الموسوعة العقدية

الفَصْلُ الخامِسُ: الجَهلُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ

لتَحديدِ مَناطِ قيامِ الحُجَّةِ على النَّاسِ في توحيدِ الرُّبوبيَّةِ يَجِبُ اعتِبارُ بديهيَّتِه، وأنَّه أمرٌ فِطريٌّ متقَرِّرٌ في نفوسِ جميعِ البَشَرِ كما تقَدَّم ذِكْرُه؛ ولذلك جاءت الأدِلَّةُ الشَّرعيَّةُ للتَّذكيرِ بهذه العَقيدةِ الفِطريَّةِ، كما قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172] .
قال ابنُ القَيِّمِ: (لَمَّا كانت هذه آيةُ الأعرافِ في سورةٍ مَكِّيَّةٍ، ذكرَ فيها الميثاقَ والإشهادَ العامَّ لجَميعِ المكلَّفِينَ ممَّن أقَرَّ برُبوبيَّتِه ووَحدانيَّتِه وبُطلانِ الشِّرك، وهو ميثاقٌ وإشهادٌ تقومُ به عليهم الحُجَّةُ، وينقَطِعُ به العُذرُ، وتَحِلُّ به العُقوبةُ، ويَستحِقُّ بمخالفتِه الإهلاكَ، فلا بدَّ أن يكونوا ذاكِرينَ له، عارِفينَ به، وذلك ما فَطَرهم عليه مِنَ الإقرارِ برُبوبيَّتِه، وأنَّ فاطِرَهم رَبُّهم، وأنَّهم مَخلوقونَ مَربوبونَ، ثمَّ أرسَلَ إليهم رُسُلَه يذكِّرونهم بما في فِطَرِهم وعُقولِهم، ويُعَرِّفونَهم حَقَّه عليهم، وأمْرَه ونَهْيَه، ووَعْدَه ووعيدَه) [424] يُنظر: ((الروح)) (ص: 240). .
وقال حافظ الحَكَميُّ مُبيِّنًا أنواعَ المواثيقِ التي أخَذَها اللهُ عزَّ وجلَّ على بني آدَمَ: (هذه المواثيقُ كُلُّها ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ:
الأوَّلُ: الميثاقُ الذي أخَذَه اللهُ تعالى عليهم حين أخرَجَهم من ظَهرِ أبيهم آدَمَ عليه السَّلامُ، وأشهَدَهم على أنفُسِهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172] الآيات، وهو الذي قاله جمهورُ المفَسِّرينَ رَحِمَهم اللهُ في هذه الآياتِ، وهو نصُّ الأحاديثِ الثَّابِتةِ في الصَّحيحَينِ وغَيرِهما.
الميثاقُ الثَّاني: مِيثاقُ الفِطرةِ، وهو أنَّه تبارك وتعالى فَطَرَهم شاهِدينَ بما أخَذَه عليهم في الميثاقِ الأوَّلِ، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] الآية...
الميثاقُ الثَّالِثُ: هو ما جاءت به الرُّسُلُ، وأُنزِلَت به الكتُبُ؛ تجديدًا للميثاقِ الأوَّلِ، وتذكيرًا به رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] .
فمن أدرك هذا الميثاقَ، وهو باقٍ على فِطرتِه التي هي شاهِدةٌ بما ثَبَت في الميثاقِ الأوَّلِ، فإنَّه يَقبَلُ ذلك من أوَّلِ مرَّةٍ ولا يَتوقَّفُ؛ لأنَّه جاء مُوافِقًا لِما في فِطْرتِه، وما جبَلَه اللهُ عليه، فيزدادُ بذلك يقينُه، ويَقْوى إيمانُه، فلا يتلعثَمُ ولا يتردَّدُ، ومن أدركه وقد تغَيَّرَت فطرتُه عمَّا جبَلَه اللهُ عليه من الإقرارِ بما ثَبَت في الميثاقِ الأوَّلِ، بأن كان قد اجتالَتْه الشَّياطينُ عن دينِه، وهوَّده أبواه أو نصَّراه أو مَجَّساه؛ فهذا إن تدارَكَه اللهُ تعالى برَحمتِه فرجَعَ إلى فِطرتِه وصدَّق بما جاءت به الرُّسُلُ، ونزَلَت به الكُتُبُ؛ نَفَعه الميثاقُ الأوَّلُ والثَّاني، وإن كذَّب بهذا الميثاقِ كان مُكَذِّبًا بالأوَّلِ، فلم ينفَعْه إقرارُه به يومَ أَخَذَه اللهُ عليه؛ حيث قال: (بلى) جوابًا لقَولِه تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] ، وقامت عليه حُجَّةُ الله، وغَلَبت عليه الشَّقاوةُ، وحَقَّ عليه العذابُ) [425] يُنظر: ((معارج القبول)) (1/92). .
قال أبو حنيفةَ: (لا عُذْرَ لأحَدٍ مِنَ الخَلْقِ في جَهْلِه مَعرِفةَ خالِقِه؛ لأنَّ الواجِبَ على جميعِ الخَلْقِ مَعرِفةُ الرَّبِّ سُبحانَه وتعالى وتوحيدِه، لِما يرى من خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرضِ، وخَلْقِ نفَسِه، وسائِرِ ما خَلَق اللهُ سُبحانَه وتعالى) [426])) يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/132). .
فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ قد قامت به الحُجَّةُ القاطِعةُ للعُذرِ، حتى إنَّ المشرِكينَ كانوا مُقِرِّين بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، بل وببَعضِ تفاصيلِه، كما سبَقَ بَيانُه، فالأَولى بالمُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ أن يكونوا مُؤمِنينَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فلا يُتوقَّعُ من مُسلمٍ أن يجهَلَ هذا التَّوحيدَ، أو أن تشتَبِهَ عليه بعضُ تفاصيلِه، فضلًا عن أن ينكِرَ شَيئًا من خصائِصِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، كالتفَرُّدِ بالوحدانيَّةِ والخَلْقِ والتَّدبيرِ، أو أن يَنسُبَه جلَّ وعلا إلى نَقصٍ؛ كأن ينسُبَ له الوَلَدَ أو الصَّاحِبةَ، أو اللُّغوبَ، أو غَيرَها من النَّقائِصِ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، فهذا كلُّه مما لا يُتصَوَّرُ ورودُ الجَهلِ فيه على أحَدٍ مِن المسلِمينَ، فإذا صَدَر من أحَدِهم شَيءٌ من تلك الكُفريَّاتِ، فإنَّه يقعُ في الكُفرِ لا محالةَ [427] يُنظر: ((المقنع في فقه الإمام أحمد)) لابن قدامة (ص: 448)، ((فتاوى السبكي)) (2/586)، ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق معاش (ص: 126). .

انظر أيضا: