الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّالثُ: بَيعُ الرِّبويِّ بجِنسِه ومعَه مِن غيرِ جِنسِه مَقْصودًا في البيعِ وهي المسألةُ المشهورةُ عندَ الفُقهاءِ بــ(مُدُّ عَجوةٍ ودرهمٌ)، والمُدُّ: كيْلٌ مِقدارُه رُبعُ صاعٍ، أمَّا العَجوةُ فهي نَوعٌ منَ التَّمرِ، وسُمِّيتْ بذلك لأنَّ الفُقهاءَ مثَّلوا للمسألةِ بذلك، فاشتَهَرتْ به وصُوَرُها: أنْ تَجمَعَ صَفقةٌ رِبويًّا منَ الجانبَينِ ويختلِفَ الجنسُ في الجانبَينِ، كمُدِّ عَجْوةٍ ودِرهمٍ بمُدِّ عجْوةٍ ودِرهمٍ، أو مُدِّ عَجْوةٍ ودِرهَمينِ بمُدَّينِ، أو مُدٍّ ودِرهمٍ بدرهَمينِ، أوِ اشتمَلَا على جِنسٍ رِبويٍّ وانضَمَّ إليه غيرُ رِبويٍّ فيهما، كدرهمٍ وثَوبٍ بدِرهمٍ وثَوبٍ، أو في أحَدِهما، كدِرهمٍ وثَوبٍ بدرهمٍ، أو اختلَفَ النَّوعُ منَ الجانبَينِ: بأنِ اشتمَلَ أحَدُهما مِن جِنسٍ رِبويٍّ على نوعَينِ اشتمَلَ الآخَرُ عليهما، كمُدِّ تَمرٍ صَيحانيٍّ ومُدِّ بَرْنيٍّ بمُدِّ تَمرٍ صَيحانيٍّ ومُدِّ بَرْنيٍّ، أو على أحَدِهما، كمُدِّ صَيحانيٍّ ومُدِّ بَرْنيٍّ بمُدَّينِ صَيحانيٍّ أو بَرْنيٍّ يُنظَر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (36/285)


اختلَفَ العُلماءُ في حُكمِ بَيعِ الرِّبويِّ بجِنسِه ومعَه مِن غيرِ جِنسِه مَقْصودًا في البَيعِ، كبَيعِ مُدٍّ ودِرهمٍ بمُدٍّ ودِرهمٍ، أو مُدٍّ ودِرهمٍ بدِرهَمينِ، ونحوِهما؛ على قولَينِ:
القولُ الأوَّلُ: يَحرُمُ بَيعُ الرِّبويِّ بجِنسِه ومعَه مِن غيرِ جِنسِه مَقْصودًا في البَيعِ، كبَيعِ مُدٍّ ودِرهمٍ بمُدٍّ ودِرهمٍ، أو مُدٍّ ودِرهمٍ بدِرهَمينِ، ونحوِهما، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ ((التاج والإكليل)) للموَّاق (4/301)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (4/493، 494)، ويُنظَر: ((عيون المسائل)) للقاضي عبد الوهاب (ص: 404). ، والشَّافعيَّةِ ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/387). ، والحَنابِلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (5/29)، ((كشَّاف القناع)) للبُهُوتي (3/260). ، وهو قولُ زُفَرَ منَ الحَنفيَّةِ ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (12/161)، ويُنظَر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/191).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: منَ السُّنَّةِ
عن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ، قال: ((اشتَرَيْتُ يومَ خَيبرَ قِلادةً باثْنَيْ عشَرَ دينارًا، فيها ذهَبٌ وخرَزٌ، ففَصَّلْتُها، فوجَدْتُ فيها أكثَرَ منَ اثْنَيْ عشَرَ دِينارًا، فذكَرْتُ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: لا تُباعُ حتَّى تُفَصَّلَ)) أخرَجَه مسلمٌ (1591).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَهم بفَصلِ الدَّنانيرِ عنِ الخَرَزِ تَحرُّزًا منَ الرِّبا، ويُقاسُ عليه كلُّ رِبويٍّ بِيعَ معَ غيرِه يُنظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنَّوَوي (11/17، 18).
ثانيًا: لأنَّ الصَّفقةَ إذا جمَعَتْ شَيئينِ مُختَلِفَيِ القيمةِ انقسَمَ الثَّمنُ على قَدْرِ قِيمَتِها، كما لوِ اشْتَرى شِقصًا وسَيفًا؛ فإنَّ الشَّفيعَ يَأخُذُ الشِّقصَ بقِسطِه منه، وهذا يُؤدِّي هنا إمَّا إلى العلمِ بالتَّفاضُلِ، أو إلى الجَهلِ بالتَّساوي، وكِلاهما يُبطِلُ العقدَ؛ فإنَّه إذا باعَ دِرهمًا ومُدًّا يُساوي دِرهَمينِ بمُدَّينِ يُساويانِ ثَلاثةَ دَراهمَ، كان الدِّرهمُ في مُقابَلةِ ثُلُثيْ مُدٍّ، ويَبْقى مُدٌّ في مُقابَلةِ مُدٍّ وثُلثٍ، وذلك رِبًا، فلو فُرِضَ التَّساوي -كمُدٍّ يُساوي دِرهمًا، ودِرهمٍ بمُدٍّ يُساوي دِرهمًا، ودِرهمٍ- لم يَجُزْ؛ لأنَّ التَّقْويمَ ظنٌّ وتَخْمينٌ، فلا يَتحقَّقُ معَه المساواةُ، والجهلُ بالتَّساوي كالعلمِ بالتَّفاضُلِ يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/29)، ((كشَّاف القناع)) للبُهوتي (3/260).
ثالثًا: سَدُّ ذَريعةِ الرِّبا؛ لئلَّا يُتَّخَذَ ذلك حِيلةً على الرِّبا الصَّريحِ، كبَيعِ مائةِ درهمٍ في كِيسٍ بمائتَينِ، جُعِلا للمائةِ في مُقابَلةِ الكِيسِ، وقدْ لا يُساوي دِرهمًا يُنظر: ((كشَّاف القناع)) للبُهوتي (3/260).
القولُ الثَّاني: يُباحُ بَيعُ الرِّبويِّ بجِنسِه، ومعَه أو معَهما مِن غيرِ جنسِه، بشَرطِ أنْ يكونَ المفردُ أكثَرَ مِن الَّذي معَه غيرُه، أو يكونَ معَ كلٍّ منهما مِن غيرِ جِنسِه، كبَيعِ مُدٍّ ودِرهمٍ بمُدٍّ ودِرهمٍ، أو مُدٍّ ودِرهمٍ بدِرهَمينِ، ونحوِهما، وهو مَذهَبُ الحَنفيَّةِ ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (12/161)، ويُنظَر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/191). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (5/29)، ويُنظَر: ((المغني)) لابن قُدامة (4/28). ، واخْتارَه ابنُ تَيميَّةَ يُنظر: ((الإنصاف)) للمَرْداوي (5/29)، ((مختصر الفتاوى المصرية)) لابن تيميَّة (ص: 324). ، وهو قَولُ بعضِ السَّلفِ قال ابنُ قُدامةَ: (وقال حمَّادُ بنُ أبي سُليمانَ وأبو حَنيفةَ: يجوزُ. هذا كلُّه إذا كان المفردُ أكثرَ منَ الذي معَه غيرُه، أو كان معَ كلِّ واحدٍ منهما من غيرِ جِنسِه. وقال الحسَنُ: لا بأْسَ ببَيعِ السَّيفِ المحلَّى بالفِضَّةِ بالدَّراهمِ. وبه قال الشَّعبيُّ والنَّخَعيُّ) ((المغني)) (4/29). ؛ وذلك لأنَّ العقدَ إذا أمكَنَ حمْلُه على الصِّحَّةِ، لم يُحمَلْ على الفسادِ؛ لأنَّه لوِ اشْتَرى لَحْمًا من قصَّابٍ، جازَ معَ احْتمالِ كونِه مَيتةً، ولكنْ وجَبَ حمْلُه على أنَّه مُذَكًّى؛ تَصْحيحًا للعقدِ. ولوِ اشْتَرى مِن إنْسانٍ شيئًا، جازَ معَ احْتمالِ كَونِه غيرَ مِلكِه، ولا إذْنَ له في بَيعِه؛ تَصْحيحًا للعقدِ أيضًا. وقدْ أمكَنَ التَّصْحيحُ هاهنا، بجَعْلِ الجنسِ في مُقابَلةِ غيرِ الجنسِ، أو جَعلِ غيرِ الجنسِ في مُقابَلةِ الزَّائدِ على المِثلِ يُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (4/29).

انظر أيضا: