موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: حُكمُ المُزاحِ


المُزاحُ مُباحٌ، وقد يُستحَبُّ إذا كان فيه تطييبُ نفسِ المخاطَبِ، ومؤانَستُه بالضَّوابطِ الشَّرعيَّةِ، وقد يكونُ منهيًّا عنه إذا أفرَط فيه صاحِبُه أو داوَم عليه، أو كان فيه تحقيرٌ أو استهزاءٌ أو كَذِبٌ، أو ترويعٌ لمُسلِمٍ أو نحوُه ممَّا فيه ضَرَرٌ.
قال النَّوويُّ: (المُزاحُ المنهيُّ عنه هو الذي فيه إفراطٌ، ويُداوَمُ عليه؛ فإنَّه يورِثُ الضَّحِكَ وقَسوةَ القَلبِ، ويشغَلُ عن ذِكرِ اللهِ، والفِكرِ في مُهِمَّاتِ الدِّينِ، ويَؤولُ في كثيرٍ من الأوقاتِ إلى الإيذاءِ، ويورِثُ الأحقادَ، ويُسقِطُ المهابةَ والوَقارَ، فأمَّا ما سَلِم من هذه الأمورِ فهو المباحُ الذي كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفعَلُه على النُّدرةِ؛ لمصلحةِ تَطييبِ نَفسِ المخاطَبِ ومؤانسَتِه، وهو سُنَّةٌ مُستحبَّةٌ) [8674] ((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (7/3061). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (المنهيُّ عنه ما فيه إفراطٌ أو مُداومةٌ عليه؛ لِما فيه من الشُّغلِ عن ذِكرِ اللهِ، والتَّفكُّرِ في مهمَّاتِ الدِّينِ، ويَؤولُ كثيرًا إلى قسوةِ القَلبِ، والإيذاءِ والحِقدِ، وسُقوطِ المهابةِ والوَقارِ، والذي يَسلَمُ من ذلك هو المباحُ، فإن صادف مصلحةً، مِثلُ تطييبِ نَفسِ المخاطَبِ ومؤانَستِه، فهو مُستحَبٌّ. قال الغَزاليُّ: مِن الغَلَطِ أن يُتَّخَذَ المُزاحُ حِرفةً، ويتمسَّكَ بأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَزَح، فهو كمَن يَدورُ مع الزِّنجِ حيثُ دار، وينظُرُ رَقْصَهم، ويتمَسَّكُ بأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أذِنَ لعائشةَ أن تنظُرَ إليهم!) [8675] ((فتح الباري)) (10/526، 527). .
وقال المُرتَضى الزَّبيديُّ: (قال الأئمَّةُ: الإكثارُ منه والخروجُ عن الحَدِّ مُخِلٌّ بالمروءةِ والوَقارِ، والتَّنزُّهُ عنه بالمرَّةِ والتَّقبُّضُ مخِلٌّ بالسُّنَّةِ والسِّيرةِ النَّبويَّةِ المأمورِ باتِّباعِها والاقتداءِ بها، وخيرُ الأمورِ أوسَطُها) [8676] ((تاج العروس)) (7/117). .
وقال القاريُّ: (صَرَّح العُلَماءُ بأنَّ المُزاحَ بشَرْطِه من جملةِ المُسَتحَّباتِ) [8677] ((مرقاة المفاتيح)) (9/3722). .
ولكنْ قد يخرُجُ المُزاحُ عن الإباحةِ إلى التَّحريمِ إذا اشتَمَل على سُخريَّةٍ واستهزاءٍ أو غِيبةٍ.
الخُلاصةُ أنَّه (لا بأسَ بالمَزْحِ الخالي عن سَفسافِ الأمورِ وعن مخالَطةِ السِّفلةِ ومُزاحمتِهم، بل بَيْنَ الإخوانِ أهلِ الصَّفاءِ بما لا أذى فيه ولا ضَرَرَ ولا غِيبةَ، ولا شَينَ في عِرضٍ أو دِينٍ، بل ربَّما لو قيل: يُندَبُ، لم يَبعُدْ، إذا كان قاصِدًا به حُسنَ العِشرةِ والتَّواضُعَ للإخوانِ، والانبِساطَ معهم، ورَفْعَ الحِشمةِ بَيْنَهم، من غيرِ استهزاءٍ أو إخلالٍ بمروءةٍ أو استنقاصٍ بأحَدٍ منهم. وبالجُملةِ؛ فإنَّ المَزْحَ في مقامٍ يقتضيه لا مَلامَ فيه.
أمَّا إذا خرَج المَزحُ إلى حَدِّ الخَلاعةِ، أو كان مع السُّفَهاءِ أو مَن لا يُشاكِلُك؛ فهو هُجْنةٌ ومَذَمَّةٌ، وكذا إذا كان فيه غِيبةٌ، أو انهِماكٌ يُسقِطُ الحِشمةَ ويُقَلِّلُ الهَيبةَ، أو فُحشٌ يُورِثُ الضَّغينةَ، ويُحَرِّكُ الحُقودَ الكمينةَ، وعلى مِثلِ ذلك يُحمَلُ ما ورَد في ذَمِّ المَزحِ، وربَّما كان في مِثلِ هذه الأحوالِ سَببًا للعداوةِ والبغضاءِ، ومِفتاحًا لبابِ الشَّرِّ، وسدًّا لبابِ الرِّضا. وبابُ الشَّرِّ إذا فُتِح لا يُسَدُّ، وسَهمُ الأذى إذا أُرسِل لا يرتَدُّ، وقد يُعَرِّضُ العِرضَ للهَتكِ، والدِّماءَ للسَّفكِ؛ فحَقُّ العاقِلِ أن يَتَّقيه، ويُنَزِّهُ نفسَه عن وَصمةِ مَساويه) [8678] ((غذاء الأرواح بالمحادثة والمزاح)) لمرعي الكرمي (ص: 27، 44( بتصرُّفٍ. .

انظر أيضا: