موسوعة اللغة العربية

تَمْهيدٌ: أهميةُ علم اللغة والأصوات


هذا الفَرْعُ المُهِمُّ مِن عُلومِ اللُّغةِ يَقومُ على تَحْليلِ اللُّغةِ مِن جَوانِبِها كافَّةً؛ الصَّوتيَّةِ والنَّحويَّةِ والمُعجميَّةِ، والدَّلاليَّةِ والصَّرفيَّةِ والكِتابيَّةِ، والتَّركيبيَّةِ والتَّداوليَّةِ (الاسْتِعمال)، ويَعتني بدِراسةِ اللَّهَجاتِ والمُسْتوياتِ المُتعدِّدةِ للُّغاتِ، دون تَمييزٍ بين الفُصحى وغيرِها، كما تَهدُفُ تِلك الدِّراساتُ إلى مَعْرِفةِ الآثارِ والظَّواهِرِ المُترتِّبةِ على اسْتِخدامِ مُسْتوًى مُعيَّنٍ مِنَ اللُّغةِ نَفسيًّا واجْتِماعيًّا.
فهذه الدِّراساتُ هي الَّتي يُطلَقُ عليها "عِلمُ اللُّغةِ" أوِ "اللِّسانيَّاتُ"، وغيرُها مِنَ المُسمَّياتِ الَّتي تَرمُزُ إلى ذلك العِلمِ الَّذي يَدرُسُ اللُّغةَ الإنْسانيَّةَ لذاتِها، مِن خلالِ مَجْموعةٍ مِنَ الأسُسِ والقَوانينِ والمَناهِجِ الَّتي تَضبِطُ قَواعِدَ هذا العِلمِ وتُحدِّدُ أبْعادَه، وتَدْرُسُ العَلاقةَ بين اللُّغاتِ -وصْفًا وتَأريخًا ومُقارَنةً- دون تَفْضيلِ لُغةٍ على أخرى أو مُسْتوًى لُغويٍّ على غيرِه.
إنَّ تلك الدِّراسةَ تَهدُفُ إلى وَصْفِ اللُّغاتِ والتَّأريخِ لها، وتَقْسيمِها إلى عائِلاتٍ وفَصائِلَ، تَشْترِكُ جميعًا في سِماتٍ عامَّةٍ، كما تَبحَثُ عنِ القُوى المُؤَثِّرةِ سلْبًا وإيجابًا في اللُّغاتِ، ومَراحِلِ تَطوُّرِ اللُّغاتِ وانْقِراضِها، والباحِثُ في عِلمِ اللُّغةِ لديه مِنَ المَناهِجِ ما يُناسِبُه ويُلائِمُه للنَّظرِ في قَضيَّةٍ مُعيَّنةٍ من قضايا اللُّغةِ، كالمَنهَجِ المُقارَنِ، والمَنهَجِ الوَصْفيِّ، والمَنهَجِ التَّاريخيِّ، والمَنهَجِ التَّقابُليِّ، ولكلِّ واحدٍ منها مَزيَّةٌ لا تُوجَدُ في غيرِه.
ويَعودُ الاهْتِمامُ بِهذا العِلمِ إلى وَقتٍ غيرِ بَعيدٍ؛ في حِينِ كانتِ الدِّراساتُ اللُّغويَّةُ تَضرِبُ بِجُذورِها في التَّاريخِ إلى ما يَربو على أرْبعةِ آلافِ عامٍ؛ حيثُ اهتمَّ كَهَنةُ الهِندِ القُدماءُ بالتَّقْعيدِ للُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ لتكونَ لُغتَهم المُسْتخدمةَ في طُقوسِهم وشَعائِرِهم الدِّينيَّةِ، وتَبرُزُ مُحاوَلةُ الكاهِنِ الهِنديِّ "بانيني" قبلَ ألْفِ عامٍ مِنَ الميلادِ لوَضْعِ قَواعِدِ النَّحوِ السَّنْسِكريتيِّ تَحْقيقًا لتلك الأهْدافِ، ثمَّ انْتقلَ الاهْتِمامُ بالدَّرسِ اللُّغويِّ إلى أوروبَّا مِن خِلالِ فَلاسِفةِ اليُونانِ الَّذين اهْتمُّوا بدِراسةِ العَلاقاتِ بين أسْماءِ الأشْياءِ وذَواتِها وأزْمِنةِ الأفْعالِ الَّتي يُحدِثُها الإنْسانُ في حَياتِه، كما اهْتمُّوا بالدَّرسِ البَلاغيِّ عبْرَ تَحليلِ لُغةِ الخِطابِ، على نَحْوِ ما فعَل أرسطوطاليسُ.
ولا تَخْفى أسْبابُ اهْتِمامِ العَربِ بوَضْعِ قَواعِدِ اللُّغةِ العَربيَّةِ، حين كثُرتِ الفُتوحاتُ واخْتَلطَ الأعاجِمُ بالعَربِ، وخِيفَ على اللُّغةِ العَربيَّةِ مِنَ اللَّحْنِ، فوضَع أبو الأسْوَدِ الدُّؤَليُّ قَواعِدَ النَّحْوِ العَربيِّ.
أمَّا عِلمُ اللُّغةِ العامُّ فيَرجِعُ أصْلُه إلى "فرديناند دي سُوسير" العالِمِ السُّويسريِّ، الَّذي وضَع حُدودًا تُميِّزُ بين المَناهِجِ اللُّغويَّةِ في مُحاضراتِه الَّتي ألْقاها بِجامِعةِ جِنيف مِن 1906م إلى 1911م، وجمَعَها تَلامِذتُه مِن بَعدِه ونَشروها بِعُنوانِ: "دُروسٌ في عِلمِ اللُّغةِ العامِّ.
وفيما يأتي بيانُ مَباحِثِ هذا العِلمِ، وتوضيحُ مَعالِمِه قديمًا وحديثًا.


انظر أيضا: