موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: قَضيَّةُ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ بَينَ القُدَماءِ والمُحْدَثِينَ


قَضيَّةُ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ قد أخذَت حَظَّها الكبيرَ في الكُتُبِ والمعاجِمِ العَرَبيَّةِ عِندَ القُدَماءِ؛ فالخليلُ بنُ أحمَدَ الفراهيديُّ في مُعجَمِه ((العين)) قد أشار إلى هذه القَضيَّةِ، ووضَع لها بعضَ الموازينِ والقواعِدِ والأُسُسِ لمعرفةِ الكَلِماتِ الأصليَّةِ من الدَّخيلةِ [332] يُنظر: ((المعرب والدخيل في اللغة العربية)) لجُل محمد باسل (ص: 34). ، وبَعدَ ذلك جاء تلميذُه سِيبَوَيهِ وتناوَل هذه القَضيَّةَ بشَكلٍ مُفَصَّلٍ، وقام مِن بَعدِه عُلَماءُ اللُّغةِ بالتحَدُّثِ في هذه القضيَّةِ: (كابنِ دُرَيدٍ في كِتابِه ((الجَمهرة))، والجَواليقيِّ في كِتابِه ((المُعَرَّب))، والفَيْروزآباديِّ في ((القاموس))، والخَفاجيِّ في ((شِفاء الغَليلِ))... إلخ).
من أوائِلِ المُصَنَّفاتِ في السَّاحةِ التي كانت مُنفَرِدةً في الحديثِ عن قضيَّةِ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ: كِتابُ ((المُعَرَّب منَ الكَلامِ الأعجَميِّ)) للجَواليقيِّ؛ ففي مُقَدِّمةِ الكتابِ يقولُ: (هذا كِتابٌ نَذكُرُ فيه ما تَكَلَّمَتْ به العَرَبُ منَ الكَلامِ الأعجَميِّ ونَطقَ به القُرآنُ المجيدُ، وورَدَ في أخبارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليُعرَفَ الدَّخيلُ منَ الصَّريحِ) [333] ((المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم)) للجواليقي (ص: 5). .
العَرَبُ الأوائِلُ جَعلوا مُصطَلَحيِ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ مُترادِفَينِ، وهذا ما نراه واضِحًا جَليًّا في مُصَنَّفاتِهم، فنَجِدُ مَثَلًا الجَواليقيَّ يَتَحَدَّثُ عنِ الدَّخيلِ ويقصِدُ به المُصطلَحينِ معًا، وفي كِتابِ المُزهِر للسُّيوطيِّ نجِدُ هذا التَّرادُفَ، وأيضًا عِندَ الخَفاجيِّ، فيذكُرُ في كتابِه: (التَّعريبُ: نَقلُ اللَّفظِ منَ العَجميَّةِ إلى العَرَبيَّةِ) [334] ((شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل)) للخفاجي (ص: 23). .
وعن طريقِ تَتَبُّعِ مجموعةٍ مِنَ المُصَنَّفاتِ، نَستخلِصُ ما يأتي:
- عَدَمُ وُجودِ تفريقٍ بَينَ مُصطَلَحيِ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ.
- استِعمالُ مُصطَلَحِ المُعَرَّبِ بَدَل الدَّخيلِ بكثرةٍ مُفرِطةٍ، وتَعَدُّدُ تَسميةِ لَفظِ المُعَرَّبِ (إعرابًا، ومُعَرَّبًا... إلَخ).
- اختِلافٌ في وضعِ شُروطِ وضوابِطِ التَّعريبِ (شَرْطُ الإلحاقِ بكَلامِ العَرَبِ، شَرْطُ تَغييرِ البِنْيةِ، شَرطُ الاستِعمالِ... إلَخ).
قَضيَّةُ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ عِندَ المُحْدَثينَ:
اللُغَويُّونَ المُحْدَثونَ حاولوا وضعَ فاصلٍ يَفصِلُ بَينَ المُعَرَّبِ والدَّخيلِ في اللُّغةِ؛ فالمُعَرَّبُ عِندَهم: هو لَفظٌ استعاره العَرَبُ القُدامى في عَصرِ الاحتِجاجِ من أمَّةٍ أُخرى، واستَعمَلوه في لِسانِهم، أمَّا الدَّخيلُ: فهو لَفظٌ أخذَتْه العَربيَّةُ من عَصرِ الاحتِجاجِ، ولكِنْ في مَرحلةٍ مُتأخِّرةٍ، والكَلِمةُ الدَّخيلةُ قد تأتي كما هي أو بتحريفٍ بسيطٍ في نُطقِها.
والمُعَرَّبُ والدَّخيلُ منَ الألفاظِ قَديمٌ في لُغَتِنا، وهو تَحويلٌ طَبيعيٌّ أو تَغييرٌ تَدريجيٌّ يَطرَأُ على اللُّغةِ ويَجري بها في ناموسٍ مُطَرَّدٍ، وقد خَضَعَتِ اللُّغةُ العَربيَّةُ بمَجموعِها ومن أوَّل نَشأتِها كما تَخضَعُ له الآنَ وبَعدَ الآنَ.
وليستِ العَرَبيَّةُ بِدْعًا بَينَ اللُّغاتِ، فاللُّغةُ الحَيَّةُ تَنمو وتَتَفاعَلُ مع اللُّغاتِ الأُخرى؛ فقَدِ اقتَرَضَ العَربُ قَبلَ الإسلامِ منَ اللُّغاتِ الآراميَّةِ والحَبشيَّةِ والعِبْريَّةِ والهنديَّةِ وغَيرِها، وهذا الاقتِراضُ إن دَلَّ على شَيءٍ فإنَّما يَدُلُّ على قُدرةِ العَرَبيَّةِ الفائِقةِ على استيعابِ الجَديدِ منَ الألفاظِ وهضْمِه ليَكونَ جُزءًا منها مُعَبِّرًا عن شُؤونِ الحَياةِ المُختَلفةِ.
وهيَ في الوقتِ نَفسِه أقرَضَت كثيرًا منَ اللُّغاتِ، وتَأثيرُها في هذه اللُّغاتِ واضِحٌ لا سيَّما في الفارِسيَّةِ والتُّركيَّةِ والأُرديَّةِ والكُرديَّةِ والأرمَنيَّةِ فضلًا عنِ اللُّغاتِ الأوروبيَّةِ؛ مِثل: الإنكِليزيَّةِ والإسبانيَّةِ والألبانيَّةِ والبُرتُغاليَّةِ والألمانيَّةِ [335] يُنظر: ((المعرب والدخيل في كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري)) لصفاء صابر مجيد البياتي (ص: 21)، و((كلام العرب من قضايا اللغة العربية)) لحسن ظاظا، و((شبكة الألوكة)) قضية المعرب والدخيل، لهاجر الملاحي، ((الاشتقاق والتعريب)) لعبد القادر المغربي (ص: 26). .
والتَّعريبُ الذي نُريدُ الحَديثَ عنه هنا يَشتَمِلُ على:
1- صَوغِ الألفاظِ الأجنَبيَّةِ صياغةً لا تَخرُجُ على ذَوقِ العَرَبيَّةِ، ويَشمَلُ ذلك: الأعلامَ والمُصطَلَحاتِ التي يَستَعصي علينا وضعُ لَفظٍ عَرَبيٍّ لها.
2- وَضعِ كلماتٍ عَرَبيَّةٍ للألفاظِ الأجنَبيَّةِ أوِ المُصطَلَحاتِ العِلميَّةِ.
3- تَدريسِ العُلومِ باللُّغةِ العَربيَّةِ في جامِعاتِنا، ووضعِ الكُتُبِ فيها أو نَقْلِها منَ اللُّغاتِ الأجنَبيَّةِ.
ولا بُدَّ أن نُشيرَ إلى أنَّ الرَّأيَ القائِلَ بالبَقاءِ للتَّعليمِ العالي باللُّغةِ الأجنَبيَّةِ لئَلَّا تَنعَزِلَ عنِ الحَرَكةِ العِلميَّةِ العاليةِ: مَردودٌ لعِدَّةِ أسبابٍ؛ منها:
1- أنَّه لا يَجوز فصلُ التَّعليمِ العالي عنِ التَّعليمِ الابتِدائيِّ والثَّانَويِّ.
2- إن كانتِ العَرَبيَّةُ لُغةَ الدَّولةِ بصُحُفِها وكُتُبِها ومِجَلاتِها ومَكتَباتِها الرَّسميَّةِ، فلا يَجوزُ أن يَشِذَّ التَّعليمُ العالي عن كُلِّ هذا.
3- أنَّ أوروبَّا لم تَجعَلِ اللُّغةَ العَربيَّةَ لُغةَ التَّعليمِ العالي في العَصرِ الوسيطِ يَومَ كانت تَتَلَمَذُ على يَدِ العَرَبِ.
4- أنَّ تَدريسَ العُلومِ بلُغةٍ غَيرِ العَرَبيَّةِ هو نَوعٌ منِ استِمرارِ الاستِعمارِ الثَّقافيِّ.
ولا شَكَّ في أنَّ جَعلَ التَّعليمِ باللُّغةِ العَربيَّةِ يَحُلُّ كثيرًا منَ المَشاكِل؛ فهو يَحُلُّ أوَّلًا مُشكِلةَ غُمُوضِ المُصطَلَحاتِ العِلميَّةِ، وهو ثانيًا يُضَيِّقُ الهوَّةَ بَينَ الفُصحى والعاميَّةِ.
وهو ثالثًا يَنشُرُ التَّعليمَ بَينَ النَّاسِ؛ لأنَّ الاعتِمادَ على اللُّغةِ الأجنَبيَّةِ في تَعليمِ المَوادِّ العِلميَّةِ يَزيدُ إلى صُعوبةِ تَعَلُّمِ هذه المَوادِّ صُعوبةَ تَعَلُّمِ لُغاتِها، وهذا السَّبَبُ أدَّى إلى إخفاقِ كثيرٍ منَ الطَّلَبةِ في الامتِحاناتِ لعَدَمِ إتقانِهم للُغةِ المَوادِّ العِلميَّةِ، فهم يُتقِنونَ المادَّةَ العِلميَّةَ لَكِنَّهم لا يَستَطيعونَ التَّعبيرَ عَمَّا يَعرِفونَه باللُّغةِ الأجنَبيَّةِ.
5- أنَّ الأُمَّةَ التي تُهمِلُ لُغَتَها أمَّةٌ تَحتَقِرُ نَفسَها وتَفرِضُ على نَفسِها التَّبَعيَّةَ الثُّقافيَّةَ، وحاشا أن نَقبَلَ ذلك؛ لأنَّنا نُؤمِنُ أنَّ تَعلُّمَ اللُّغةِ وتَعليمَها ليس مِهنةً أو قَضيَّةً تَعليميَّةً، وإنَّما هو قَضيَّةٌ وطَنيَّةٌ ورِسالةٌ قَوميَّةٌ.
ونَحنُ حينَ نَدعو إلى ذلك لا نُنكِرُ أهمِّيَّةَ اللُّغاتِ الأجنَبيَّةِ، بَل نُنادي بإصرارٍ على وُجودِ تَعليمِها وإتقانِها، ولَكِنَّنا نُنكِرُ إهمالَ تَعليمِها وعَدَمَ إدخالها مُقَرَّرًا دِراسيًّا في جَميعِ الأقسامِ.
إنَّ التَّعليمَ بغَيرِ العَرَبيَّةِ يُلقي في نُفوسِ الطُّلَّابِ أنَّ لُغَتَهمُ القَوميَّةَ قاصِرةٌ غَيرُ ذاتِ نَفعٍ لهم، وأنَّها لا تَصلُحُ أداةً للعِلمِ ولا وسيلةً للبَحثِ العِلميِّ.
والحَقيقةُ أنَّ اللُّغةَ العَرَبيَّةَ ليست عاجِزةً في رَصيدِها اللُّغَويِّ وليست ضَعيفةً تَهبُّ عليها الأحداثُ فتَقضي على كيانِها وتُحطِّمُ بُنيانَها؛ لأنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ تَصَدَّت لكُلِّ الأحداثِ وواجَهت كُلَّ المَعارِكِ في طَريقِها الطَّويلِ، وخَرَجَت بحَمدِ اللهِ مُنتَصِرةً [336] يُنظر: ((فقه اللغة)) لصالح الضامن (ص: 93). .

انظر أيضا: