موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذجُ من عِفَّةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


عِفَّةُ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (كان لأبي بَكرٍ غلامٌ يخرِجُ له الخَراجَ، وكان أبو بكرٍ يأكُلُ من خراجِه، فجاء يومًا بشيءٍ، فأكَل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ: وما هو؟ قال: كنتُ تكَهَّنْتُ لإنسانٍ في الجاهليَّةِ، وما أُحسِنُ الكِهانةَ إلَّا أني خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكَلْتَ منه! فأدخل أبو بكرٍ يَدَه، فقاء كُلَّ شيءٍ في بطنِه) [6858] أخرجه البخاري (3842). .
عِفَّةُ حكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
- عن حكيمِ بنِ حزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ قال: ((يا حكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، فمَن أخَذه بطِيبِ نَفسٍ بورِكَ له فيه، ومَن أخَذه بإشرافِ نَفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ، واليَدُ العُليا خيرٌ مِن اليَدِ السُّفلى))، قال حَكيمٌ: فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، والذي بعَثك بالحقِّ لا أرزَأُ [6859] لا أرزَأُ: من الرَّزءِ -بالفَتحِ- وهو النَّقصُ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/122). أحدًا بَعدَك شيئًا حتَّى أفارِقَ الدُّنيا، فكان أبو بكرٍ يدعو حكيمًا ليُعطيَه العطاءَ، فيأبى أن يقبَلَ منه شيئًا، ثُمَّ إنَّ عُمرَ دعاه ليُعطيَه، فيأبى أن يقبَلَه، فقال: يا مَعشَرَ المُسلِمينَ، إنَّي أعرِضُ عليه حقَّه الذي قسَم اللهُ له مِن هذا الفَيءِ، فيأبى أن يأخُذَه! فلم يرزَأْ حَكيمٌ أحدًا مِن النَّاسِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى توفِّيَ رحِمه اللهُ) [6860] رواه البخاري (1472) واللفظ له، ومسلم (1035) مختصرًا .
عِفَّةُ مرثَدِ بنِ أبي مَرثَدٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: ((كان رجلٌ يقال له مرثَدُ بنُ أبي مرثدٍ، وكان رجُلًا يحمِلُ الأسرى من مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بغيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها: عَناقُ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعد رجلًا من أسارى مكَّةَ يحمِلُه، قال: فجِئتُ حتى انتهيتُ إلى ظِلِّ حائطٍ من حوائِطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَناقُ فأبصرَت سوادَ ظِلِّي بجنبِ الحائِطِ، فلمَّا انتهت إليَّ عرَفَتْ [6861] عَرَفَتْ: أي: عرفَتْني. يُنظَر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/17). فقالت: مرثَدٌ؟ فقلتُ: مَرثَدٌ، فقالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فبِتْ عندنا اللَّيلةَ، قال: قُلتُ: حرَّم اللهُ الزِّنا، قالت: يا أهلَ الخيامِ، هذا الرَّجُلُ يحمِلُ أُسَراءَكم [6862] أُسَراءُ: جمعُ أسيرٍ. يُنظَر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/17). ، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ وسلَكْتُ الخَنْدمةَ [6863] الخَنْدَمةُ: جَبَلٌ بمكَّةَ. يُنظَر: ((معجم البلدان)) لياقوت (2/392). فانتَهَيتُ إلى كَهفٍ أو غارٍ، فدخلتُ فجاؤوا حتَّى قاموا على رأسي فبالوا، فظَلَّ بولُهم على رأسي وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثمَّ رجعوا ورجعتُ إلى صاحبي فحمَلتُه، وكان رجلًا ثقيلًا حتى انتهيتُ إلى الإذخِرِ [6864] الإذخِرُ: بكَسرِ الهمزةِ: حَشيشةٌ طَيِّبةُ الرَّائحةِ يُسقَفُ بها البيتُ فوق الخشَبِ، وهمزتُها زائدةٌ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/65). ، ففكَكْتُ عنه كُبُلَه [6865] كُبُلَه: جمعُ قِلَّةٍ للكَبْلِ: القَيدُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/248). ، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعييني [6866] ويُعْييني: أي: يُتعِبني ويَجهَدُني. يُنظَر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/17). حتَّى قَدِمتُ المدينةَ، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَناقًا؟ فأمسك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يَرُدَّ عليَّ شيئًا حتَّى نزلت: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا مَرثَدُ، الزَّاني لا ينكِحُ إلَّا زانيةً أو مُشرِكةً والزَّانيةُ لا ينكِحُها إلَّا زانٍ أو مُشرِكٌ، فلا تَنكِحْها)) [6867] رواه أبو داود (2051) مختصرًا، والترمذي (3177) واللفظ له، والنسائي (3228) باختلاف يسير. صحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/260)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2051)، وقال الترمذي: (حسنٌ غريبٌ)، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2051). .
عِفَّةُ عُثمانَ بنِ طَلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه:
- فقد ظَهَرت عِفَّةُ وشَهامةُ عُثمانَ بنِ طَلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه حين منع بنو المغيرةِ أبا سَلَمةَ أن يَصطَحِبَ معه زوجَه أمَّ سَلمةَ وابنَه معه عندما أراد الهجرةَ إلى المدينةِ، تقولُ أمُّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((...وانطلق زوجي أبو سَلَمةَ إلى المدينةِ، قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبينَ ابني. قالت: فكنتُ أخرُجُ كُلَّ غداةٍ فأجلِسُ بالأبطَحِ، فما أزالُ أبكي حتى أُمسيَ، سنةً أو قريبًا منها، حتى مرَّ بي رجلٌ من بني عمِّي أحدُ بني المغيرةِ، فرأى ما بي فرَحِمني، فقال لبني المُغيرةِ: ألا تُخرِجون هذه المسكينةَ، فرَّقتُم بينها وبين زوجِها وبين ولَدِها، قالت: فقالوا: الحَقي بزوجِك إن شئتِ. قالت: وردَّ بنو عبدِ الأسَدِ إليَّ عندَ ذلك ابني، قالت: فارتحَلْتُ بعيري ثم أخذتُ ابني فوضَعْتُه في حِجْري ثمَّ خرجتُ أريدُ زوجي بالمدينةِ، قالت: وما معي أحدٌ من خَلقِ اللهِ، قالت: قلتُ: أتبلَّغُ بمن لَقِيتُ حتى أقدَمَ على زوجي، حتى إذا كنتُ بالتَّنعيمِ لقيتُ عثمانَ بنَ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ أخا بني عبدِ الدَّارِ، فقال: أين يا بنتَ أبي أميَّةَ؟ قالت: أريدُ زوجي بالمدينةِ، قال: أو ما معك أحدٌ؟ قلتُ: لا واللهِ إلَّا اللهُ وابني هذا، قال: واللهِ ما لك من مَترَكٍ، فأخذ بخِطامِ [6868] الخِطامُ هو الحَبلُ الذي يقادُ به البعيرُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 186). البعيرِ فانطلَقَ معي يهوي به، فواللهِ ما صَحِبتُ رجلًا من العَرَبِ قطُّ أرى أنهَّ كان أكرَمَ منه؛ كان إذا بلغ المنزِلَ أناخ بي ثمَّ استأخر عنِّي، حتى إذا نزَلْنا استأخَرَ ببعيري فحَطَّ عنه، ثمَّ قيَّده في الشَّجَرةِ، ثمَّ تنحَّى إلى شجرةٍ فاضطجَعَ تحتَها، فإذا دنا الرَّواحُ قام إلى بعيري فقَدَّمه فرحَلَه [6869] أي: شَدَّ على ظهرِه الرَّحلَ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 120). ، ثمَّ استأخر عني، فقال: اركبي، فإذا ركِبتُ فاستويتُ على بعيري أتى فأخَذَ بخطامِه فقاد بي حتى ينزِلَ بي، فلم يَزَلْ يصنَعُ ذلك بي حتى أقدَمَني المدينةَ، فلمَّا نظر إلى قريةِ بني عَمرِو بنِ عَوفٍ بقُباءَ، قال: زوجُكِ في هذه القريةِ -وكان أبو سلمةَ بها نازِلًا- فادخُليها على بركةِ اللهِ، ثمَّ انصرف راجِعًا إلى مكَّةَ، قال: وكانت تقولُ: ما أعلَمُ أهلَ بيتٍ في الإسلامِ أصابهم ما أصاب أبو سَلَمةَ، وما رأيتُ صاحِبًا قَطُّ كان أكرَمَ من عثمانَ بنِ طلحةَ!)) [6870] رواه ابنُ هشام في ((السيرة)) (1/469). .

انظر أيضا: