موسوعة اللغة العربية

تَمْهيدٌ: المعاجم وكتب اللغة


لمَّا كان مَصدَرُ بَيانِ الشَّريعةِ عن لِسانِ العَربِ، وكان العَمَلُ بمُوجِبِه لا يَصِحُّ إلَّا بإحْكامِ العِلمِ بمُقدِّماتِه؛ كان البَحْثُ في اللُّغةِ وعُلومِها مِن أشْرَفِ الغاياتِ، ومِن أعْظَمِ القُرُباتِ إذا صلَحتِ النِّيَّةُ وخلَص العَمَلُ، وإنَّ اللهَ تعالى أنْزَل القُرآنَ الكَريمَ بلِسانٍ عَربيٍّ مُبِينٍ، وذكَر ذلك في أحدَ عشَرَ مَوضِعًا من القُرآنِ، فلا يَنالُ المُسلِمُ بُغيتَه مِن كِتابِ اللهِ، ولا يَظفَرُ الطَّالِبُ بكُنوزِه، ولا يَقِفُ على دَقائِقِه ونِكاتِه؛ إلَّا إذا تَفقَّه في لِسانِ العَرَب، وبذَل في ذلك الجِدَّ والجُهْدَ والدَّأَبَ؛ فأهْلُ اللُّغةِ بأيديهم مَفاتيحُ العُلومِ وذَخائِرُ الفُهومِ، وهم أصْحابُ العِلمِ المُسْتطيلِ، والعَقْلِ النَّبيلِ.
ولمَّا كان العُلَماءُ في سالِفِ الأزْمانِ على دِرايةٍ كَبيرةٍ، ومادَّةٍ غَزيرةٍ مِنَ العُلومِ اللُّغويَّةِ؛ اسْتَطاعوا أنْ يُخْرِجوا لنا مِن صَدَفاتِ القُرآنِ دُرَرًا تَتحلَّى بها القُلوبُ والأذْهانُ، وتَسيرُ بحَديثِها الرُّكبانُ، ولمَّا ضَعُفتِ السَّليقةُ العَربيَّةُ، واخْتَلط العَربُ بالعَجَمِ، وابْتَعد النَّاسُ عن تُراثِهم ولُغتِهم، وسَرَتْ لُوثةُ العُجْمةِ في ألْسِنتِهم؛ صاروا غُرباءَ عنِ القُرآنِ، وعن عُلومِ آبائِهم الأوَّلين، فأوجَس العُلَماءُ مِن ذلك خِيفَةً، وملَأ القَلقُ نُفوسَهم، وخَشُوا على اللُّغةِ أن تَذوبَ في اللُّغاتِ الأخرى كما يَذوبُ المِلْحُ في الماءِ؛ فبَذلوا قُصارى جُهدِهم في المُحافَظةِ عليها، وفي حَثِّ النَّاسِ على أنْ يَرجِعوا إليها، فلمَّا رأَوا ذلك جمَعوا اللُّغةَ في مَعاجِمَ وكُتُبٍ، وبذَلوا في ذلك أقْصى جُهدِهم، ولم يَدَّخِروا منه شيئًا.
وكانت تلك المَعاجِمُ مِن خَيرِ ما قدَّموه للُّغةِ وللعَربِ أجْمَعينَ؛ إذْ لولاها لضاعتِ اللُّغةُ وابْتَلعَها الزَّمانُ، كما ابْتَلع غيرَها مِنَ اللُّغاتِ الَّتي عَفا رَسْمُها، وامَّحى أثَرُها؛ فإنَّ اللهَ تعالى كتَب للعَربيَّةِ الخُلودَ أبَدَ الدَّهرِ بخُلودِ كِتابِه، فسخَّر اللهُ هؤلاء العُلَماءَ للعَربيَّةِ لكي يَكونوا سَببًا في حِفْظِها، واسْتِمرارِ حَياتِها إلى وقْتِنا هذا، وإلى يومِ يَقومُ النَّاسُ لربِّ العالَمينَ.
فاللُّغاتُ مِثلُ البَشَرِ؛ لها مَولِدٌ وحَياةٌ ومَماتٌ، وكَثيرٌ مِنَ اللُّغاتِ ماتت بسَببِ إهْمالِ أهْلِها لها؛ فعلى سَبيلِ المِثالِ: اللُّغةُ الإنْكليزيَّةُ لُغةٌ كالحِرباءِ تَتلوَّنُ بتَغيُّرِ الزَّمانِ، وتَتَغيَّرُ مِن قَرْنٍ لقَرْنٍ ولا تَثبُتُ على حالٍ، حتَّى إنَّ أهْلَها الآنَ إذا قَرَؤوا قِطْعةً مِن مَسْرحيَّاتِ أو قَصائِدِ شِكْسبير -وهو المُتوفَّى مِن قُرابةِ أرْبَعِ مِائةِ عامٍ- تَجشَّموا الصِّعابَ في فَهْمِها وعجَز أكْثَرُهم عن تَفْسيرِها؛ لأنَّ لُغتَه -وهي الإنْكليزيَّةُ القَديمةُ- قرَضَها الزَّمانُ بأسْنانٍ حِدادٍ، وتَبدَّلتْ بتَبدُّلِ الأيَّامِ!
أمَّا نحن فنَقرأُ شِعرَ امْرِئِ القَيسِ، وهو المُتوفَّى مِن أكْثَرَ مِن خَمْسةَ عشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمانِ، فنَفهَمُ كلَّ لَفْظٍ مِن ألْفاظِه، ولا يَكادُ يَخْفى علينا شيءٌ منها أو مِنَ المَشْهورِ فيها، والسَّببُ في ذلك أنَّ عُلَماءَنا حفِظوا لنا لُغتَنا في مَعاجِمِهم، ودوَّنوا تُراثَنا في كُتُبِهم، فلولا هذه المَعاجِمُ لكانت لُغتُنا الآنَ غَريبةً عنِ العَربيَّةِ الفُصْحى، لا تَمتُّ لها بنَسَبٍ.
وقد تَفنَّن العُلَماءُ في مَعاجِمِهم؛ فقد تَعدَّدتِ الصُّوَرُ الَّتي ألَّفوا فيها، ونسَجوا على مِنوالِها، فتَعدَّدتْ صُوَرُ المَعاجِمِ مِن حيثُ النَّوعُ والتَّرْتيبُ؛ فمنْهم مَنْ ألَّف مُعجَمَه حسَبَ المَوضوعاتِ، ومنْهم مَنْ ألَّفها وجمَعها حسَبَ الألْفاظِ، واخْتَلفتْ صُوَرُ تَرْتيبِهم لها؛ فمنْهم مَنْ رتَّبها باعْتِبارِ التَّرْتيبِ المَخرَجيِّ، ومنْهم مَنْ رتَّبها باعْتِبارِ التَّرْتيبِ الألِفْبائيِّ.

انظر أيضا: