج والعُمْرة)) (25).
ثانيًا: مِنَ الآثار
عن عبَّادِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ، قال: ((لَمَّا حجَّ معاويةُ رَضِيَ اللهُ عنه حجَجْنا معه، فلَمَّا طاف بالبيتِ، وصلَّى عند المقامِ ركعتينِ، ثم مرَّ بزمزمَ، وهو خارِجٌ إلى الصَّفا، فقال: انزِعْ لي منها دَلْوًا يا غلامُ، فنَزَعَ له منها دَلْوًا، فأُتِيَ به فشَرِبَ منه، وصَبَّ على وجْهِه ورأسِه، وهو يقولُ: زمزمُ شفاءٌ، وهي لِمَا شُرِبَ له )) أخرجه الفاكهي في ((أخبار مكَّة)) (1096) موقوفًا. حسَّنَ إسنادَه موقوفًا ابنُ حجرٍ في ((ماء زمزم)) (32) وقال: وهو أحسَنُ مِن كل إسنادٍ وقَفْتُ عليه هذا الحديث.

انظر أيضا: