مقالات وبحوث مميزة

 

أسمارُ "النَّقْدِ التَّاريخيِّ" ... وزخارِفُ "البَحثِ العِلْميِّ"

قِراءةٌ نَقْديَّةٌ لمقالةِ الأسْتاذِ عَبْدِ اللهِ الغِزِّيِّ

عن صِفةِ الكَلامِ للباري سُبْحانَه.

(الحلْقةُ الثَّالثةُ)

المزاجيَّةُ والتَّقلُّبُ في التعامُلِ مع المصادِرِ

الشَّيخُ الدُّكتور بَنْدر بن عبدالله الشُّويقيُّ

 

أنا الباحثُ الأميَزُ، فمن أنتم؟!

في مطلَعِ الحلقةِ الأُولى من هذه السِّلسلةِ رجَوتُ: "ألَّا يقعَ الأستاذُ في الخطأِ الشَّائِعِ الذي تورَّطَ فيه كثيرون قبله، ممن يُخطِئون ويَغلِطون، ثم لا يرون في أصواتِ النُّصحِ والنَّكيرِ عليهم إلَّا دَلالاتٍ على العصبيَّة والجهلِ ورَفضِ الإبداعِ والتميُّزِ".

قلتُ هذا، ثم رأيتُ الأستاذَ علَّقَ بمنشورٍ من الحشْوِ والمغالطاتِ، جاء في صفحتِه التاسعةِ هذه العبارةُ: "إنَّ مما يتعجَّبُ منه المرءُ غايةَ العجَب: أن يخوضَ أحدُهم في بحثِ هذه المسائِلِ والاعتراضِ على أهلِ الاختصاصِ المشارِ لهم بالتميُّز فيها، وهو لا يعرِفُ مقالتَه الاعتقاديَّة التي كانت موضوعَ البحثِ".

هذا ما كتبه الأستاذُ كفاه الله شرَّ نَفْسَه وأَشَرَها، ورزقه التُّؤَدةَ وحُسْنَ التبصُّرِ.

وما أعجَبَتْني قَطُّ دعوى عريضةٌ *** ولو قام في تصديقها ألفُ شاهِدِ.

تلك الدَّعوى العريضةُ التي ادَّعاها الأستاذُ لنَفْسِه لو كانَتْ صَحيحةً لكانَ تَكلُّمُه بها كريهًا مُستقبَحًا، كيف والحالُ على ما رأينا وعلى ما سنرى في هذه الحلقةِ وما يتلوها بإذن الله؛ حيث سنقفُ على المزيدِ والمزيدِ من واقعِ: "أهلِ الاختصاصِ المشهودِ لهم بالتميُّز"!

ولو أردتُ مُجاراةَ الأستاذِ في مَسعاه لِحَرْفِ مسارِ هذه المباحثاتِ، واجتهادِه في صرفِها إلى خُصومةٍ شخصيَّةٍ؛ لنقَلْتُ له هنا ما يَصِلُني مِن رسائِلَ تلومُ على التَّشاغُلِ به، وتَنتقدُ مخاطَبتي له بلقَبِ الأستاذِ. غيرَ أنَّ العدلَ الذي أُمِرْنا به يجعَلني أقرُّ -بلا غضاضةٍ- أنَّ أخانا لديه ما يمكنُ أن يقدِّمَه في ميدانِ البحثِ العَقديِّ، لولا اندفاعاتُه غيرُ المحسوبةِ التي أعزوها إلى نقصٍ في المكَوِّناتِ العلميَّةِ الضروريةِ لبناءِ الشخصيةِ المتوازنةِ للباحثِ في العلومِ الشرعيَّة، إضافةً إلى إشكالاتٍ منهجيةٍ ومسلكيَّةٍ عدَّةٍ تتطلَّبُ المراجعةَ وتصحيحَ المسارِ. غيرَ أني على قناعةٍ أنَّ هذه المراجعة إن قُدِّرَ لها أن تحصُلَ، فلن تكون إلا من خلال كشْفِ الخَلَلِ بجميعِ أبعادِه بلُغةٍ صريحةٍ لا مجاملةَ فيها، وإن كان في هذا ما قد يَثقُلُ على الأستاذِ.

وفيما يأتي عرضٌ لواحدةٍ من إشكالاتِ الأستاذِ المنهجيَّةِ:

المزاجيَّةُ والتَّقلُّبُ في التعامُلِ مع المصادِرِ:

أسبابٌ عِدَّةٌ تجعلُني أقولُ: إنَّ كثيرًا مِن حديثِ الأستاذِ عن النقدِ التاريخيِّ وعن أصولِ البحثِ العِلميِّ لا يعدو أن يكونَ أسمارًا وزخارِفَ لفظيَّةً. ويأتي في صدارةِ تلك الأسبابِ أنَّ الأستاذَ يؤسِّسُ للقاعدةِ البحثيةِ، ثمَّ يُشيدُ بنيانَها، ويُفَخِّمُ من شأنها حين يريدُ أن يتَّكِئَ عليها في نقدِ الآخرينَ، غيرَ أنَّ تلك القاعدةَ البحثيةَ نفسَها إذا وقفت أمام ما يرومُ هو الوصولَ إليه، فإنَّه لا يجِدُ غَضاضةً في تجاهُلِها، ووَطْئِها بكلتا قدميه، ثم رَمْيِها وراءَه ظِهْريًّا! يفعلُ هذا ثم يعودُ ليهجوَ الباحثَ "الرِّسالي" الذي يعاني من "انحرافٍ مفاهيميٍّ" تحت تأثيرِ "انتمائِه ومجتَمَعِه الدينيِّ في عمليةِ دراسةِ النصوصِ التاريخيةِ؛ من أجلِ توظيفِها في خِدمةِ أجِنداتِه"(1)!

الأستاذ -مثلًا- سبق أن كتب قبل بضعِ سنواتٍ مقالةً في تخطئةِ ابنِ تيميَّةَ في تصويرِ مذهَبِ مُتقَدِّمي الأشعريَّةِ في الصِّفاتِ الخَبريَّةِ. فكرةُ المقالة لم تكُن من إنتاجِ عقلِ الأستاذِ وقَلَمِه، فهي في الأصلِ رأيٌ لبعضِ الأشعريَّة المعاصرين، لكنَّ الأستاذَ لم يُشِرْ لذلك قطُّ في مقالتِه.

تلك المقالةُ وما فيها من خللٍ ليست موضوعَنا الآن، وربَّما يكونُ لنا عودٌ إليها لاحِقًا إن أذِنَ اللهُ. ما أريدُه هنا فقط عبارةٌ ختَمَ بها الأستاذُ كلامَه؛ إذ قالَ:

"هذا -بلا شَكٍّ- يؤكِّدُ من أهميَّةِ ما أكثَرْتُ من ترديدِه في مقاماتٍ متعدِّدةٍ، وهو وجوبُ الاعتمادِ الكُليِّ على المصادِرِ الأصليَّةِ للطَّوائِفِ في دراسةِ مُعتقداتِها، وعَدَمُ الاكتفاءِ بالمصادِرِ الثانويةِ مهما كانت مكانةُ مؤَلِّفيها"(2).

بعد ذلك كتب الأستاذُ مقالةً ثانيةً في المسألة نفسِها، فكان مما قاله فيها:

"إنَّ من مكامِنِ الخَلَلِ لدى بعض الباحثين اعتمادَه على المصادِرِ الثانويةِ في دراسة آراءِ المذاهِبِ العَقَديَّةِ الأُخرى... من المؤكَّدِ أن أيَّ دراسةٍ عقديةٍ تبحث عقائدَ الطوائفِ الأخرى بمِثلِ هذه الطريقةِ لن تكونَ أحكامُها دقيقةً بالقَدْرِ الذي يجعَلُها في مصافِّ الدِّراساتِ العِلميَّةِ المتينةِ"(3).

هنا نفهَمُ أنَّه لأجلِ تحريرِ مَذاهبِ الطَّوائفِ يجبُ الاعتمادُ الكُليُّ على المصادرِ الأصليةِ للطوائِفِ، وعدَمُ الاكتفاءِ بالمصادرِ الثانويةِ مهما كانت مكانةُ مؤلِّفيها، وأنَّ الدراسةَ التي تخالِفُ هذا لا تصلُحُ أن تُعَدَّ في مصافِّ الدراساتِ العِلميَّةِ المتينة!

هذا ما قاله الأستاذُ وهو يتحدَّثُ عن مذهَبِ الأشعريَّةِ.

أمَّا المعتزلةُ فقد قرأت له منشورًا على قناته في (التيليجرام) قال فيه:

"في هذا الزمَنِ، مع وجودِ المصادِرِ وسهولةِ الوصولِ إليها، لا ينبغي أن تحرَّرَ عقائِدُ المعتزلةِ من كتُبِ خُصومِهم، فأغلَبُ ما تراه في كتبِ العقائدِ والمقالاتِ عنهم إمَّا أوهامٌ في النقلِ عنهم، وإمَّا أكاذيبُ عليهم. ويجب -أيضًا- أن تمزَّق بعضُ الأبحاثِ المعاصِرة التي كُتِبَت عنهم؛ لأنها بُنِيَت على تلك المصادِرِ".

لنقرَأْ هذه الكلامَ، ولنتذكَّرْ ما نقلتُه عن الأستاذ في الحلقةِ الثانيةِ من هذه السلسلةِ حين كان يعترضُ على قولِ ابنِ تيميَّةَ: إنَّ كثيرًا من المتكلِّمين لا يُحرِّرون مَذهبَ أهلِ الحديثِ، فهناك كان الأستاذُ يستنكرُ ويقولُ: "هذه دعوى لا يمكِنُ قَبولُها هكذا بإطلاقٍ؛ فنحن نتحدَّثُ عن مجتَمَعاتٍ مُتداخِلةٍ، وإن افترَضْنا جَهْلَ مَعرفةِ قَولٍ فَرعيٍّ، فكيف بأصلٍ كُليٍّ"(4).

الأستاذُ الذي قال هذا الكلامَ نراه عندما يأتي الكلامُ عن المعتزلةِ ينسى قصَّةَ المجتمَعاتِ المتداخِلةِ، فيُعلنُ بجزمٍ وحزمٍ أنَّ (أكثر!) ما يُنسَبُ للمعتزلةِ في كتبِ العقائدِ والمقالاتِ إمَّا أوهامٌ في النَّقلِ عنهم، وإمَّا أكاذيبُ عليهم! وكلامُه هنا ليس عن خطأٍ في نقلِ قَولٍ فَرعيٍّ، أو حتى أصلٍ كليّ، بل عن (أكثر!) ما يُنقَلُ عن المعتزلةِ أُصولًا وفُروعًا!

فمن المقبولِ عند الأستاذِ تخطئةُ كُتُبِ العقائدِ والمقالاتِ في أكثَرِ ما تنقُلُه عن المعتزلةِ، أمَّا أن يقالَ: مُصنِّفو تلك الكُتُبِ لا يُحرِّرون مَذهبَ أهلِ الحديثِ، فهذا القولُ لا يمكِنُ قَبولُه!

لماذا لا يمكِنُ قَبولُه؟ لأنَّ المجتمعاتِ كانت متداخِلةً!!

فالمجتَمَعاتُ تتداخل إذا أراد الأستاذُ أخْذَ مَذهَبِ أهلِ الحديثِ من كتبِ الكلامِ، لكنَّها ترجِعُ لتتفَرَّقَ وتتباعدَ عند البحثِ عن مذهَبِ المعتزلةِ! مع أنَّ الدارسَ لتاريخِ العقائدِ يُدركُ أن التداخُلَ بين مجتَمَعاتِ المذاهِبِ الكلاميَّةِ على اختلافِها أظهرُ من تداخُلِها مع مجتَمَعِ أهلِ الحديثِ والأثَرِ، ولا أدلَّ على ذلك من نُدرةِ ذِكْرِ أهلِ الحديثِ في كتُبِ الكلامِ نِسبةً إلى ذِكرِ غيرِهم من أصحابِ المذاهِبِ الكلاميَّةِ المشهورةِ.

نضعُ هنا علامةَ استفهامٍ ضخمةً مقرونةً بالتعجُّبِ.

ثم نواصِلُ استعراضَ إجراءاتِ الأستاذِ البحثيَّةِ.

* * * *

الأستاذُ -كما رَأيْنا- عندَما تحدَّثَ عن الأشعريَّةِ والمعتَزِلةِ كان يؤكِّدُ على الرجوعِ إلى مصادِرِهم الأُصولِ، ويحذِّرُ من الأخذِ عن المصادِرِ الثَّانويةِ أو من كُتُب المقالاتِ مهما كانت مكانةُ مؤلِّفيها، وكان من رأيِه أنَّ الأبحاثَ التي تعتمدُ على المصادِرِ الثانويةِ لا تستحِقُّ أن تُذكَرَ في مَصافِّ الدراساتِ العِلميةِ المتينةِ، بل يجبُ تمزيقُها!!

لكن ماذا عن مذهَبِ أهلِ الحديثِ؟

أيجوزُ -عند الأستاذ- أخذُ مذهَبِهم من كتُبِ مخالفيهم، أو من المصادِرِ الثانويةِ؟

سنعرفُ جوابَ هذا حين نراه في مقالتِه الأخيرةِ يضعُ هذا العنوانَ: "الإشكالُ التاريخيُّ في حضورِ مسألةِ القِدَمِ النوعيِّ لصِفةِ الكلامِ في زمَنِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ"(5).

وتحت هذا العنوانِ تحدَّث الأستاذُ عمَّا نسبه ابنُ تيميَّةَ لأحمد ولأهلِ الحديثِ، وكان مما قاله: "يجِبُ أن نفحَصَ عن مدى حضورِ هذا القولِ في المجتَمَعِ الإسلاميِّ في زمَنِ الإمامِ، ولا يمكِنُنا التأكُّدُ من مستوى حضورِ هذا القولِ إلَّا بالنظَرِ في المصنَّفاتِ العَقَديَّةِ المتقَدِّمةِ".

هذه التَّوطِئةُ أوهمَتْني أوَّلَ وهلةٍ أنَّ أهلَ الحديثِ سيكونُ نصيبُهم كالمعتَزِلةِ والأشعريَّةِ، فيكونُ من حقِّهم ألا يؤخَذَ قولُهم إلا من تصانيفِهم الأصولِ، فلا يُعتمَدُ في تحريرِ قولهم على المصادِرِ الثانويةِ مهما كانت مكانةُ مؤلِّفيها، مع وجوبِ تمزيقِ الأبحاثِ التي تعتَمِدُ في تحريرِ مَذهَبِ أهلِ الحديثِ على كُتُبِ العقائِدِ والمقالاتِ، أو من كُتُبِ خُصومِهم.

هذا ما ظنَنْتُه ...

لكني رأيتُ الأستاذَ نَكَص فاستدارَ، وأردف قائلًا:

"لا شَكَّ أن تتبُّعَ عامَّةِ هذه المصنَّفاتِ من مختَلِفِ الطوائِفِ فيه قدرٌ من الصعوبةِ ولا يتَّسِعُ المجالُ له، لكن ليقتَصِرْ تتبُّعُنا الآن على المصنَّفاتِ التي تعتني بذِكرِ الخلاف العالي بين عمومِ الطوائِفِ. لذا سوف نستعرِضُ هنا بعض المصنَّفاتِ المخصَّصةِ في المِلَلِ والنِّحَل، أو ما يُعبَّر عنه بكُتُبِ تاريخِ المذاهبِ العَقَديَّةِ، وسنحرِصُ في هذه الفقرةِ على استعراضِ المصنَّفاتِ المتقَدِّمةِ منها، التي كانت قريبةً مِن زمَنِ الإمامِ. فعندما نتصفَّحُ كُتُبَ المتكلِّمين الذين يعتنون برَصدِ الخِلافِ العَقَديِّ في مصنَّفاتهم في تاريخِ المقالاتِ والفِرَقِ في القرنينِ الثالثِ والرابعِ، فإنَّنا لا نجِدُ ذكرًا لهذا القولِ، وليس له ذلك الحضورُ الذي نراه مع الأقوالِ الأخرى في صفةِ الكلامِ".

فها هو الأستاذ يعودُ ليهدِمَ ويَطَأَ القاعِدةَ البحثيةَ التي سبق أن شيَّدها عند كلامِه عن الأشعريةِ والمعتزلةِ؛ ليَشرَعَ بعدها في التمهيدِ لمنهجيَّةٍ معاكِسةٍ تبحثُ عن مذهَبِ المُحَدِّثينَ في كُتُبِ تاريخِ المذاهِبِ العَقَديةِ (مصادِر ثانوية)، وفي كُتُبِ المتكَلِّمين (مخالفين وخُصوم)!

وبعد هذه التوطئةِ المزاجيَّةِ التي تُمهِّدُ لقَلْبِ منهجِ البحثِ الذي كان ينادي به، قال الأستاذُ: "سنكتفي في العَرْضِ هنا على أربعةِ كتُبٍ منها، حتى نرى مدى حضورِ هذا القولِ في تلك الِحقبةِ التاريخية"(6). ثم شرع في استعراضِ أربعةِ مصادِرَ:

1-كتاب (الطَّبقات السَّبع)، لمحمد بن شجاع الثلجي، الملقَّب بـ (تُرْس الجهميَّة)(7)!

2-كتاب (المقالات) لأبي القاسِمِ البَلْخي الكعبي؛ أحَدِ رؤوسِ الاعتزالِ في وقته!

3-كتاب (المقالات) المنسوبِ لأبي العبَّاس القلانسي، المنسوبِ لمذهَبِ الكُلَّابيَّة.

4-كتاب (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسَنِ الأشعريِّ.

تلك هي المصادِرُ التي كان الأستاذُ يُفَتِّشُ فيها عن مذهَبِ المحَدِّثينَ، وجميعُها -كما نرى-مصادِرُ ثانوية، وكلُّها -بلا استثناءٍ-من كتُبِ المخالِفين!

الأستاذُ أعرضَ هنا إعراضًا تامًّا عن كتُبِ المحَدِّثين رَغْمَ أصالتِها وكثرتِها وتقدُّمِها الزَّمني، وذهب يستعرِضُ تلك المصادِرَ الثانويَّةَ الأربعةَ، وحيث لم يجِدْ فيها ما نسبه ابنُ تيميَّة لأحمد ولأهل الحديث سأل مستنكرًا: "أين أثرُ أهلِ الحديثِ في تلك الحِقبةِ -وهم مجتمَعٌ واسعٌ، وحضورُهم في تلك الحِقَبِ مؤثِّرٌ- في تجلِّي رأيهم هذا لدى مؤرِّخي المقالاتِ والفِرَق؟!"(8).

أظنُّ القارئ هنا يملكُ حقَّ التساؤلِ عن هذا التناقُضِ الصاخِبِ، وبخاصةٍ عندما يصدُرُ ممن أقاموا أنفُسَهم حُكَّامًا تُقلِقُهم الإجراءاتُ البحثيةُ المُختَزَلةُ!

بل إنَّ القارئَ هنا يملِكُ حقَّ الحُكمِ بوجوبِ تمزيقِ ما سوَّده الأستاذُ في ورقتِه هذه على الأقَلِّ، ولا تثريبَ بعد هذا على أمثالي ممن يقولون: إنَّ الأستاذَ لا يتَّبِعُ أصولَ البحثِ والنقدِ التاريخيِّ، وإنما يتخِذُ منها زخارِفَ يزيِّنُ بها كلامَه، ويوظِّفُها في نَقدِ غَيرِه فقط!

على أنَّا لو تجاوَزْنا عن تناقُضِ الأستاذِ وازدواجِ معاييره، فإنَّ المشكلةَ هنا لا تنحصِرُ في تعويلِه على المصادِرِ الثانويةِ وحَسْبُ؛ فالمصادرُ الثانويةُ وإن كانت في رُتبةٍ دون رُتبةِ الأصولِ إلَّا أنَّها تبقى -في الجُملة- مصادِرُ لها اعتبارُها متى أحسن الباحِثُ اختيارَها وأجاد التعامُلَ معها.

فهل أحسن الأستاذُ اختيارَ مصادِرِه الثانوية؟ وهل أتقن التعامُلَ معها؟

هذا ما سنعرفه فيما يأتي؛ حيث سيرى القارئُ المزيدَ من تجلياتِ أهلِ الاختصاصِ المشهودِ لهم بالتميُّزِ!

مصادِرُ ثانويةٌ ... وغيرُ موثوقة أيضًا!

الكارثةُ البحثيَّةُ الكُبرى التي جناها الأستاذُ كانت في نوعِ المصادِرِ التي اختارها ليؤسِّسَ عليها مذهبيَّته، ويخدُمُ بها رساليَّته، ويدعمُ أجندتَه. (وهذه الألفاظُ مستعارةٌ من قاموس الأستاذ).

فمن المفترضِ أن المصادِرَ والوثائِقَ تكتَسِبُ قيمتَها ووزنها حسبَ معاييرَ عِلميَّةٍ صادقةٍ، غيرَ أني رأيتُ المصادِرَ عند الأستاذ تكتَسِبُ قيمتَها بقَدْرِ دَعْمِها للهَدَفِ والرسالةِ!

يتَّضِحُ هذا باستعراضِ حالِ مصادِرِه الأربعةِ وحالِ مؤَلِّفيها؛ فأوَّلُ هذه المصادِرِ:

1-كتاب (الطبقات السَّبْع)، لمحمد بن شجاع الثلجي، الملقَّب بتُرس الجهميَّة.

هذا الكتابُ مفقودٌ، والأستاذُ اعتمد على نُتفةٍ قصيرةٍ منه لا تبلغ الصَّفحةَ الواحدةَ نقلها رأسُ الاعتزالِ أبو القاسمِ الكعبيُّ البلخيُّ المعتزليُّ في كتابه (المقالات)؛ فالأستاذ تركَ كتُبَ المحَدِّثين، وذهب يبحَثُ عن مذهَبِهم في نتفةٍ قصيرةٍ ينقُلُها رأسُ المعتزلةِ، عن تُرسِ الجهميَّة!

تلك النتفةُ القَصيرةُ كانَ الثلجيُّ يزعُمُ أنَّه يعدِّدُ فيها مَذاهبَ نُفاةِ خَلقِ القرآن، وفي رأي الأستاذِ أنَّ ما نسبه ابنُ تيميَّة لأحمد ولأهل الحديث غيرُ مقبولٍ؛ لأنَّ تُرْسَ الجهميَّةِ هذا لم يذكُرْ ذلك القولَ في نُتفتِه التي لخَّصَ فيها مذاهِبَ نُفاةِ خَلقِ القرآنِ!

وعندَ هذا الموضعِ سوف نَقرأُ كلامًا للأستاذِ تتجلَّى فيه من جديدٍ قصَّةُ الأسمارِ والزَّخارفِ، فهُوَ لمَّا أرادَ أن يرفَعَ من شأنِ النُّتفة الثلجيَّة ويُعلي من قيمتها في تحريرِ مذهَبِ أهلِ الحديثِ، قال: "هذا المصدَرُ المفقودُ يَكتَسِبُ أهميةً بالغةً؛ فمؤلِّفُه معاصِرٌ لمحنةِ القَولِ بخَلقِ القرآنِ، وهو صاحِبُ مواقِفَ سلبيَّةٍ تجاه الإمامِ، فهو يحكي واقعًا شاهَدَه".

الأستاذُ هنا يُعَلِّلُ أهمية نُتفَتِه، فيذكُرُ أنَّ الثلجيَّ معاصِرٌ لمحنةِ القولِ بخَلقِ القرآنِ، وهو أيضًا صاحِبُ مواقِفَ سلبيةِ تجاهَ الإمامِ أحمدَ!

فأمَّا كونُه معاصرًا لمحنةِ خَلقِ القرآنِ، فسأُهدي الأستاذَ إحدى نصائِحِ عبد الرحمن بدوي التي فرَّط فيها هنا: "يجِبُ ألا نَثِقَ في روايةٍ لمجرَّدِ أنَّ صاحِبَها شاهِدُ عِيانٍ، فشهادةُ العِيانِ ليست بصحيحةٍ دائِمًا"(9).

وأمَّا كونُ الثَّلجيِّ صاحِبَ مواقِفَ سلبيةٍ تجاه الإمامِ أحمدَ، فلم أفهمْ إلى ساعتي هذه كيف يُذكَرُ هذا في سياقِ بيانِ (الأهمية البالغة!) لكلامِه، وأخشى أنَّ هذا خَطُّ رجعةٍ ثانٍ، يُشبهُ الأوَّلَ الذي ذكره الأستاذُ حين اعتضدَ بالخُرافةِ (الخَرط)، ثم أشارَ إلى الحَذَرِ في قبولِها(10)!

ذاك الثَّلجيُّ الذي كان الأستاذُ يفتِّشُ عن مذهَبِ أهلِ الحديثِ عندَه، كانَ من أصحابِ بِشْرٍ المِرِّيسيِّ(11)، وكان خَصمًا عنيدًا، وعدوًّا عتيدًا لأهلِ الحديثِ وللإمام أحمدَ خاصةً. روى عليُّ بنُ الجهم عنه أنَّه كان يقول: "أصحابُ أحمد يحتاجُون أن يُذبَحوا"، وكان يقولُ: "عند أحمدَ بنِ حَنبلٍ كُتُبُ الزَّنْدقةِ". وكان الإمامُ أحمدُ قد أمر بهَجْرِه لأجْلِ وَقْفِه في خلقِ القرآنِ، ثم إن الثلجيَّ بعد ذلك زاد على الوقفِ، فكتب في وصيَّته ألا يُعْطَى من ثُلُثِه إلَّا من يقول: "القرآنُ مخلوقٌ"، وأشهَدَ على هذا قاضيَ بغداد أبا حسَّان الزِّيَادي(12)!

يضاف لهذا كلِّه ما رواه حَنْبَلُ بنُ إسحاقَ في كتاب المحنة أنَّ هذا الثلجيَّ رفَعَ إلى الخليفةِ المتوكِّلِ وشايةً في الإمامِ أحمد؛ أنَّه يخبِّئُ عنده في منزلِه عَلَويًّا يريدُ مبايعَتَه على خلعِ المتوكِّل، فجاء الجُندُ إلى بيت أحمد، و "فتَّشوا منزِلَ أبي عبد اللهِ، والسربَ والغُرَفَ والسُّطوحَ، وفتَّشوا تابوت الكُتُبِ، وفتَّشوا النساءَ والمنازِلَ". فلما تحقَّقوا كَذِبَ الوشايةِ أرسل المتوكِّلُ إلى أحمد بمالٍ يعتذر منه، فلم يقبَلْه أحمدُ(13).

هذا موقِفُ الثلجيِّ من أحمدَ.

أمَّا عن موقفِه من عمومِ المحَدِّثين وموقِفِ المحَدِّثين منه، فيشرَحُه قولُ الحافظِ أبي أحمد بن عَدِيٍّ عنه: "كذَّابٌ، كان يضَعُ الحديثَ ويدُسُّه في كتُبِ أصحابِ الحديثِ". "كان يضَعُ الحديثَ في التشبيهِ، يَنسُبُه إلى أصحابِ الحديثِ لِيَثلِبَهم به... فلا يجِبُ أن يُشتَغَلَ به؛ لأنَّه ليس من أهلِ الروايةِ، حمَلَه التعصُّبُ على أنْ وَضَع أحاديثَ يَثْلِبُ أهلَ الأثَرِ بذلك"(14)! فلذلك قال عنه الحافِظُ زكريا الساجي: "كان كذَّابًا"(15)!

فكما نرى: الثلجيُّ خصمٌ مُفتَرٍ وعدوٌّ لدودٌ لأهل الحديث، ومع ذلك كان الأستاذ يبحثُ عنده عن مذهَبِهم! وكأني بالإمامِ عثمانَ الدَّارمي كان يخاطبُ الأستاذَ حين قال: "سَمِّ لنا رجلًا صالحًا رَضِيَ بالثلجيِّ في الفُتيا والرِّواية إمامًا، أو رَضِيَ به في السُّنةِ نِظامًا، أو روى عنه شيئًا، أو حمد له مذهَبًا"(16).

ربَّما ينازِعُ الأستاذُ في كَذِبِ الثَّلجي وسقوطِ أمانتِه، وربما عدَّ كلامَ أهلِ الحديثِ فيه من آثارِ الصِّراعاتِ (الطائفيَّةِ الشَّعبويَّة!)، لكنَّه -على الأقلِّ- لن يستطيعَ المجادلةَ في كونه خَصمًا عدُوًّا لأحمد ولأهلِ الحديثِ، فكان المنتَظَرُ من الأستاذ ألا يعطِيَ لكلامِه (أهميَّةً بالغةً!) بعدما حرَّم وجرَّم تحريرَ مذاهِبِ المعتزلةِ مِن كلامِ خُصومِهم!

ثم إنَّا لو تجاوَزْنا عن كونِ الثلجيِّ خَصمًا وعدوًّا، فسنأتي لمشكلة أخرى كبيرةٍ تتعلَّقُ بطريقة نقْلِه وتفسيرِه أقوالَ أهلِ الحديثِ. فلو رجعنا إلى النُّتفةِ (البالغة الأهميَّة!) التي يستشهِدُ بها الأستاذ، نجد الثلجيَّ يذكُرُ فيها أنَّ الفِرَقَ "التي انتحلت أنَّ القرآنَ ليس بمخلوقٍ...افترقوا بسبع فِرَقٍ، فقالت فرقة: إنَّ القرآنَ هو الخالِقُ...."(17).

هذا النقلُ عن نُفاةِ خَلقِ القرآنِ نقلٌ محرَّفٌ، وأصلُه -كما روى الخلَّال- أنَّ هذا الثلجيَّ سمع رجلًا من أهلِ الحديثِ تلا قولَه تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله)، فقال الرُجل: "أي: ردُّوه إلى كتابِ اللهِ". فلما سمع الثلجيُّ ذلك صار يحكي أنَّ من نُفاةِ خَلقِ القرآن من يقولُ: (القرآنُ هو الله)(18)! ثم سرى هذا النقلُ من الثلجي إلى بعضِ كُتُبِ المقالاتِ، فصار أصحابها يحكونَ هذا القولَ في جملةِ مذاهِبِ نُفاةِ خَلقِ القرآن(19)؛ ليأتيَ الأستاذُ في آخر المسيرة، فيشارِكَ في نقلِ هذا التحريفِ، رَغْمَ أنَّه يكتُبُ تحت شعارِ: "النقد التاريخي"!

والثلجيُّ بعدما نقل هذا الإفكَ انتقل إلى تحريفٍ ثانٍ نسبه -أيضًا- إلى نُفاة خلق القرآن، فقال: "وقالت فرقةٌ: إنَّه بعضُه"، أي: أنَّ القرآنَ بعضُ الخالق سبحانه وتعالى! وهذا النقلُ لا يُعرَفُ عن أحدٍ من نُفاةِ خَلْقِ القرآنِ، وقد نسبه المعتزليُّ محمد بن شدَّاد، الملقَّب بزُرقان (278هـ) للإمام وكيعِ بن الجرَّاح، وحاشا وكيعًا أن يقولَ هذا! والمحفوظُ عنه إنما هو قوله: "من قال: إنَّ كلامَ اللهِ ليس منه، فقد كَفَر"(20)، وهذا المعنى معروفٌ منقولٌ عن غير واحدٍ من الأئمَّةِ، وليس المقصودُ به أنَّ القرآنَ بعضُ الله -تعالى الله وتقدَّس-، بل المرادُ أنَّ الكلامَ من صفاتِ الله، ولم ينطِقْ أحدٌ من الأئمَّةِ بأنَّ القرآنَ بعضُ الخالِقِ، لكِنْ هذا ما حكاه زُرقان وقَبْلَهُ نقله الثلجيُّ في نتفته (البالغة الأهميَّة!) التي يستشهِدُ به الأستاذُ، ثم سرى هذا النقلُ -أيضًا- إلى كتُبِ المقالاتِ، التي صارت تحكي هذا القولَ وتنسُبُه لبعضِ نُفاةِ خَلقِ القرآنِ(21). ولعلَّ الأستاذَ يتأمَّلُ الآن معنى قولِ ابنِ تيميَّةَ: إنَّ كثيرًا من المتكَلِّمينَ لا يُحرِّرون كلامَ السَّلَفِ.

وقد زاد الثلجيُّ في القُبحِ فجاء بثالثةِ الأثافيِّ، حين ذكر فِرقةً أخرى من نُفاة خَلقِ القرآنِ زعم أنها تقولُ: إنَّ "الله بعضُ القرآنِ"؛ لأنَّ اللهَ مُسَمًّى فيه، وهذا النقلُ أيضًا مُثبَتٌ في النُّتفةِ الثلجيَّة(22) التي استبشر بها الأستاذُ، وأعطاها (أهميَّةً بالغة!).

فما الذي يمكِنُ أن يقالَ للأستاذِ هنا؟

وهل لتصرُّفِه هذا عَلاقةٌ بمسالِكِ أهلِ الاختصاصِ المشارِ لهم بالتميُّز؟!

في تقديري أنَّ من يبحَثُ عن مذهَبِ المحَدِّثينَ عند مِثْلِ الثلجيِّ لا يستحقُّ أن يُعَدَّ في أهلِ الاختصاصِ، فضلًا عن أن يكونَ من أهلِ التميُّزِ فيهم، بل حقُّه أن يُسحَبَ القَلَمُ من يده، ويُضرَبَ على ظَهرِ كَفِّه، ثم يُدفَعَ إلى من يبدأُ تعليمَه (ألف باء) النقد التاريخي، ومبادِئ البَحْثِ العِلميِّ!

2-كتابُ (المقالات) لأبي القاسم الكَعبيِّ، البَلْخيِّ، المعتزليِّ.

بعد النَّقْلِ عن الثلجيِّ، بواسطةِ رأسِ الاعتزالِ أبي القاسِمِ الكعبيِّ البَلخيِّ، تحوَّل الأستاذُ إلى البلخيِّ نَفْسِه، فذهب يبحثُ في كتابه (المقالات) عن مذهَبِ أهلِ الحديثِ!

وعند هذه النقطةِ سأحتاج للعودةِ بالقارئ الكريم إلى بحثٍ نشره الأستاذُ قبل بضعة أشهرٍ، عنوانه: (قراءةٌ في نص "الرَّد على الزنادقةِ والجَهْميَّة")، فبالرجوعِ لشَيءٍ ذكره الأستاذُ هناك سوف يتضح سببُ قولي: إنَّ الأستاذَ صاحِبُ أسمارٍ وزخارِفَ!

في ذلك البحث ِكان الأستاذ يرغَبُ في نفي نسبةِ رسالة (الرد على الزنادقة) للإمام أحمد، ويريدُ إثباتَ أنَّها من تصنيفِ مُقاتِلِ بنِ سُليمانَ. غيرَ أنَّ الأستاذَ واجه مشكلةً تتعلَّقُ بتناقُضِ محتوى الرسالةِ مع شيءٍ حكاه البلخيُّ عن مقاتِلِ بنِ سُلَيمانَ في كتاب (المقالات) الذي يعتمدُه الأستاذُ هنا في تحريرِ مذهَبِ أهلِ الحديثِ.

البلخيُّ حكى عن مقاتلٍ أنَّه كان يقولُ: إنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- "جِسمٌ ولحمٌ ودمٌ وذو جوارح وأعضاء على صورة الإنسان، وله جوارح وأعضاء"(23).

هذا النقلُ عن مقاتلٍ يتناقضُ مع محتوى رسالة (الرَّد على الزنادقة) التي يريدُ الأستاذُ نِسبتَها لمقاتل، فكان لا بُدَّ للأستاذ من الاستنجادِ بقواعد "النقد التاريخي" الموضوعة على الرَّفِّ، فانطلق يشكِّكُ في مصداقيةِ البَلْخيِّ ويَطعَنُ في نَقلِه عن مقاتِلٍ!

بدأ الأستاذُ أولًا بالتساؤُلِ عما إذا كان البلخيُّ حكى "ما ظنه لازمًا لقولِ (مقاتل)، أو سعيًا منه لإرادةِ التشنيع".

ثم استنجدَ الأستاذُ بابن تيميَّة، وقال: "لا يبعُدُ في الواقعِ أن يكونَ -كما يذكر تقيُّ الدِّينِ ابن تيميَّة- حَدَث تشويهٌ في حكايةِ قَولِ المفسِّر (مقاتل)، فكُتُب العقائِدِ ليست مصدرًا موثوقًا لمعرفةِ آراء مُخالِفِي مؤلِّفِ الكتابِ، من أيِّ مذهبٍ كان".

هكذا قال الأستاذُ: "كتب العقائد (والكلامُ هنا عن كتابِ البَلْخي) ليست مصدرًا موثوقًا لمعرفةِ آراءِ مخالفي مؤلِّفِ الكتابِ من أيِّ مذهبٍ كان"!

ثم انعطف الأستاذُ -بعد ذلك- ليُعطي درسًا في الحَذَرِ من أخْذِ مذاهِبِ الطوائف من كتُبِ مخالفيها الذين يحكونها عادةً من خلالِ تصوُّراتهم الخاصَّةِ.

قال الأستاذ -وقاه شرَّ طفَراتِه-:

"هذه قضيَّةٌ منهجيةٌ كبرى في دراسةِ المذاهِبِ، ما أكثَرَ ما يَغفُلُ عنها الباحثون؛ إذ يقعُ الالتباسُ لدى هؤلاء بين المفاهيم المذهبيَّة التي تنشأ لدى متكلِّمِ المذهَبِ بسبب تأثيرِ خَلفيَّاتِه العَقَديَّةِ وواقِعِه الاجتماعيِّ في نَظرتِه للآخَرِ وحكايةِ مقالاته، وبين المذهَبِ المخالِفِ كما هو في صورتِه الواقعية مُنزَّهًا من تأثيرِ تلك الخَلْفيَّاتِ والمواقِفِ، فقلَّما يحكي متكَلِّمو المذاهِبِ مذاهِبَ مخالفيهم على واقِعِها، وإنما لا بُدَّ أن تُحكى ضِمنَ إطارٍ مذهبيٍّ يخرِجُها بالضرورةِ عن واقِعِها وصريحِ مَنطوقِها؛ لدوافِعِ الجَدَلِ العَقَديِّ، وهذا شائعٌ جدًّا في كُتُبِ العقائِدِ"(24).

(قَضيَّةٌ مَنْهجيَّةٌ كُبرى ... ما أكثرَ ما يَغفلُ عنها الباحِثونَ....)

(قلَّما يحكي متكَلِّمو المذاهِبِ مذاهِبَ مخالفِيهم على واقِعِها ....).

(وهذا شائعٌ جِدًّا في كُتبِ العَقائِدِ).

من يقرأُ هذا الكلامَ ممَّن لم يَخْبُرْ نهج الأستاذ، سيقفُ مُتحيرًا عندما يراهُ بعد ذلك يبحثُ عن مذهَبِ أهلِ الحديثِ في صفحاتِ كتابِ البَلْخيِّ المعتزليِّ. أمَّا من يعرفُ زخارِفَ الأستاذِ وأسمارَه، فلن يُتعِبَ نَفْسَه في البحثِ عن تفسيرٍ لهذا التناقُضِ الأصلَعِ.

ذاك التأصيلُ عن حُرمةِ نقلِ المذاهِبِ مِن كُتُبِ المخالفين يذكرُه الأستاذُ فقط حين يحتاجُ إليه، لكنَّه على استعدادٍ كاملٍ لأن يطوِّحَ به وراء ظَهرِه إن كان سيعَوِّقُ فكرةً يسعى لتشييدِها! فلأجْلِ هذا قُلتُ وكرَّرتُ: إنَّ الأستاذَ يستعمِلُ أسمارًا وزخارِفَ لفظيَّةً، لا قواعِدَ وأصولًا علميَّةً.

من أبو القاسِمُ الكعبيُّ البلخيُّ؟

أبو القاسمِ الكعبيُّ البلخيُّ المعتزليُّ الذي عوَّل عليه الأستاذُ لم يكن مخالفًا لأهلِ الحديثِ وحَسْبُ، بل كان -كما عدَّه المحَدِّثُ أبو نصرٍ السجزيُّ-: من "أعداء الأَثَرِ وأهلِه"(25). ويقول عنه ابن حَجَر: "له كتابٌ في الطَّعنِ على المحَدِّثين، يدل على كثرةِ اطِّلاعِه وتعصُّبِه". وقال ابنُ حجَرٍ -أيضًا-: "اشتمل كتابُه في المحَدِّثينَ على الغَضِّ من أكابِرِهم، وتتَبُّعِ مثالِبِهم، سواءٌ كان ذلك عن صِحَّةٍ أم لا، وسواءٌ كان ذلك قادحًا أم غيرَ قادِحٍ"(26).

وكتابه المقصودُ هو المطبوعُ باسم (قبول الأخبار)، والذي يطالعُ الصفحاتِ الأولى من ذلك الكتاب يجِدُ البلخيَّ يقولُ مخاطبًا صاحبًا له: "خِفتُ عليك أن تجاوِزَ الحدَّ في حُسنِ الظن بأخبار كثيرٍ من المنتَسِبين للحديثِ، وأن تغتَرَّ بانتشارِ ذِكْرِهم، وبُعْدِ صوتِهم عند أصحابهم، فعمِلْتُ كتابي هذا، وذكرتُ لك فيه أحوالَ القومِ، وما قاله بعضُهم في بعضٍ، دون ما قاله فيهم خصومُهم ووصفوهم من المناقَضةِ والجَهلِ والخطَأِ؛ لتعرِفَ بذلك مقدارَهم"(27).

وفي وصف كتابِه هذا يقولُ المحَدِّثُ أبو محمد الرامَهُرْمُزِيُّ: "خلط الغَثَّ بالسمينِ، والموثوقَ بالظَّنِينِ، وادَّعى دعاوى لم يضبِطْ أكثَرَها، ولا عرف وجوهَ التصَرُّفِ فيها، وتساخَفَ في حكاياتٍ أوردها، ورواياتٍ أسندها إلى رجالٍ له ممَّن لا يَعُدُّ كلامَه مِن عَمَلِه، ولا له واعِظٌ يَزجُرُه من نَفْسِه"(28).

فإذا تركْنا كتابَه (قبول الأخبار)، وجئنا لكتابِه الآخَرِ؛ كتاب (المقالات) -الذي ينقُلُ منه الأستاذُ ويعتمدُ عليه في تحريرِ مَذهَبِ أحمدَ وأهلِ الحديثِ- نجِدُ البلخيَّ يقولُ فيه عن أهلِ الحديثِ: "تقولُ الفِرَقُ: إنَّ هؤلاء ليس لهم مذهَبٌ معروفٌ، ولا هم عن أمرٍ موصوفٍ، أكثَرُ من أنهم مجمِعون على التشبيهِ والإرجاءِ، ويلتَمِسون الحديثَ ويتديَّنون به. يقولون بالقولِ وبنَقْضِه حيث لا يَشعُرون. ينظُرُ رؤساؤهم إلى ما يزيدُ في أقدارِهم عند عوامِّهم، فيتديَّنون به كائنًا ما كان، ينتَحِلون من السَّلَفِ كلَّ أمرٍ مشهورٍ يُروى به الحديثُ، وقد برَّأ اللهُ السَّلَفَ الطَّيِّبَ من تشبيهِ الله بخَلْقِه والجَورِ في حُكمِه، والقولِ بأن شيئًا غير اللهِ ليس بمُحْدَثٍ". وبعد هذا الوَصْفِ القبيحِ المُقذِعِ، عدَّ منهم بالأسماءِ: أحمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وإسحاقَ بنَ راهَوَيه، وأحمَدَ بنَ نَصرٍ(29)!

هذا ما يقولُه البلخيُّ عن الإمامِ أحمدَ وعن أهلِ الحديثِ، ثم يأتي الأستاذُ لِيَجعَلَ نَقْلَه عنهم حجَّةً في تحريرِ مذاهِبِهم، ثم سيعودُ بعد ذلك للدَّعوةِ إلى تمزيقِ الكُتُبِ التي تحَرِّرُ مذاهِبَ الطوائِفِ من المصادِرِ الثانويةِ ومِن كُتُبِ الخُصومِ!!

وهكذا تكونُ الزَّخارِفُ والأسمارُ!

3-كتاب (المقالات) المنسوب لأبي العبَّاسِ القلانِسيِّ.

بعدما فرغ الأستاذُ من النَّقلِ عن البَلْخيِّ المعتزلي، تحوَّلَ إلى أبي العبَّاسِ القلانِسيِّ، المنسوب لمذهَبِ الكُلَّابيَّة، فذهبَ يبحثُ عنده عن مذهَبِ أهلِ الحديثِ، معتمدًا على قطعةٍ طُبِعَت قبل حوالي عام، رجَّح محقِّقُها أنها جزءٌ من كتاب (المقالات) للقلانسي. فإذا قَبِلْنا ذلك من المحَقِّقِ، وسألنا الأستاذَ إن كان مارس أيَّ نقدٍ لمحتوى تلك القطعةِ القصيرة؛ ليَعرِفَ إن كان صاحبُها يُحسِنُ نَقْلَ مذاهِبِ أهلِ الحديثِ، أو أنَّ الأستاذَ وجد فيها ما يخدُمُ رأيه، فطار به دون أدنى تفكُّرٍ!

أيُّ باحثٍ يملِكُ الحدَّ الأدنى المقبولَ من مهاراتِ النَّقْدِ التَّاريخيِّ وقواعِدِ البَحثِ العِلميِّ، سوف يتوقَّفُ لا محالةَ عند كثيرٍ ممَّا جاء في تلك القطعةِ؛ ليتساءَلَ عن نوعِ أهلِ الحديثِ الذين قصدهم مؤلِّفُها وهو ينسُبُ لهم المذاهِبَ والمقولاتِ.

فلننظرْ في بعضِ ما نقلَه المؤلِّفُ عن أهلِ الحديثِ:

-قال (ص34): "اختلفوا في كلامِ الله: ألغةٌ، أم ليس بلغةٍ؟ فقال أصحابُ الحديثِ: ليس بلُغةٍ؛ لأنَّ اللغةَ إمَّا أن تكون لغةً لهم أو لغيرِهم، وليس كلامُ الله لغةً لأحدٍ، وإنما يُقرَأُ باللُّغاتِ المختَلِفةِ".

-وقال (ص34): "اختلفوا في التغايُرِ: هل يجوزُ عليه أم لا؟ فقال أصحابُ الحديِث: لا يجوزُ عليه التغايُرُ، وإنما يقَعُ التغايُرُ بالنسبةِ إلى ما أخبَرَ عنه، مِثْلُ: الخَمْرِ والنَّارِ".

-ونقل (ص8) أنهم يقولون: "يجوزُ أن يكونَ اللهُ في مكانٍ دون مكانٍ، مع بينونةٍ بخَلْقِه، على سبيلِ الحَدِّ والملاصقةِ والمماسَّةِ".

-وقال (ص14): "اختلفوا في الذي يَنظُرُ إليه: هل يعلَمُ أنه قديمٌ في حالةِ النَّظَرِ؟ فقال أهلُ الحديثِ وغيرُهم: لا يعلَمُ إلَّا بالنَّظَرِ".

-وقال (ص20): "قال متكَلِّمو أهلِ الحديثِ...كُلُّ فاعلٍ ففِعْلُه غيرُه، وفعلُ المحدَثِ لا يكونُ جِسمًا، وليس يجوزُ أن يفعَلَ المحدَثُ إلا بعضَ الأعراضِ".

-وذكر (ص12) أن متكَلِّمي أهلِ الحديثِ يقولون: "العِبادُ ينظرون إليه وهو على العَرْشِ، فيَرونَه لا في مكانٍ".

-ونقل (ص18) عن متكَلِّمي أصحابِ الحديثِ: "إنَّ صفاتِ اللهِ غيرُ موجودةٍ غيرُ معدومةٍ".

-وقال (ص36): "قال أصحابُ الحديثِ: كلامُ اللهِ مَسموعٌ، مقروءٌ مكتوبٌ، ولا نقولُ: إنَّه حروفٌ، ولا: إنَّه ليس بحروفٍ".

هذا بعضُ ما ورد في تلك القِطعةِ منسوبًا لأهلِ الحديثِ ولمتكَلِّميهم، فأين ذهبَ نقدُ الأستاذِ للمصادِرِ، وأين غابت عنه نصائِحُ بدوي؟ أفلم يسألِ الأستاذُ نَفْسَه إن كان للإمامِ أحمدَ ولأصحابِه من أهلِ الحديثِ صِلةٌ بشيءٍ من هذه المسائِلِ؟!

هذه التدقيقاتُ والتفريعاتُ العَقَديَّةُ المنسوبةُ لأهلِ الحديثِ لم تنجَحْ في إيقاظِ الحِسِّ النَّقْديِّ لدى الأستاذِ وهو يجعل تلك القِطعةَ حُجَّةً في معرفةِ مَذهَبِ المحدِّثين زَمَنَ الإمامِ أحمدَ! أمَّا حين يُنسَبُ لهُم أنَّ اللهَ سبحانه: "لم يزَلْ متكَلِّمًا متى شاء"، فالأستاذُ يأبى قَبولَ ظاهرِ هذه العبارةِ، ويَعدُّها فلسفةً "غريبةً على مجتمعِ أهلِ الحديثِ"، ويحتجُّ بأنَّ أهلَ الحديثِ: "كانت تنزِعُ تقريراتُهم في بابِ الصِّفاتِ إلى الإطلاقاتِ الكُليَّةِ دونَ الاسترسالِ في التفريعاتِ"(30)!

هكذا كان الأستاذُ يقولُ صَبيحةَ زَخْرفةٍ وأسمارٍ!

4-كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحَسَن الأشعَريِّ.

رابعُ المصادِرِ التي كانَ عوَّلَ عليها الأستاذُ: كتابُ (مَقالاتِ الإسلاميِّين) لأبي الحَسَنِ الأَشْعريِّ، وسوف أُؤجِّلُ الكلامَ عن الخَلَلِ المَنْهجيِّ في تعويلِ الأستاذِ على هذا الكتابِ خاصَّةً، وسأكتفي هُنا بالإشارةِ إلى أنَّه مصدرٌ ثانويٌّ، وليس هو مِن تَصانيفِ أهلِ الحديثِ التي يُفترَضُ أن يُبحثَ فيها عن مَذهبِهم.

وممَّا أجدُه مناسبًا ليُذكَرَ في ذَيْلِ هذه الحَلْقةِ كلامٌ ذكره الأستاذُ في إحدى أسمارِه حين قال:

"لا أبالِغُ إن قُلتُ: إنَّه يصِلُ الحالُ ببعضِ الباحثينَ إلى أنَّه يجعَلُ من هذه المصادِرِ الثانويةِ هي الأصلَ في بحثِه، ثم يكونُ مَنهَجُه هو البحثَ في كُتُبِ الطوائفِ عمَّا يوافِقُ ما تحكيه هذه المصادِرُ الثانويةُ عنها، ولو كان ذلك بلَيِّ أعناقِ النصوصِ، والفَهْمِ المغلوطِ".

يضيفُ الأستاذُ بلهجةٍ حانقةٍ:

"دعْني أسألْك سؤالًا، ولك الخيارُ في الإجابةِ: ما مقدارُ الجَهْلِ الذي ننشُرُه إذا كُنَّا نبحَثُ عقائِدَ الآخرينَ بهذه الطريقةِ؟"(31).

هذا ما كان يقولُه الأستاذ، ولا أملِكُ هنا إلَّا سؤالَه عن مقدارِ الجَهْلِ والسُّقوطِ الذي ينشُرُه هو حين يبحَثُ عن معتَقَدِ أهلِ الحديثِ عند تُرْسِ الجهميَّةِ، ورأسِ الاعتزالِ!

من يتأمَّلُ "إجراءات الأستاذ البحثيَّة" سيدركُ سبَبَ عَجْزِه عن العثورِ على (أيِّ أَثَر!)(32) لذاك القَولِ الذي يذكُرُ ابنُ تيميَّةَ أنَّه مذهَبُ "السَّلف والأئمَّة"، و"قول السَّلف وأهل الحديث"، و"قول السَّلف وأئمَّة السُّنة والحديث"، والمذهب "المعروف عن السَّلَف وأئمَّة السُّنة"(33)!

ولستُ هنا بحاجةٍ للتأكيدِ على أنَّ موضوعَنا هنا ليس تنزيهَ وتقديسَ ابنِ تيميَّة، وإنما هو تجليةٌ وإيضاحٌ لأصلِ الخَلَلِ في إجراءاتِ الأستاذِ البحثيَّةِ حين ذهب يبحَثُ عن مذهَبِ أهلِ الحديثِ في المكانِ الخطَأِ!

أمَّا ابنُ تَيميَّةَ، فقد بيَّن لنا إجراءاتِه البحثيَّةَ الرَّاقيةَ التي أَوصلَتْه رأسًا إلى مذهبِ أهلِ الحديثِ؛ فهو لمَّا نسَبَ لهم القولَ بأنَّ اللهَ لم يزلْ يتكلَّمُ بمشيئتِه واختيارِه، سَرَدَ مصادرَه التي استقى منها مَذهبَهم، فقال: "نصوصُهم بذلك كثيرةٌ معروفةٌ في الكُتُبِ الثابتةِ عنهم، مثل ما صَنَّف أبو بكرٍ الخَلَّالُ في (كتاب السُّنَّة) وغيره، وما صنَّفهُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي حاتمٍ مِن كلامِ أحمدَ وغيرِه، وما صنَّفه أصحابُه وأصحابُ أصحابِه: كابنَيْه صالحٍ وعبدِ اللهِ، وحَنْبَلٍ، وأبي داودَ السِّجِسْتانِّي صاحِبِ السُّنَنِ، والأثْرَم، والمرُّوذِيِّ، وأبي زُرعةَ، وأبي حاتمٍ، والبخاريِّ صاحِبِ الصحيحِ، وعُثمانَ بنِ سَعيدٍ الدَّارميِّ، وإبراهيمَ الحَربيِّ، وعبدِ الوَهَّابِ الورَّاقِ، وعبَّاسِ بنِ عبد العظيمِ العنبريِّ، وحَرْبِ بن إسماعيلَ الكرمانيِّ، ومن لا يُحصَى عدَدُه من أكابرِ أهلِ العِلْمِ والدِّينِ.." (34).

فمن هذه المصادر أخذ ابنُ تيميَّة مذهَبَ أهلِ الحديثِ، ولأجْلِ مِثْلِ هذا النَّهجِ العِلميِّ الرَّصينِ لم يملكِ الدكتورُ (الأَشْعريُّ) سامي النشارُ، إلَّا أن يُقرَّ بأنَّ ابنَ تَيميَّةَ: "كان مؤرِّخًا ممتازًا للفِكْرِ الإسلاميِّ"(35).

أمَّا طريقةُ الأستاذِ في البحثِ فلا وَصْفَ لها إلَّا الزخارِفُ والأسمارُ!

قد يغضبُ بعضُ القُرَّاءِ مني لو أمعَنْتُ في عَقدِ المقارنةِ بين الأستاذِ وبين شَيخِ الإسلامِ، لكن ما أريدُ إيضاحَه هنا أنَّنا أمامَ موقفَينِ مُتناقضَينِ مُتنافرَينِ: ابنُ تَيميَّةَ يَستقرئُ كُتبَ أهلِ الحديثِ، فيذكُرُ أنَّ هناك نصوصًا كثيرةً معروفةً تُثبتُ أنَّهم كانوا يَعتقِدون أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بمشيئتِه واختيارِه، وبالمقابِلِ فإنَّ الأستاذَ يراجِعُ كُتبَ الكلامِ، ثُمَّ يقولُ: إنَّه لم يعثُرْ ولو على نصٍّ واحدٍ يُثبتُ ما نَسَبَه ابنُ تَيميَّةَ لأهلِ الحديثِ!

لا شكَّ أنَّ أحدَهما مخطِئٌ، لا لأنَّه الأصغرُ والأقلُّ وحَسْبُ، بل لأنَّه كان يتصيَّدُ الحيتانَ وسْطَ كُثبانِ الدَّهناءِ، بصنَّارةٍ صُنِعَت من خيوطِ أوهامِ الباحِثِ الأميَزِ!

تنبيهٌ في خاتمةِ هذه الحَلْقةِ:

للحَديثِ -بإذن الله- بقيَّةٌ وبقايا تشرحُ كيف تاهَ الأستاذُ عن مَذهبِ أهلِ الحديثِ.

غيرَ أني أودُّ التنبيهَ هنا إلى أنِّي ما زلتُ أستعرِضُ "الإجراءات البحثيَّة العلميَّة" للأستاذ، ولا أرى فائدةً من التشاغُلِ بما يعلِّقُ به -غفرَ اللهُ له- في حساباتِه على وسائِلِ التواصُلِ من الرُّؤى والمناماتِ، والأشعارِ التي قيلَت في أُسرَتِه الكريمةِ، والتهديدِ بالدَّعاوى القضائيَّةِ.

نحن في مباحَثةٍ عِلْميَّةٍ، لا خُصومةٍ شَخْصيَّةٍ.

والمباحثةُ العلميَّةُ ساحَتُها مَحْكَمةُ عُقولِ أهلِ الفَهْمِ والإنصافِ مِنَ القُرَّاءِ، وشُهُودُها الدَّلائِلُ والحُجَجُ والبراهينُ، وما عدا ذلك فزخارِفُ وأسمارٌ أُخرى!

ألقاكم في الحَلْقةِ الرَّابِعةِ بإذْنِ اللهِ ...

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية

------------------------------

(1) من كلام الأستاذ في مقالة بعنوان: (رسالة لمن أراد الفهم من المتصفين بالأخلاق الحسنة)، (ص1).

(2) هل أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية في حكايته للمذهب الأشعري في الصفات الخبرية (ص6).

(3) مرة أخرى هل أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية (ص20).

(4) القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص181).

(5) القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص167).

(6) القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص168).

(7) نقض الدارمي على بشر المريسي (ص325).

(8) القراءة المذهبية للتاريخ العقدي (ص168).

(9) مناهج البحث (ص211).

(10) تنظر الحلقة الأولى من هذه السلسلة.

(11) تهذيب الكمال (25/363)، ميزان الاعتدال (3/577).

(12) ميزان الاعتدال (3/875).

(13) المحنة برواية حنبل (ص75)، وتاريخ الإسلام للذهبي (1/117).

(14) الكامل في ضعفاء الرجال (3/47)، (7/551).

(15) تاريخ بغداد (2/426).

(16) نقض الدارمي على بشر المريسي (ص207).

(17) المقالات لأبي القاسم الكعبي البلخي (ص270).

(18) التسعينية (2/376).

(19) مقالات الإسلاميين (ص586)، المغني للقاضي عبد الجبار-خلق القرآن (ص4). ومما يشبه هذا النقل المحرَّف ما حكاه النديم في الفهرست (1/645) عن ابن كُلَّابٍ أنَّه كان يقول: (إنَّ كلامَ اللهِ هو اللهُ).

(20) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1/117/39).

(21) انظر مثلًا: مقالات الإسلاميين (ص586).

(22) لكن يبدو أن سقطًا أو اختصارًا وقع في نص عبارة الثلجي في كتاب البلخي فجاء فيه (ص272): "وقالت فرقةٌ: إن الله بعضٌ". وقد جاء النص بكماله في مقالات الإسلاميين للأشعري (ص586): "وحكى محمد بن شجاع ...أن فرقةً قالت: إن اللهَ بعضُ القرآن".

(23) المقالات، لأبي القاسم الكعبي البلخي (ص243).

( 24)قراءة في نص "الرد على الزنادقة والجهمية"، وإشكالات النسبة التاريخية والمنهجية (150-151).

(25)رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص340-341).

(26) لسان الميزان (3/255).

(27) قبول الأخبار (1/17).

(28) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي (ص310).

(29) المقالات لأبي القاسم الكعبي البلخي (204).

(30) القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص167).

(31) من مقالة بعنوان: (مرةً أخرى: هل أخطأ ابن تيمية؟) (ص20)، (ص21).

(32) القراءة المذهبيَّة للتاريخ العقدي (ص168).

(33) مجموع الفتاوى (12/372)، (6/161)، (6/218)، (17/166).

(34) مجموع الفتاوى (12/86).

(35) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/270)، (1/278).