موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: ثَباتُ الأصواتِ في العَرَبيَّةِ


على الرَّغمِ من أنَّ النُّطقَ في الأقطارِ العَربيَّةِ بَعدَ الاختِلاطِ بالأعاجِمِ أصابه التَّغييرُ والتَّبديلُ، ولكِنْ جوهَرُ الصَّوتِ العَرَبيِّ ما زال باقيًا متمَثِّلًا في قراءةِ القُرآنِ الكريمِ، والحُروفُ الصَّامِتةُ أخرجوها إخراجًا يَكادُ يَكونُ واحِدًا؛ وذلك لأسبابٍ عديدةٍ؛ منها: أنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ مَحفوظةُ الأُصولِ وأنسابُها معروفةٌ وجَليَّةٌ [269] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 213). ، وتشتَمِلُ كذلك على جَميعِ الأصَواتِ الإنسانيَّةِ ومَخارِجِها [270] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 285). .
وصِفاتُ الحُروفِ العَربيَّةِ تظهَرُ في أوسَعِ مَدرَجٍ صَوتيٍّ عَرَفَتْه اللُّغاتُ بأكمَلِها؛ فالحُروفُ العَرَبيَّةُ تتوزَّعُ في مخارِجِها بَينَ أقصى الحَلقِ من جِهةٍ وبَينَ الشَّفَتينِ من ناحيةٍ أُخرى.
وهناك لُغاتٌ أعجميَّةٌ كثيرةُ الحُروفِ، ولَكِنَّ مَخارِجَها دائمًا ما تكونُ مُنحَصِرةً في نِطاقٍ ضَيِّقٍ؛ فدائمًا ما تجدُها مُتَكاثِرةً في جانِبِ الشَّفَتَينِ وما تَبِعَها منَ الفَمِ والخَيشومِ في اللُّغاتِ الكثيرةِ الغُنَّةِ، أو تَجِدُها مجتَمِعةً في جِهةِ الحَلقِ، وفي الحالَتَينِ يَكونُ هناكَ ضِيقٌ في الأفُقِ الصَّوتيِّ واختِلالٌ في الميزانِ الصَّوتيِّ، وفِقدانٌ لحُسنِ الانسِجامِ؛ وذلك بسَبَبِ عدمِ توزيعِ الحُروفِ توزيعًا صحيحًا. واللُّغةُ العَربيَّةُ تميَّزت عن جميعِ ما عداها في مَجموعِ أصَواتِها بمَدرَجِها الصَّوتيِّ الواسِعِ، والعَدلُ في توزيعِ التَّدريجِ الصَّوتيِّ يجعَلُ بَينَ الأصواتِ انسِجامٌ وتوازُنٌ، وتوازُنُ الأصَواتِ في الكَلِمةِ الواحِدةِ. والعَرَبُ رفَضوا واستَهجَنوا الألفاظَ غيرَ المُتقارِبةِ الألفاظِ والحُروفِ. قال الجاحِظُ: (فإنَّ الزَّايَ لا تَقتَرِنُ بالظَّاءِ ولا السِّينِ ولا الضَّادِ ولا الذَّالِ بتَقديمٍ أو تَأخيرٍ، وكَذلك الجيمُ لا تُقارَنُ بالظَّاءِ ولا القافِ ولا الطَّاءِ ولا الغَينِ بتَقديمٍ ولا تَأخيرٍ) [271] يُنظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 77). .
والحَرفُ العَرَبيُّ تمَيَّزَ بمِيزةٍ فَريدةٍ، وهي ثَباتُ النُّطقِ من حيثُ الزَّمانُ؛ فإنَّ أيَّ حَرفٍ من حُروفِ العَرَبيَّةِ لو سَمِعْتَ أشعارَ القُدامى ونُطقَهم بهذا الحَرفِ تَجِدُ أنَّه لا يُوجَدُ هناك فَرقٌ بَينَ نُطقِك ونُطقِه، والقُرآنُ الكَريمُ من أعظَمِ الأدِلَّةِ على ذلك؛ فقد أخذه واستنبطَه المُتَأخِّرونَ عنِ المُتَقَدِّمينَ وذلك مُنذُ عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذاك عن طريقِ المُشافَهةِ دونَ أن يُغَيَّرَ في النُّطقِ ولو بحَرفٍ واحِدٍ، ولا شَكَّ أنَّ القُرآنَ الكَريمَ قد حِفَظَ أصالةَ هذا الحَرفِ العَرَبيِّ، وباعَد بَينَه وبَينَ ما لحِقَ وأصاب حروفَ اللُّغاتِ الأُخرى بالتَّدريجِ؛ فتارةً نراه يَكثُرُ وتارةً يَقِلُّ.
فلُغاتُهم لا يُوجَدُ مُستنَدٌ أو مَرجِعٌ قويٌّ لها كحالِ لُغتِنا مع القُرآنِ الكريمِ، فإذا أصاب لُغتَهم تَغيُّرٌ أو تطوُّرٌ في المستوى الصَّوتيِّ مَثَلًا، أصابَ ذلك لُغَتَهم كلَّها، أمَّا حالُ اللُّغةِ العربيَّةِ فيَختلِفُ؛ فإنَّها يُصِيبها التَّغيُّرُ على جميعِ المستَوَياتِ كشَأنِ باقي اللُّغاتِ، ولكنَّ هذه التَّغيُّراتِ تَنالُ فقطْ مِن لُغةِ النَّاسِ الَّتي يَتكلَّمون بها بعضُهم مع بعضٍ، ولا تَنالُ حظَّها مِن القرآنِ الكريمِ الَّذي بَقِيت لُغتُه وستَبْقى كما نَطَقها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكما أنزَلَها اللهُ تعالى، ولا اعتبارَ ببعضِ الحروفِ المختلَفِ حوْلَ نُطقِها قديمًا، كحَرفِ الضَّادِ مثلًا؛ فإنَّ هذا الخِلافَ قدْ نُقِل لنا كما هو أيَّامَ الخليلِ وسِيبوَيهِ، ولا شأنَ له بتَطوُّرِ مُستَوَياتِ اللُّغةِ؛ فنُطقُنا لحرفِ الضَّادِ الآنَ لا يَخرُجُ عن طَرائقِ نُطقِهم له قديمًا [272] يُنظر: ((مقدمة في علم القراءات)) لمحمد أحمد مفلح القضاة، وأحمد خالد شكري، ومحمد خالد منصور (ص: 189)، ((العربية وعلم اللغة الحديث)) لمحمد داود (ص: 23). .

انظر أيضا: