الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: إذا كانت المُغارَسةُ على سبيلِ الشَّرِكةِ على الأرضِ والأشجارِ معًا


اختلَف الفُقَهاءُ إذا كانت المُغارَسةُ على سبيلِ الشَّرِكةِ على الأرضِ والشَّجرِ على قولَينِ:
القولُ الأوَّلُ: لا تصِحُّ المُغارَسةُ على سبيلِ الشَّرِكةِ على الأرضِ والشَّجرِ معًا، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّةِ [395] ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 34)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/ 130)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/ 12). ، والشَّافِعيَّةِ [396] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (6/ 108)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/ 423).          ، والحنابِلةِ [397] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/ 233)، وينظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (5/ 307).        ، وهو قولُ ابنِ حَزمٍ [398] قال ابنُ حزمٍ: (قال مالِكٌ: المغارَسةُ: هو أن يُعطى الأرضَ البيضاءَ ليغرِسَها من مالِه ما رأى حتى يبلغَ شَبابًا ما، ثمَّ له ما تعاقدا من رَقَبةِ الأرضِ ومن رقابِ ما غرَس. قال أبو مُحمَّدٍ: وهذا لا يجوزُ أصلًا؛ لأنَّه إجارةٌ مجهولةٌ لا يُدرى في كم يبلُغُ ذلك الشَّبابُ، ولعَلَّها لا تبلُغُه، ولا يُدرى ما غَرَس ولا عدَدُه، وأعجَبُ شيءٍ قولُه: "حتى يبلُغَ شبابًا ما"، والغروسُ تختَلِفُ في ذلك اختلافًا شديدًا متبايِنًا لا ينضَبِطُ البتَّةَ، فقد يشِبُّ بعضُ ما غَرَس ويَبطُلُ البعضُ، ويتأخَّرُ شَبابُ البعضِ، فهذا أمرٌ لا ينحَصِرُ أبدًا فيما يُغرَسُ، ولعلَّه لا يَغرِسُ له إلَّا شَجَرةً واحدةً أو اثنتين، فيُكَلَّفُ لذلك استحقاقَ نصفِ أرضٍ عظيمةٍ، فهو بَيعُ غَرَرٍ بثَمَنٍ مجهولٍ، وبيعٌ وإجارةٌ معًا، وأكلُ مالٍ بالباطلِ، وإجارةٌ مجهولةٌ، وشرطٌ ليس في كتابِ اللهِ تعالى؛ فهو باطِلٌ، قد جمع هذا القولُ كُلَّ بلاءٍ، وما نعلَمُ أحدًا قاله قَبْلَه، ولا لهذا القولِ حُجَّةٌ لا من قرآنٍ، ولا من سُنَّةٍ، ولا من روايةٍ سَقيمةٍ، ولا من قولِ صاحِبٍ ولا تابِعٍ نَعلَمُه، ولا من قياسٍ، ولا من رأيٍ له وَجهٌ، وما كان هكذا لم يَجُزِ القولُ به) ((المحلى)) (7/65). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ تحصيلَ مَنفَعةِ الأرضِ مُمكِنٌ بالإجارةِ؛ فلم يجُزِ العَملُ عليها ببعضِ ما يخرُجُ منها [399] ينظر: (( مغني المحتاج)) للشربيني (3/ 423).                  .
ثانيًا: ولأنَّه يكونُ مُشتريًا نِصفَ الغِراسِ منه بنِصفِ الأرضِ، والغِراسُ مجهولٌ، فلا يصِحُّ ذلك [400] ينظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 34).                    .
ثالثًا: لأنَّه شرَط اشتِراكَهما في الأصلِ، وهي الأرضُ، ففسَد، كما لو دفَع إليه الشَّجرَ والنَّخيلَ ليكونَ الأصلُ والثَّمَرةُ بَينَهما، أو شرَط في المُزارَعةِ كونَ الأرضِ والزَّرعِ بَينَهما [401] ينظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (5/ 307).                      .
رابعًا: لأنَّه لو جاز صار شريكًا بأوَّلِ جُزءٍ مِن العَملِ يقَعُ على العامِلِ فيما هو شريكٌ فيه لا يستوجِبُ الأجرَ، فإذا لم يصِحَّ العَقدُ لم يملِكْ شيئًا مِن المعمولِ، فبقِي عَملُه مُسلَّمًا إلى صاحِبِه بعَقدٍ فاسِدٍ، فله أجرُ مِثلِه لا يُجاوِزُ به نِصفَ ذلك؛ لتمامِ رِضاه بذلك القَدْرِ [402] ينظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 35).                    .
القولُ الثَّاني: تصِحُّ المُغارَسةُ على سبيلِ الشَّرِكةِ بجُزءٍ معلومٍ في الأرضِ والشَّجرِ معًا، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [403] ((منح الجليل)) لعليش (7/ 418(،((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/ 762) ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (3/ 728). ، ومُقتضى قولِ بعضِ الحنابِلةِ [404] قال ابنُ تيميَّةَ: (لو دفَعَ أرضَه إلى آخَرَ يغرِسُها بجزءٍ من الغِراسِ صَحَّ كالمزارعةِ، واختاره أبو حَفصٍ العُكْبَريُّ، والقاضي في تعليقِه، وهو ظاهِرُ مذهَبِ أحمدَ، ولو كانت الأرضُ مغروسةً فعامَلَه بجزءٍ من غراسِها، صَحَّ، وهو مقتضى ما ذكَره أبو حفصٍ ... ومقتضى قولِ أبي حفصٍ: أنَّه يجوزُ أن يغارِسَه بجزءٍ من الأرضِ، كما جاز النَّسجُ بجزءٍ من غزلِ نفسِه) ((الفتاوى الكبرى)) (5/405). ، وهو اختِيارُ ابنِ تيميَّةَ [405] قال المرداويُّ: (لو كان الاشتراكُ في الغِراسِ والأرضِ فَسَدت وَجهًا واحدًا، قاله المصَنِّفُ والشَّارحُ والنَّاظِمُ وغيرُهم. وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ: قياسُ المذهَبِ صِحَّتُها) ((الإنصاف)) (5/348)، وينظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (19/330). ، والشَّوكانيِّ [406] قال الشَّوكانيُّ: (المغارَسةُ نوعٌ من أنواعِ الإجاراتِ، فإذا حصَل التَّراضي على غَرسِ أشجارٍ معلومةٍ حتى تبلُغَ إلى حَدٍّ معلومٍ صَحَّ أن يكونَ ذلك بأُجرةٍ معلومةٍ من غيرِ الأرضِ، أو بجزءٍ من الأرضِ، أو من الشَّجَرِ) ((السيل الجرار)) (ص: 591). ، وابنِ بازٍ [407] قال ابنُ باز: (ذكَرَ العُلَماءُ أنَّ المالِكَ والغارِسَ إذا اتَّفَقا على أنَّ الأرضَ تابعةٌ للغِراسِ، فلا بأسَ، واختار هذا القولَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله، فإذا كان الجَدُّ عبدُ العزيزِ والجَدُّ عبدُ اللهِ رحمةُ اللهِ عليهما قد ذكَرا في عقدِ المغارسةِ أنَّ الأرضَ تابعةٌ للغِراسِ، فالشَّرطُ صحيحٌ على الرَّاجِحِ الذي اختاره شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رحمه اللهُ عملًا بالحديثِ المشهورِ: «المُسلِمون على شروطِهم»، ويكونُ للجَدِّ عبدِ اللهِ من الأرضِ بقَدْرِ الذي له من الغِراسِ حسَبَ الشَّرطِ الذي بَينَهما) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (19/330). .
الدَّليلُ مِن السُّنَّةِ:
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه قال: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصُّلحُ جائِزٌ بَينَ المُسلِمينَ، إلَّا صُلحًا أحَلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المُسلِمونَ على شُروطِهم)) [408] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجزم مختصرًا قبل حديث (2274)، وأخرجه موصولًا أبو داود (3594) واللفظ له، وأحمد (8784) مختصرًا صحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (5091)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3594)، وقال ابنُ القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/211): ينبغي أن يقال فيه: حسَنٌ. وصَحَّح إسنادَه عبدُ الحقِّ الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (718)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/319)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيحٌ. .

انظر أيضا: