موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: أقْسامُ التَّجريدِ


تَتنوَّعُ أقْسامُ التَّجريدِ تبَعًا للأداةِ الَّتي يكونُ بها؛ فمنْها:
1- التَّجريدُ بواسطةِ (مِن) التَّجريديَّة:
كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
تَرى منهمُ الأُسْدَ الغِضابَ إذا سَطَوا
وتَنظُرُ منهم في اللِّقاءِ بُدورَا
فالمَعْنى: تَراهم أسُودًا غِضابًا إذا سَطَوا على غيرِهم، وتَراهم في غيرِ ذلك بُدورًا لجَمالِهم وضِيائِهم.
فجعَل الشَّاعرُ منهم ما يُوصَفُ بأنَّه أَسَدٌ عندَ السَّطوةِ، وما يُوصَفُ بأنَّه بَدرٌ عندَ اللِّقاءِ، والمَوْصوفُ بذلك هم على الحَقيقةِ، غيرَ أنَّه بالَغَ في وصْفِهم بذلك حتَّى انْتَزع منهم ما يُوصَفُ بذلك.
ومنه قولُ أبي العَلاءِ المَعرِّيِّ: البسيط
ماجَتْ نُمَيرٌ فهاجَتْ منك ذا لِبَدٍ
واللَّيثُ أفْتَكُ أفْعالًا مِنَ النَّمِرِ
يقولُ: إنَّ قَبيلةَ نُمَيرٍ هيَّجتْ فيه الأسدَ الرَّابِضَ بداخِلِه، وإنَّما يَقصِدُ وصْفَ نفْسِه بالأسدِ، لكنَّه بالَغَ في وصْفِه بذلك حتَّى انْتَزع مِن نفْسِه ما يُوصَفُ بأنَّه ذو لِبَدٍ، وهُو لقَبٌ للأسدِ [415] اللِّبَدُ: جمع لِبْدة، وهي الشَّعرُ المتراكِمُ بَيْنَ كتِفَيِ الأسَدِ. ينظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 301)، ((الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (2/ 533). .
2- التَّجريدُ بواسِطةِ (الباءِ التَّجريديَّةِ):
كقَولِهم: "لَئِن سألتَ فُلانًا لَتَسألَنَّ به البَحرَ"؛ فأصْلُ الكَلامِ: لَئن سألتَ فُلانًا فقد سألَتَ بحْرًا، شبَّه المَسؤولَ بالبَحرِ بجامِعِ السَّعَةِ والكَرمِ، غيَر أنَّه جرَّد مِنَ المَوْصوفِ بذلك وانْتَزع منه ما يُوصَفُ بأنَّه بحرٌ، واسْتخدَم في ذلك الباءَ التَّجريديَّةَ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
دَعوتُ كليبًا دَعوةً فكأنَّما
دَعوتُ به ابنَ الطَّوْدِ أو هو أسْرَعُ
شبَّه الشَّاعرُ سُرعةَ كُلَيبٍ في الإِجابةِ للدَّعوةِ بسُرعةِ ابنِ الطَّودِ، وابنُ الطَّودِ: الحَجرُ الَّذي يَهوي مِنَ الجبَلِ، وقيل: الصَّدى [416] ينظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/ 6)، ((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 616). . لكنَّ الشَّاعرَ انْتَزع مِن كُليبٍ شيئًا وَصَفه بأنَّه كابنِ الطَّودِ أو أسْرعُ منه؛ وذلك لشدَّةِ المُبالَغةِ.
3- التَّجريدُ بواسِطةِ (في):
كقَولِه تعالى: ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] ؛ فإنَّ جَهنَّمَ هي دارُ الخُلْدِ، لكنَّه انْتَزع منها دارًا أخرى جعَلها مُعَدَّةً في جَهنَّمَ لأجْلِ الكفَّارِ؛ تَهويلًا لأمرِها ومُبالَغةً في اتِّصافِها بالشِّدَّةِ.
4- التَّجريدُ بواسِطةِ الكِنايةِ:
ومنْها قولُ الأعْشَى: المنسرح
يا خيْرَ مَن يَركَبُ المَطِيَّ ولا
يَشرَبُ كأسًا بكفِّ مَنْ بَخِلا
يُريدُ الشَّاعرُ مدْحَ المَمدوحِ بالكَرمِ؛ وذلك أنَّه أرادَ وصْفَه بأنَّه يَشرَبُ الكأسَ بكَفِّ جَوادٍ، فانْتَزع مِنَ المَمدوحِ جوادًا يَشرَبُ هو الكأسَ بكَفِّه عن طَريقِ الكِنايةِ؛ لأنَّه إذا نفَى عنه الشُّربَ بكَفِّ البَخيلِ فقد أثْبَت له الشُّربَ بكفِّ كَريمٍ، ومَعْلومٌ أنَّه يَشرَبُ بكفِّ نفْسِه، فهُو ذلك الكَريمُ.
5- التَّجريدُ بغيرِ واسِطةٍ:
كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
فلَئِنْ بَقيتُ لأرْحلَنَّ بغَزوةٍ
تَحوي الغَنائِمَ أو يَموتُ كَريمُ
أراد بالكَريمِ نفْسَه، فكأنَّه انْتَزع مِن نفْسِه ما يُوصَفُ بالكَرمِ؛ مُبالَغةً في كَرمِ نفْسِه، ولِهذا لم يقُلْ: "أو يَموتُ".
وقيل: إنَّ تَقديرَ البيْتِ: "أو يموتُ منِّي كَريمٌ"، وعليه يكونُ التَّجريدُ هنا بـ "مِن" التَّجريديَّةِ، غيرَ أنَّه لا حاجَةَ إلى هذا التَّقْديرِ؛ لحُصولِ التَّجريدِ بدُونِه.
6- التَّجريدُ عن طَريقِ خِطابِ المَرْءِ لنفْسِه:
وهُو أنْ يَنْتزِعَ المُتكلِّمُ مِن نفْسِه شخْصًا مِثلَه في الصِّفةِ فيُخاطِبَه، كقولِ الأعْشى: البسيط
ودِّعْ هُرَيرةَ إنَّ الرَّكبَ مُرْتَحِلُ
وهل تُطيقُ وَداعًا أيُّها الرَّجُلُ
فحَديثُ الشَّاعرِ هنا يُخاطِبُ به نفْسَه، وقولُه: "أيُّها الرَّجلُ" يَعودُ في الحَقيقةِ على نفْسِه، انْتَزع منها شَخْصًا يُخاطِبُه بهذا الكَلامِ.
ومنه قولُ أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي: البسيط
لا خيْلَ عندَك تُهديها ولا مالُ
فلْيُسعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
فالشَّاعِرُ هنا يُخاطِبُ رجُلًا قدِ انْتَزعه مِن نفْسِه، يُشبِّهُه في الفقْرِ وقلَّةِ المالِ، ثمَّ يوجِّهُ له النُّصْحَ بأنْ يكونَ سَعيدًا ولو بالكَلامِ، ما دام الحالُ على غيرِ ذلك.
ومنه قول الحيَصَ بيْصَ الشَّاعِرِ: الطويل
إلامَ يَراكَ المَجدُ في زِيِّ شاعرٍ
وقد نَحِلَتْ شوقًا فُروعُ المَنابرِ
كتَمْتَ بعَيبِ الشِّعرِ حِلْمًا وحِكمةً
ببَعضِهما يَنقادُ صعْبُ المَفاخِرِ
أمَا وأبيكَ الخيرِ إنَّك فارِسُ الــــــــــــ
ــــــمَقالِ ومحُيي الدَّارِساتِ الغَوابِرِ
وإنَّك أعيَيتَ المَسامِعَ والنُّهَى
بقَولِك عمَّا في بُطونِ الدَّفاترِ
فالشَّاعِرُ يَتحسَّرُ على مَنْزلتِه الضائِعةِ في هذا الزَّمانِ؛ فإنَّ زِيَّ الشُّعراءِ لا يَليقُ به، وإنَّما مَوضِعُه اللَّائِقُ به هو الحُكْمُ والرِّياسةُ، وسِياسةُ النَّاسِ والخَطابَةُ فيهم؛ فعقْلُه مُمْتلِئٌ حِكمةً وحِلْمًا، والكَلامُ مَيدانُه الَّذي لا يُبارى فيه، ولا يُشَقُّ للِسانِه غُبارٌ.
غيرَ أنَّ الشَّاعرَ في كلِّ هذه الأبياتِ عمَد إلى انْتِزاعِ شخْصٍ مِن نفْسِه يُحدِّثُه، وقد أسْبَغ عليه تلك الصِّفاتِ الَّتي يتَّصفُ بها هو في الواقِعِ؛ مُبالَغةً في اتِّصافِه بتلك الصِّفاتِ [417] ينظر: ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم المدني (6/153)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 334). .
وهذا النَّوعُ مِنَ التَّجريدِ له فائِدتانِ:
الأُولى: طلَبُ التَّوسُّعِ في الكَلامِ؛ فإنَّه إذا كان ظاهِرُه خِطابًا لغيرِك وباطِنُه خِطابًا لنفْسِك، فإنَّ ذلك مِن بابِ التَّوسُّعِ، وهو شيءٌ اخْتصَّتْ به اللُّغةُ العَربيَّةُ دُونَ غيرِها مِنَ اللُّغاتِ.
والفائِدةُ الثَّانيةُ -وهِي الأبْلَغُ- أنَّ المُخاطَبَ يَتمكَّنُ مِن إجْراءِ الأوْصافِ المَقْصودةِ مِن مدْحٍ أو غيرِه على نفْسِه؛ إذْ يكونُ مُخاطِبًا بها غيرَه؛ ليكونَ أعْذَرَ وأبْرأَ مِنَ العُهدَةِ فيما يقولُه غيرَ مَحجورٍ عليه [418] ينظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 405). .
تَنْبيهٌ: خِطابُ المرْءِ لنفْسِه يَنْقسِمُ إلى قِسمَين: قِسْمٍ يَنتزِعُ المُتكلِّمُ مِن نفْسِه شخْصًا يُشابِهُه في أوْصافِه ويُخاطِبُه، وهذا هو القِسْمُ السَّابِقُ، وهُو الدَّاخِلُ في التَّجريدِ، وقِسْمٍ يُخاطِبُ فيه المُتكلِّمُ نفْسَه مُباشرةً، وهذا الَّذي يُقالُ له: نِصْفُ التَّجريدِ، ومنه قولُ الشَّاعرِ الوافر:
أقولُ لها وقد جَشَأَتْ وجاشَتْ
رُويدَكِ تُحمَدي أو تَستَريحي
فالشَّاعِرُ هنا يُخاطِبُ نفْسَه بعدَما اضْطربَتْ خوْفًا وقَلقًا حينَ رأى بَريقَ السُّيوفِ في المَعركةِ وهَمَّ بالفِرارِ، لكنَّه رجَع وخاطَبَها بما يُثبِّتُها، فأمَرها بالثُّبوتِ فإنَّها إمَّا أنْ تَنالَ الحمْدَ والمَنْزِلةَ والشَّرفَ، وإمَّا أنْ تَستريحَ مِن عَناءِ الحياةِ.
وقولُ الشَّاعِرِ: البسيط
أقولُ للنَّفسِ تأساءً وتَعزِيةً
إحدى يدَيَّ أصابَتْني ولم تُرِدِ
فهذا الشَّاعرُ قد قتَل أخوه ابنًا له، فلمَّا جيءَ به إليه ليَقتادَ منه ألقَى السَّيفَ وأنشَد هذا البيْتَ، يُريدُ أنَّه قال لنفْسِه على سَبيلِ التَّسليةِ والتَّصبيرِ: هذا أخي الَّذي مَحلُّه منِّي مَحلُّ إحدى يدَيَّ مِنَ الأخرى، وقد جنَى عليَّ سهْوًا وخَطأً لا عمْدًا [419] ينظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 408). .

انظر أيضا: