الموسوعة الفقهية

الفَرْعُ الرَّابِعُ: المُضارَبةُ بالدَّيْنِ


المَسْألةُ الأُولى: المُضارَبةُ بدَيْنٍ في ذِمَّةِ العامِلِ
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُضارَبةِ بدَيْنٍ في ذِمَّةِ العامِلِ المُضارِبِ [240] كأنْ يكونَ لشَخْصٍ دَيْنٌ على آخَرَ، فيقولَ له: ضارِبْ بالدَّيْنِ الَّذي لي عليك. على قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: لا تَجوزُ المُضارَبةُ بدَيْنٍ في ذِمَّةِ العامِلِ المُضارِبِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأرْبَعةِ: الحَنَفِيَّةِ [241] ((حاشية ابن عابدين)) (5/648). ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/83). ، والمالِكِيَّةِ [242] ((التاج والإكليل)) للمواق (5/358)، ((منح الجليل)) لعليش (7/324). ، والشَّافِعِيَّةِ [243] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (6/82)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/310). ، والحَنابِلةِ [244] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/218). ، وحُكِيَ الإجْماعُ على ذلك [245] قالَ ابنُ المُنذِرِ: (قالَ كلُّ مَن نَحفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلمِ: لا يَجوزُ أن يَجعَلَ الرَّجُلُ دَيْنًا له على رَجُلٍ مُضارَبةً). ((الأوسط)) (10/570). وقالَ الكاسانيُّ: (إذا كانَ لرَبِّ المالِ على رَجُلٍ دَيْنٌ فقالَ له: اعْمَلْ بدَيْني الَّذي في ذِمَّتِك مُضارَبةً بالنِّصْفِ؛ أنَّ المُضارَبةَ فاسِدةٌ بلا خِلافٍ). ((بدائع الصنائع)) (6/83). وقالَ ابنُ قُدامةَ: (لا يَجوزُ أن يُقالَ لمَن عليه دَيْنٌ: ضارِبْ بالدَّيْنِ الَّذي عليك، نَصَّ أحْمَدُ على هذا، وهو قَوْلُ أَكثَرِ أهْلِ العِلمِ، ولا نَعلَمُ فيه مُخالِفًا. قالَ ابنُ المُنذِرِ: أَجمَعَ كلُّ مَن نَحفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلمِ أنَّه لا يَجوزُ أن يَجعَلَ الرَّجُلُ دَيْنًا له على رَجُلٍ مُضارَبةً). ((المغني)) (5/53). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه يَؤولُ إلى كَوْنِه سَلَفًا بزِيادةٍ [246] ((التاج والإكليل)) للمواق (5/358)، ((منح الجليل)) لعليش (7/324). .
ثانِيًا: لأنَّ الدَّيْنَ في الذِّمَّةِ مِلْكٌ لمَن هو عليه، ولا يَملِكُه رَبُّه إلَّا بقَبْضِه، ولم يُوجَدْ [247] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/218). .
القَوْلُ الثَّاني: تَجوزُ المُضارَبةُ بدَيْنٍ في ذِمَّةِ العامِلِ المُضارِبِ، وهو قَوْلُ أَشهَبَ مِن المالِكِيَّةِ [248] ((التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب)) لخليل بن إسحاق (7/36). ، ووَجْهٌ عنْدَ الشَّافِعِيَّةِ [249] ((بحر المذهب)) للروياني (7/78)، ((كفاية النبيه)) لابن الرفعة (11/100). ، وقَوْلٌ لبعضِ الحَنابِلةِ [250] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/286)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/319). ، وهو اخْتِيارُ ابنِ القَيِّمِ [251] قالَ ابنُ القَيِّمِ: (في صورةِ المُضارَبةِ بالدَّيْنِ قَوْلانِ في مَذهَبِ الإمامِ أحْمَدَ؛ أحَدُهما: أنَّه لا يَجوزُ ذلك، وهو المَشْهورُ؛ لأنَّه يَتَضمَّنُ قَبْضَ الإنْسانِ مِن نَفْسِه، وإبْراءَه لنَفسِه مِن دَيْنِ الغَريمِ بفِعْلِ نفْسِه؛ لأنَّه متى أَخرَجَ الدَّيْنَ وضارَبَ به فقدْ صارَ المالُ أمانةً وبَرِئَ مِنه؛ وكذلك إذا اشْتَرى به شَيئًا أو تَصَدَّقَ به. والقَوْلُ الثَّاني: أنَّه يَجوزُ، وهو الرَّاجِحُ في الدَّليلِ، وليس في الأَدِلَّةِ الشَّرْعيَّةِ ما يَمنَعُ مِن جَوازِ ذلك، ولا يَقْتَضي تَجْويزُه مُخالَفةَ قاعِدةٍ مِن قَواعِدِ الشَّرْعِ، ولا وُقوعًا في مَحْظورٍ مِن رِبًا ولا قِمارٍ ولا بَيْعِ غَرَرٍ، ولا مَفْسدةَ في ذلك بوَجْهٍ ما؛ فلا يَليقُ بمَحاسِنِ الشَّريعةِ المَنْعُ مِنه. وتَجْويزُه مِن مَحاسِنِها ومُقْتَضاها). ((إعلام الموقعين)) (3/262). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه اشْتَرى شَيئًا للمُضارَبةِ بإذْنِ مالِكِه، ودَفَعَ الثَّمَنَ إلى مَن أَذِنَ له في دَفْعِ الثَّمَنِ إليه، فتَبرَأُ ذِمَّتُه مِنه [252] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/286). .
ثانِيًا: لأنَّه يَجوزُ أن يَقبِضَ مِن نَفْسِه لمُوَكِّلِه [253] ((الإنصاف)) للمرداوي (5/319). .
ثالِثًا: لأنَّه بمَنزِلةِ الوَكيلِ؛ فهو كما لو قالَ: اشْتَرِ لي سِلْعةً بألْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قالَ: ادْفَعِ الألْفَ الَّذي لي عليك في ثَمَنِها [254] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (7/78)، ((كفاية النبيه)) لابن الرفعة (11/100). .
رابِعًا: لا يوجَدُ دَليلٌ يَمنَعُ مِن جَوازِ ذلك، ولا يَقْتَضي تَجْويزُه مُخالَفةَ قاعِدةٍ مِن قَواعِدِ الشَّرْعِ، ولا وُقوعًا في مَحْظورٍ مِن رِبًا ولا قِمارٍ ولا بَيْعِ غَرَرٍ، ولا مَفْسَدةَ في ذلك بوَجْهٍ ما؛ فلا يَليقُ بمَحاسِنِ الشَّريعةِ المَنْعُ مِنه. وتَجْويزُه مِن مَحاسِنِ الشَّريعةِ ومُقْتَضاها [255] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/262). .
المَسْألةُ الثَّانيةُ: المُضارَبةُ بدَيْنٍ على غَيْرِ العامِلِ
تَجوزُ المُضارَبةُ بدَيْنٍ على غَيْرِ العامِلِ [256] كأنْ يقولَ شَخْصٌ لآخَرَ: خُذِ ألْفَ الرِّيالِ الَّتي لي في ذِمَّةِ فُلانٍ وضارِبْ بِها، أو يقولَ الدَّائِنُ لغَريمِه: أَعْطِ فُلانًا ألْفَ الرِّيالِ الَّتي لي في ذِمَّتِك ليُضارِبَ بِها. ، وهو مَذهَبُ الحَنَفِيَّةِ [257] ((حاشية ابن عابدين)) (5/648). ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/83). ، والحَنابِلةِ [258] ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/512). ، واخْتِيارُ ابنِ عُثَيْمينَ [259] قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (قَوْلُه: «ويَحتَمِلُ أن تَصِحَّ المُضارَبةُ» هذا الاحْتِمالُ هو الصَّحيحُ، فإذا قالَ لغَريمِه: يا فُلانُ أَعْطِ فُلانًا ألْفَ رِيالٍ ممَّا في ذِمَّتِك لي لفُلانٍ مُضَارَبةً، فهذا جائِزٌ؛ لأنَّه وَكَّلَهُ، والوَكالةُ جائِزةٌ إلَّا فيما يكونُ حَرامًا). ((التعليق على الكافي لابن قُدامةَ)) (6/106). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ المُضارَبةَ هنا أُضيفَتْ إلى المَقْبوضِ، فكانَ رأسُ المالِ عَيْنًا لا دَيْنًا [260] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/83). .
ثانِيًا: لأنَّ هذا تَوْكيلٌ بالقَبْضِ وإضافةٌ للمُضارَبةِ إلى ما بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ، وذلك جائِزٌ [261] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/54). .
ثالِثًا: لأنَّه وَكَّلَه في قَبْضِ الدَّيْنِ، وعَلَّقَ المُضارَبةَ على القَبْضِ، وهو صَحيحٌ [262] ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/512). .

انظر أيضا: