موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّاني: التَّجديدُ في شَكلِ القصيدةِ وهَيكَلِها


استمرَّ شُعَراءُ المماليكِ على مِنوالِ أسلافِهم في تطويرِ شَكلِ القصيدةِ وهَيكَلِها؛ فطوَّعوا بعضَ الأشكالِ القديمةِ للقصيدةِ، كالموشَّحاتِ، وابتكروا أنواعًا أُخرى ساعدهم عليها التَّنسيقُ الهندَسيُّ والتَّفوُّقُ العَقليُّ والقُدرةُ اللُّغَويَّةُ على الصَّياغةِ.
فعلى صعيدِ المُوَشَّحاتِ استعمَلَ شُعَراءُ المماليكِ المُوَشَّحَ على صورتِه المألوفةِ عِندَ الأندلُسيِّينَ والعبَّاسيِّينَ قَبلَهم، فهذا صَفيُّ الدِّينِ الحِلِّيُّ يقولُ [72] يُنظَر: ((ديوان صفي الدين الحلي)) (ص: 672). :
شَرِبنا سُلافًا بلا آنيَهْ
فلا تحسَبوا عينَها آنيَهْ
لنا نَشوةٌ في الدُّجى ناشِيَهْ
بإدراكِها أصلحَتْ شانِيَهْ
ترى ظِلَّها في الضُّحى والمَقيلْ
أشدَّ وِطاءً وأقومَ قِيلْ
وألقَتْ على الضِّدِّ قولًا ثقيلْ
فكانت لأنفُسِنا هادِيَهْ
ولكِنَّها للعِدَى داهِيَهْ
تبدَّت لنا فحَلَلْنا الحُبَى
وقُلْنا لها مَرحبًا مرحَبَا
بشَمسٍ بدَتْ قَبلَ رَفعِ الخِبَا
وشاهَدتُ أنوارَها بادِيَهْ
فصيَّرتُ تَذكارَها دابِيَهْ
رآها أُناسٌ بعَينِ القُلوبِ
فدان الوُجودُ لهم بالوُجوبِ
وسحَّت عليهم غيوثُ الغُيوبِ
عليهم سحائِبُها هاميَهْ
ولم يدْرِ غيرُهم ما هيَهْ
ثمَّ طوَّروا من استعمالِ الموشَحَّاتِ، فاتَّخذوا منه صورةً عاميَّةً، تسمَّى بالزَّجَلِ، يعتَمِدُ على الموشَّحِ في نظامِه، وإن خالفَه في قواعِدِ تركيبِه، انتَقَل إلى المَشرِقِ من المغرِبِ، فأَلِفَه النَّاسُ لاعتمادِه العامِّيَّةَ، وقُربِه من اللُّغةِ الفُصحى، وقواعِدِ الشِّعْرِ المعروفِ [73] يُنظَر: ((الأدب في العصر المملوكي)) لمحمد زغلول سلام (1/306). .
فمنه قولُ ‌‌هارونَ بنِ موسى بنِ محمَّدٍ:
بَدَويَّهْ في بَبويَهْ ساكنه
صيَّرت عندي المحبَّة كامنَهْ
اسمُها سِتُّ العَرَبْ
هيَّجَتْ عندي الطَّرَبْ
أنا قاعِدٌ بَيْنَ جماعةٍ نستريحْ
عبَرَت واحْدَهْ لها وَجهٌ مليحْ
بقوامٍ اعْدَلْ من الغُصنِ الرَّجيحْ
في الملاحةِ زايدَهْ
ووراها قايدَهْ
لو تكون لي رايدَهْ
كنتُ نعطيها ألف دينار وازْنَهْ
وابْنِ في داخِل بُيوتي ماذْنَهْ
وترى مني العَجَبْ
في تصانيفِ الأدَبْ
نفَرَت منِّي كما نَفَر الغزالْ
وأسفَرَت لي عن جَبينْ يحكي الهِلالْ
ورَنَتْ أَرْمَتْ بعينَيها نبالْ
ثمَّ قالت يا فلانْ
خُذْ مِنَ احْداقِي أمانْ
معك في طولِ الزَّمانْ
فأنا واللَّهِ مليحه فاتنه
ومن الحُسَّاد ما أنا آمنه
والملوك واهل الرُّتَبْ
يأخُدوا مني الحَسَبْ [74] يُنظَر: ((أعيان العصر وأعوان النصر)) لصلاح الدين الصفدي (5/527).
وطوَّروا منها كذلك البَلاليقَ أو البليقَ ومُفردُها بليقةٌ، وهي: منظومةٌ زَجليَّةٌ، إلَّا أنَّها أخَفُّ وزنًا ولغةً عن الموشَّحاتِ والزَّجَلِ؛ ولهذا شاع استعمالُها بَيْنَ النَّاسِ، ونَظَموها في مناسَباتٍ متعَدِّدةٍ [75] يُنظَر: ((الأدب في العصر المملوكي)) لمحمد زغلول سلام (1/316). .
ومن ذلك قَولُ سِراجِ الدِّينِ عُمَرَ بنِ مولاهم:
من قال أنا ‌جُنْدي ‌َخَلَق
فقد صَدَق
عندي قَبا من عَهدِ نُوح
على الفُتوح
لو صادَفوا شمسَ السُّطوح
كان احتَرَق [76] يُنظَر: ((النجوم الزاهرة)) ليوسف بن تغري بردي (10/318).
ومنه كذلك: المَواليا، وهو نوعٌ من الفُنونِ الشِّعْريَّةِ الشَّعبيَّةِ، يلتَزِمُ الشَّاعِرُ فيه وزنًا واحدًا، على عادتِه في القصيدةِ العَربيَّةِ، إلَّا أنَّه يلتزِمُ فيه أشكالًا خاصَّةً في القافيةِ. وهو فنٌّ عراقيُّ الأصلِ وَفَد على مِصرَ واشتَهَر فيها، ويَغلِبُ عليه اللَّفظُ العامِّيُّ غيرُ المُعَرَّبِ، لكِنْ يحلو لبَعضِ الموالينَ استخدامُ بعضِ ألفاظٍ مُعَرَّبةٍ في حَشوِ مواويلِهم تملُّحًا [77] يُنظَر: ((الأدب في العصر المملوكي)) لمحمد زغلول سلام (1/321). .
ومنه قول البطراوي الدَّمشقي [78] يُنظَر: ((النجوم الزاهرة)) ليوسف بن تغري بردي (7/367). :
‌كيف ‌اعتمَدْتَ ‌على ‌الدُّنيا وتجريبكْ
أراك فلك تراها كيف تجري بكْ
ما زالت الخادِعَه تدنو فتغري بكْ
حتى رمَتْك بإبعادِك وتغريبِكْ
وأمَّا بالنِّسبةِ للتَّجديدِ في هيكَلِ القصيدةِ وشَكلِها المعروفِ، فقد استحدَثَ شُعَراءُ العَصرِ المملوكيِّ بعضَ فنونِ البديعِ في تنميقِ قَصائِدِهم، وإثباتِ قُدراتِهم اللُّغَويَّةِ والشِّعْريَّةِ، فابتكَروا صُوَرًا؛ منها:
الطَّردُ والعَكسُ: وهو أن يَنظِمَ الشَّاعِرُ قصيدتَه، فتُقرَأَ على وُجوهٍ متعَدِّدةٍ، دونَ أن يكونَ وراءَ ذلك معانٍ جديدةٌ في الغالِبِ [79] يُنظَر: ((مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني)) لبكري أمين (ص: 169). .
ومن ذلك أبياتٌ لصَفِيِّ الدِّينِ الحِلِّيِّ، وهو أوَّلُ مَن برع في هذا اللَّونِ من الشِّعْرِ [80] يُنظَر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/244)، ولم أقِفْ عليها في ديوانِ صَفيِّ الدِّينِ الحِلِّيِّ. :‌
ليتَ شِعْري ... لك عِلمٌ
مِن سِقامي ... يا شِفائي
لك عِلمٌ ... مِن زَفيري
ونُحولي ... وضَنائي
مِن سِقامي ... ونُحولي
داوِني إذْ ... أنت دائي
يا شِفائي ... وضَنائي
أنت دائي ... ودوائي
فهذه الأبياتُ تُقرأُ من أعلى لأسفَلَ، ومن اليَمينِ إلى اليَسارِ، ولا يتغَيَّرُ منها شيءٌ.
ومنها صِنفٌ يُقالُ له المُخَلَّعاتُ، وهو أن تُقرَأَ القصيدةُ كذلك من أعلى لأسفَلَ، ومن اليمينِ إلى اليَسارِ، لكِنْ مع تغايُرِ المعنى، بحيثُ يصلُحُ كلٌّ منها أن يكونَ قصيدةً بذاتِه، ومنها ما يُقرأُ من اليسارِ إلى اليَمينِ، كما يُقرأُ من اليمينِ إلى اليَسارِ من غيرِ فَرقٍ، ومنها ما يخالِفُ ذلك؛ فإذا قُرِئَ من الأعلى للأسفَلِ كان مَدحًا، وإذا قُرئ من اليَمينِ لليَسارِ كان هِجاءً، وغيرُ ذلك.

انظر أيضا: