الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: حُكْمُ القَرْضِ في حَقِّ المُقرِضِ


يُسْتحَبُّ القَرْضُ في حَقِّ المُقرِضِ [12] الأصْلُ فيه النَّدْبُ، وقد يَجِبُ أو يُكرَهُ أو يَحرُمُ حسَبَ ما يَقْتضيه الحالُ. قالَ الدُّسوقي: («قَوْلُه: والأصْلُ فيه النَّدْبُ» أشارَ بهذا إلى أنَّ المُرادَ بالجَوازِ الإذْنُ لا المُستوي الطَّرَفَينِ؛ لأنَّ حُكْمَه مِن حيثُ ذاتُه النَّدْبُ، وقد يَعرِضُ له ما يوجِبُه كالقَرْضِ لتَخْليصِ مُسْتهلَكٍ، والكَراهةُ كقَرْضٍ مِمَّن في مالِه شُبْهةٌ أو لِمَن يُخْشى صَرْفُه في مُحَرَّمٍ مِن غَيْرِ أن يَتَحَقَّقا ذلك، أو حُرْمتُه كجارِيةٍ تَحِلُّ للمُقْترِضِ ولا يكونُ مُباحًا). ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/223). وقالَ القَلْيُوبِيُّ: (قد يَجِبُ كما في المُضْطَرِّ، وقد يُكرَهُ كمَن تُوهِّمَ أنَّه يَصرِفُه في مَعْصيةٍ، وقدْ يَحرُمُ كمَن ظُنَّ مِنه ذلك، وكغَيْرِ مُضْطَرٍّ لم يَرْجُ وَفاءً إذا لم يَعلَمِ المُقرِضُ بحالِه، وكمَن أَظهَرَ صِفةً لو عَلِمَ المُقرِضُ بحالِه لم يُقرِضْه، كما في صَدَقةِ التَّطَوُّعِ، ولا تَدخُلُه الإباحةُ؛ لأنَّ أصْلَه النَّدْبُ، وقالَ شَيْخُنا بها فيما إذا لم يَرجُ وَفاءً كما مَرَّ وعَلِمَ المالِكُ بحالِه. فراجِعْه). ((حاشية قَلْيُوبِي)) (2/320). وقالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (ويَجِبُ القَرْضُ أحْيانًا فيما إذا كانَ المُقْترِضُ مُضْطَرًّا لا تَنْدفِعُ ضَرورتُه إلَّا بالقَرْضِ، ولكن لا يَجِبُ إلَّا على مَن كانَ قادِرًا عليه مِن غَيْرِ ضَرَرٍ عليه في مَؤونتِه ولا مَؤونةِ عِيالِه. كما أنَّه يكونُ أحْيانًا حَرامًا إذا كانَ المُقْترِضُ اقْتَرَضَ لعَمَلٍ مُحَرَّمٍ؛ لقَوْلِه تَعالى: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] ). ((الشرح الممتع)) (9/94). ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأرْبَعةِ: الحَنَفِيَّةِ [13] ((المبسوط)) للسرخسي (14/31). ، والمالِكِيَّةِ [14] ((التاج والإكليل)) للمواق (4/545)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/223). ، والشَّافِعيَّةِ [15] ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (3/67)، ((حاشية قليوبي)) (2/320). ، والحَنابِلةِ [16] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/93)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/312). .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكِتابِ
قَوْلُ اللهِ تَعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الإقْراضَ مِن الإحْسانِ، فيَدخُلُ في عُمومِ الآيةِ [17] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/94). .
ثانِيًا: مِن السُّنَّةِ
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَن مَنَحَ مَنيحةَ وَرِقٍ [18] المَنيحةُ هي العَطِيَّةُ، والمُرادُ بمَنيحةِ الوَرِقِ قَرْضُ الفِضَّةِ أو هِبَتُها. يُنظَرُ: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/729)، ((الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني)) (15/163). ، أو هَدَى زُقاقًا [19] الزُّقاقُ: هو الطَّريقُ، والمَعْنى مَن دَلَّ الأَعْمى أو الضَّالَّ على طَريقِه. وقيلَ مَن تَصَدَّقَ بُزقاقٍ مِن النَّخْلِ، أي: بالصَّفِّ مِن أشْجارِ النَّخْلِ. يُنظَرُ: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/306)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (5/1554). ، أو سَقى لَبَنًا، كانَ له عِدْلُ رَقَبةٍ أو نَسَمةٍ، ومَن قالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قَديرٌ، عَشْرَ مِرارٍ، كانَ له عِدْلُ رَقَبةٍ أو نَسَمةٍ)) [20] أخرجه الترمذي (1957) مختصرًا، وأحمد (18704) واللَّفظُ له. صحَّحه الترمذيُّ، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (4/86)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5096)، وابن العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (4/336)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1957). .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
في قَوْلِه: ((مَن مَنَحَ مَنيحةَ وَرِقٍ ...)) والمُرادُ بمَنيحةِ الوَرِقِ هو القَرْضُ [21] ((سنن الترمذي)) (4/340)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/87). .
ثالِثًا: مِن الآثارِ
عن عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: (لأَنْ أُقرِضَ مَرَّتَينِ أَحَبُّ إليَّ مِن أن أَتَصَدَّقَ مَرَّةً) [22] أخرجه البُخاريُّ في ((التاريخ الكبير)) (4/121)، والبيهقي معلَّقًا بعد حديث (11270). قال البيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) (3/1311)، والدارقطني كما في ((العلل المتناهية)) لابن الجوزي (2/602): المَوْقوفُ أَصَحُّ. وقالَ ابنُ كَثيرٍ في ((إرشاد الفقيه)) (2/40): ورُوِيَ مَوْقوفًا على عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ، وهو أَشبَهُ بالصَّوابِ. .
رابِعًا: لأنَّ فيه تَفْريجًا عن أخيه المُسلِمِ، وقَضاءً لحاجتِه، وعَوْنًا له؛ فكانَ مَنْدوبًا إليه، كالصَّدَقةِ عليه [23] ((المغني)) لابن قُدامةَ (4/236). .

انظر أيضا: