الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّاني: التَّقِيَّةُ بإظهارِ الكُفرِ

لا يجوزُ بحالٍ إظهارُ الكُفرِ أو المعصيةِ ابتداءً مِن غيرِ إكراهٍ بدعوى التقِيَّةِ.
ولهذا لَمَّا كاتب حاطِبُ بنُ أبي بلتَعةَ رَضِيَ اللهُ عنه كُفَّارَ قُرَيشٍ بخبَرِ مَسيرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلمين معه لفَتحِ مكَّةَ، لم يَعذِرْه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: إنَّه قد نافَقَ! لكِنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تبيَّن حالَه؛ لاحتمالِ أن يكونَ فِعْلُه كُفرًا ورِدَّةً عن الإسلامِ، أو أن يكونَ معصيةً لا تخرِجُه من المِلَّةِ. فلمَّا تبيَّن للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه إنما كاتَبَ قريشًا مصانعةً ومُداهنةً لهم، وتقيَّةً لأجلِ حِفظِ مالِه وأهلِه بمكَّةَ، لا مظاهرةً للمُشرِكين ولا موالاةً لهم على دينهِم؛ لم يُكَفِّرْه، وكانت تلك المعصيةُ منه مغفورةً بحَسَنِتِه العُظمى يومَ بَدرٍ، فإذا كان هذا في معصيةٍ ولم يُعذَرْ حاطِبٌ رَضِيَ اللهُ عنه، بل كان آثمًا بذلك، فكيف بالكُفرِ؟!
فالتظاهُرُ بكُفرٍ أو معصيةٍ من دونِ عُذرٍ يبيحُ ذلك يوجِبُ المؤاخَذةَ بحسَبِ ما تحقَّقَ في الظَّاهِرِ من كُفرٍ أو معصيةٍ.
وهذا الاشتراطُ في التقِيَّةِ هو حقيقةِ الفَرقِ بين منهجِ أهلِ السُّنَّةِ ومَنهَجِ الشِّيعةِ في التقِيَّةِ؛ فإنَّ التقِيَّةَ عند الشِّيعةِ هي الأصلُ، ويُبيحونَها من دونِ إكراهٍ مُوجِبٍ، بل لمجرَّدِ احتمالِ الضَّرَرِ، ولو لم يتحقَّقْ فِعلًا، وهذا في الحقيقةِ نِفاقٌ، وليس من التَّقِيَّة في شَيءٍ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (التُّقاةُ ليست بأن أكذِبَ وأقولَ بلساني ما ليس في قلبي، فإنَّ هذا نِفاقٌ، ولكِنْ أفعَلُ ما أقدِرُ عليه، كما في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((من رأى منكم منكَرًا فليغَيِّرْه بيَدِه، فإنْ لم يستطِعْ فبلِسانِه، فإن لم يستطِعْ فبقَلْبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ)) [1696] أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. .
وقال أيضًا: (فالمؤمِنُ إذا كان بين الكُفَّارِ والفُجَّارِ لم يكُنْ عليه أن يجاهِدَهم بيَدِه مع عَجْزِه، لكِنْ إن أمكَنَه بلِسانِه، وإلا فبقَلْبِه، مع أنَّه لا يكذِبُ ويقولُ بلسانِه ما ليس في قَلْبِه، إمَّا أن يظهِرَ دينَه، وإمَّا أن يكتُمَه، وهو مع هذا لا يوافِقُهم على دينِهم كُلِّه، بل غايتُه أن يكونَ كمؤمِنِ آلِ فِرعَونَ وامرأةِ فِرعَونَ، وهو لم يكنْ موافِقًا لهم على جميع دينِهم، ولا كان يكذِبُ ولا يقولُ بلسانِه ما ليس في قَلْبِه، بل كان يكتُمُ إيمانَه، وكتمانُ الدِّينِ شيءٌ، وإظهارُ الدِّينِ الباطِلِ شيءٌ آخَرُ، فهذا لم يبِحْه اللهُ إلَّا لمن أُكرِهَ، بحيث أبيحَ له النُّطقُ بكلمةِ الكُفرِ، واللهُ تعالى قد فَرَّق بين المنافِقِ والمكرَهِ، والرَّافضةُ حالُهم من جنسِ حالِ المنافقين، لا من جنسِ حالِ المكرَهِ الذي أكرِهَ على الكُفرِ وقَلْبُه مطمئنٌّ بالإيمانِ) [1697] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (6/424). .
وقال أيضًا: (أباح سُبحانَه عند الإكراهِ أن ينطِقَ الرَّجُلُ بالكُفرِ بلسانِه إذا كان قلبُه مُطمئِنًّا بالإيمانِ بخلافِ من شرح بالكفرِ صَدرًا، وأباح للمؤمنين أن يتَّقوا من الكافرين تُقاةً، مع نهْيِه لهم عن موالاتِهم، وعن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ التَّقِيَّةَ باللِّسانِ) [1698] يُنظر: ((الاستقامة)) (2/319). .
ومن هنا نعلَمُ أنَّ المناطَ في الإعذارِ بكتمانِ الدِّينِ، هو العَجزُ عن إظهارِه ولو لم يكُنْ إكراهٌ، وأمَّا إظهارُ الكُفرِ والمعصيةِ فلا بدَّ لإباحةِ التَّقِيَّةِ فيه الإكراهُ.
واشتراطُ الإكراهِ في التظاهُرِ بالكُفرِ عليه أدِلَّةٌ كثيرةٌ؛ منها: قَولُ اللهِ تعالى: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل: 106] .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ في بيانِ دَلالةِ هذه الآيةِ على هذا الأصلِ: (لم يَعذِرِ اللهُ من هؤلاء إلَّا من أُكرِهَ مع كونِ قَلْبِه مطمئنًّا بالإيمانِ، وأمَّا غيرُ هذا فقد كَفَر بعد إيمانِه، سواءٌ فَعَله خوفًا أو مداراةً أو مشحَّةً بوطَنِه أو أهلِه أو عشيرتِه أو مالِه، أو فعَلَه على وجهِ المزحِ أو لغيرِ ذلك من الأغراضِ، إلَّا المكرَهَ. فالآيةُ تدُلُّ على هذا من وجهينِ:
الأوَّلُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ، فلم يستثن ِاللهُ تعالى إلَّا المكرَهَ، ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ لا يُكرَهُ إلَّا على الكلامِ أو الفِعلِ، وأما عقيدةُ القَلبِ فلا يُكرَهُ عليها أحدٌ.
والثَّاني: قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل: 107] ، فصرَّح أنَّ هذا الكُفرَ والعذابَ لم يكُنْ بسَبَبِ الاعتقادِ أو الجَهلِ أو البُغضِ للدِّينِ أو محبَّةِ الكُفرِ، وإنما سببُه أنَّ له في ذلك حظًّا من حظوظِ الدُّنيا، فآثَرَه على الدِّينِ) [1699] يُنظر: ((كشف الشبهات)) (ص: 56). .
ولهذا فإنَّه لَمَّا كان بمكَّةَ قومٌ قد نطقوا بالشهادتينِ، لكِنَّهم ظاهروا المشركينَ من غيرِ إكراهٍ، لم يعذِرْهم اللهُ تعالى، بل حَكَم بنفاقِهم وكُفْرِهم، وبَيَّن ذلك للمسلمينَ، فقال تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا  * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 88-89] .
قال ابنُ كثير: (قال العوفي عن ابنِ عَبَّاسٍ: نزلت في قومٍ كانوا بمكَّةَ، قد تكَلَّموا بالإسلامِ، كانوا يظاهِرون المُشرِكين، فخرجوا من مكَّةَ يَطلُبون حاجةً لهم، فقالوا: إنْ لَقِينا أصحابَ محمَّدٍ فليس علينا منهم بأسٌ. وإنَّ المؤمنين لَمَّا أخبَروا أنَّهم قد خرجوا من مكَّةَ قالت فئةٌ من المؤمنين: اركَبوا إلى الجُبَناءِ فاقتلوهم؛ فإنَّهم يظاهِرون عليكم عَدُوَّكم. وقالت فئةٌ أخرى من المؤمنين: سبحانَ اللهِ، أو كما قالوا، أتقتُلون قومًا قد تكلَّموا بمثل ما تكَلَّمتُم به؟ أمِن أجلِ أنَّهم لم يهاجِروا ولم يتركوا ديارَهم تُستحَلُّ دماؤهم وأموالهم؟! فكانوا كذلك فئتينِ، والرَّسولُ عندهم لا ينهى واحِدًا من الفريقينِ عن شَيءٍ، فنزلت: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] . أخرجه ابنُ أبي حاتم، وقد رُوِيَ عن أبي سَلَمةَ بنِ عبد الرحمنِ وعكرمةَ ومجاهدٍ والضَّحَّاكِ وغيرِهم قريبٌ من هذا) [1700] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/371). ويُنظر: في ترجيح سبب النزول المذكور: ((تفسير ابن جرير)) (7/286). .
فهؤلاء لَمَّا ظاهروا المشرِكين ووالَوهم لم ينفَعْهم ما تظاهروا به من الإسلامِ؛ لأنَّ ما فعلوه لم يكُنْ تَقِيَّةً أُكرِهوا عليها، وإنما كان اختيارًا منهم لذلك، فلم يكُنْ لهم عذرٌ، وعلى هذا الأصلِ تُفهَمُ آيةُ التَّقِيَّةِ، وهي قَولُ الله تعالى: لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] .
قال ابنُ جرير: (معنى ذلك: لا تتَّخِذوا -أيُّها المؤمنون- الكُفَّارَ ظَهرًا وأنصارًا، توالونَهم على دينِهم، وتظاهِرونَهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدُلُّونَهم على عوراتِهم؛ فإنَّه من يفعَلْ ذلك فليس من الله في شيءٍ، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ اللهُ منه بارتدادِه عن دينِه، ودُخولِه في الكُفرِ، إلَّا أن تتَّقوا منهم تُقاةً، إلَّا أن تكونوا في سلطانِهم، فتخافوهم على أنفُسِكم، فتُظهِروا لهم الولايةَ بألسِنَتِكم، وتُضمِروا لهم العداوةَ، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكُفرِ، ولا تُعينوهم على مُسلمٍ بفِعلٍ) [1701] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 315). .
 وقال ابنُ عطية: (هذا النَّهيُ عن الاتخاذِ إنَّما هو فيما يُظهِرُه المرءُ، فأمَّا أن يتَّخِذَه بقَلْبِه ونيَّتِه فلا يفعَلُ ذلك مؤمِنٌ، والمنهيُّون هنا قد قرَّر لهم الإيمانَ، فالنَّهيُ إنَّما هو عبارةٌ عن إظهارِ اللُّطفِ للكُفَّارِ، والميلِ إليهم، ولفظُ الآيةِ عامٌّ في جميعِ الأعصارِ) [1702] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/ 419). .
وقال الشنقيطي: (هذه الآيةُ الكريمةُ فيها بيانٌ لكُلِّ الآياتِ القاضيةِ بمنعِ موالاةِ الكُفَّارِ مُطلقًا، وإيضاحُ أنَّ محلَّ ذلك في حالةِ الاختيارِ، وأمَّا عند الخَوفِ والتَّقِيَّةِ فيُرَخَّصُ في موالاتِهم بقَدْرِ المداراةِ التي يُكتفى بها شَرُّهم، ويُشتَرَطُ في ذلك سلامةُ الباطِنِ من تلك الموالاةِ) [1703] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 413). .
فمعنى الآيةِ هو: أنَّ مُظاهرةَ المُشرِكين وموالاتَهم كفرٌ مُطلقًا، سواءٌ كان ذلك بقَولٍ أو فِعلٍ، إلَّا أن يكونَ ذلك تقيَّةً، والتَّقِيَّةُ في ذلك لا تكونُ بمجَرَّدِ الخوفِ وتوقُّعِ الضَّرَرِ، وإنما تكونُ بحصولِ الإكراهِ حقيقةً.
فهنا فَرقٌ بين التَّقِيَّةِ بكتمانِ الدِّينِ، والذي يكفي في الإعذارِ فيه مجرَّدُ خَوفِ الضَّرَرِ، وبين إظهارِ الكُفرِ، فلا بدَّ فيه من تحقُّقِ الإكراهِ، لا مجرَّدِ الخَوفِ والتوقُّعِ.
ولهذا نهى اللهُ تعالى عن موالاةِ أهلِ الكِتابِ، وبَيَّن أنَّ مُوالاتَهم ولو مع الخوفِ كُفرٌ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة: 52] .
فلم يجعَلِ اللهُ مجرَّدَ الخشيةِ من أن تكونَ الدَّائرةُ والغَلَبةُ للكافرين عُذرًا في موالاتِهم، بل جعل من تولَّاهم واعتذر بالخَوفِ منهم كافِرًا مِثْلَهم، ثمَّ بَيَّن أنَّه لا يفعَلُ ذلك إلَّا من كان في قَلْبِه مَرَضُ النِّفاقِ.



انظر أيضا: