الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الرَّابعُ: شُروطُ الرَّدِّ بخِيارِ العَيبِ في البيعِ


الفَرعُ الأوَّلُ: ثُبوتُ العَيبِ عندَ البائعِ أو المُشْتري
مِن شُروطِ خِيارِ العَيبِ أنْ يَثبُتَ العَيبُ عندَ البائعِ أو المُشْتري، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزَّيلَعي (4/31)، ((العناية)) للبابرتي (6/354). ، والمالكيَّةِ ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/152)، ((منح الجليل)) لعليش (5/135). ، والشَّافعيَّةِ ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/351)، ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/50). ، والحنابِلةِ ((الفروع)) لابن مفلح (6/237)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/425). ؛ وذلك لأنَّ مُطلَقَ العقدِ يَقْتضي سَلامةَ المَبيعِ مِن العُيوبِ، فلا يُعدَلُ عن هذا الأصلِ إلَّا إذا ثَبَتَ خِلافُه ((تبيين الحقائق)) للزَّيلَعي (4/31)، ((العناية)) للبابرتي (6/354).
الفَرعُ الثَّاني: جَهلُ المُشْتري بوُجودِ العَيبِ
مِن شُروطِ ثُبوتِ خِيارِ العَيبِ جَهلُ المُشْتري بوُجودِ العَيبِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ ((الهداية)) للمَرْغِيناني (3/37)، ((العناية)) للبابرتي (6/356). ، والمالكيَّةِ ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/331)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/152). ، والشَّافعيَّةِ ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/50). ، والحنابِلةِ ((الفروع)) لابن مفلح (6/237)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مُفلِح (3/425). ، وحُكِي الإجماعُ على أنَّ العلمَ بالعَيبِ يُسقِطُ الخِيارَ قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفقوا أنَّه إذا بيَّن له البائعُ بعَيبٍ فيه، وحَدَّ مِقدارَه، ووَقَّفَه عليه، إنْ كان في جِسمِ المبيعِ، فرَضِي بذلك المشْتري؛ أنَّه قدْ لَزِمه، ولا رَدَّ له بذلك العيبِ) ((مراتب الإجماع)) (ص: 88). وقال شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (اشْتَرى مَعيبًا يَعلَمُ عَيبَه، أو مُدلَّسًا، أو مُصرَّاةً وهو عالمٌ؛ فلا خِيارَ له؛ لأنَّه بذَلَ الثَّمنَ فيه عالمًا راضيًا به عِوَضًا، أشبَهَ ما لا عَيبَ فيه، لا نَعلَمُ خِلافَ ذلك) ((الشرح الكبير على متن المقنع)) (4/86). ؛ وذلك لأنَّه إذا رآهُ المُشْتري عندَ العقدِ أو القبْضِ فقدْ رَضِيَ به يُنظر: ((الهداية)) للمَرْغِيناني (3/37).
الفَرعُ الثَّالثُ: أنْ يكونَ العَيبُ مُؤثِّرًا
يُشترَطُ في الرَّدِّ بخيارِ العَيبِ أنْ يكونَ العَيبُ مُؤثِّرًا بحيث يَنقُصُ العيْنَ أو القِيمةَ تأثيرُ العيبِ يَشمَلُ نُقصانَ العينِ أو نُقصانَ القِيمةِ، ولا فرْقَ بين النَّقصِ الكثيرِ والقليلِ، ما دام النَّقصُ مُؤثِّرًا. ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ ((الفتاوى الهندية)) (3/66)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/274). ، والمالكيَّةِ يُرَدُّ بخيارِ العيبِ كلُّ عَيبٍ مُؤثِّرٍ، قلَّ أو كثُرَ، إلَّا في العقارِ؛ فإنَّه لا يُرَدُّ إلَّا بالكثيرِ، لكنْ على البائعِ إصلاحُه. ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/114)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/156). ، والشَّافعيَّةِ ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/51، 52). ، والحنابِلةِ ((الفروع)) لابن مفلح (6/239)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (4/115). ؛ وذلك لأنَّ المَبيعَ إنَّما صار مَحلًّا للعقدِ باعتبارِ صِفةِ الماليَّةِ، فما يُوجِبُ نقْصًا فيها يكونُ عَيبًا ((المغني)) لابن قُدامةَ (4/115).
الفَرعُ الرَّابعُ: عدَمُ اشتراطِ البَراءةِ مِن العَيبِ
المسألةُ الأُولى: اشتِراطُ البَراءةِ مِن العَيبِ في البَيعِ إذا كان البائعُ عالمًا بالعَيبِ
لا يَبرَأُ البائعُ إذا اشترَطَ البَراءةَ مِن العَيبِ وكان عالمًا به، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّةِ ((الكافي)) لابن عبد البر (2/712،713)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/159)، ويُنظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جُزَي (ص 175). ، والشَّافعيَّةِ -في أظهرِ الأقوالِ عِندَهم- ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/472، 473)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/361). ، والحنابِلةِ عندَ الحنابلةِ: لا يَبرَأُ، سواءٌ عَلِم البائعُ أم لم يَعلَمْ. ((الإنصاف)) للمرداوي (4/259)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/196).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الآثارِ
عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ: (أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ عمَرَ باع غُلامًا له بثَمانِ مائةِ دِرهمٍ، وباعَهُ بالبَراءةِ، فقال الذي ابتاعَهُ لِعبدِ اللهِ بنِ عُمرَ: بالغلامِ داءٌ لم تُسَمِّه، فاختَصَما إلى عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِي اللهُ عنه، فقال الرَّجلُ: باعَني عبْدًا، وبه داءٌ لم يُسَمِّه لي، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ: بِعتُه بالبَراءةِ، فقَضى عُثمانُ بنُ عفَّانَ على عبْدِ اللهِ بنِ عُمرَ باليَمينِ أنْ يَحلِفَ له: لقدْ باعَهُ الغَلامَ وما به داءٌ يَعلَمُه، فأبى عبْدُ اللهِ أنْ يَحلِفَ لم يكُنْ إباؤه عن اليمينِ تَدْليسًا منه رَضِي اللهُ عنه، بلْ صِيانةً لليمين عن البيعِ، ورُوِي أنَّه قال: (ترَكْتُ اليمينَ للهِ فعَوَّضني). يُنظرُ: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/273)، ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (4/185). له وارتجَعَ العبْدَ، فباعَهُ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ بعْدَ ذلك بألفٍ وخمسِ مائةِ دِرهمٍ) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (2/613)، والبيهقي (11101). صحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/42)، وقال البيهقيُّ: أصحُّ ما رُوِي في هذا الباب، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (6/558)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (8/246).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذه قَضيَّةٌ اشتُهِرَت ولم تُنكَرْ، فكانتْ كالإجماعِ يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مُفلِح (3/399).
ثانيًا: لأنَّ خِيارَ العَيبِ إنَّما يَثبُتُ بعْدَ البيعِ، فلا يَسقُطُ بإسقاطهِ قبْلَه كالشُّفعةِ يُنظر: ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/196، 197).
المسألةُ الثَّانيةُ: اشتِراطُ البَراءةِ مِن العَيبِ في البَيعِ إذا كان البائعُ غيرَ عالِمٍ بالعَيبِ
يَبرَأُ البائعُ إذا اشتَرَط البَراءةَ مِن العَيبِ ولم يكُنْ عالِمًا به، وهو مَذهَبُ الحنَفيَّةِ عندَ الحنَفيَّة: يَبرَأُ البائعُ إذا اشترَطَ البراءةَ مِن العيبِ، عَلِمه أم لم يَعلَمْه. ((العناية)) للبابرتي (6/396، 397)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (5/42). ، وقولُ ابنِ وَهبٍ، ورِوايةٌ عن مالِكٍ يُنظر: ((شرح ميارة - الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام)) لمحمد الفاسي (1/309). ، وهو قَولٌ عندَ الشَّافعيَّةِ ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/472، 473)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/361). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (4/259). ، واختارهُ ابنُ تَيميَّةَ قال ابنُ تَيميَّةَ: (الصَّحيحُ في مَسألةِ البيعِ بشَرطِ البَراءةِ مِن كلِّ عَيبٍ، والذي قَضى به الصَّحابةُ، وعليه أكثرُ أهلِ العلمِ: أنَّ البائعَ إذا لم يكُنْ عَلِم بذلك العيبِ، فلا رَدَّ للمُشتري، لكنْ إذا ادَّعى أنَّ البائعَ عَلِم بذلك، فأنكَرَ البائعُ؛ حُلِّف أنَّه لم يَعلَمْ، فإنْ نَكَل قُضِي عليه) ((الفتاوى الكبرى)) (5/389) ، وابنُ القيِّمِ يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّمِ (5/383،384). ، وابنُ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (الصَّحيحُ في هذه المسألةِ ما اختارَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ؛ وهو: إنْ كان البائعُ عالمًا بالعيبِ، فللمُشْتري الرَّدُّ بكلِّ حالٍ، سواءٌ شَرَط مع العقدِ، أو قبْلَ العقدِ، أو بعْدَ العقدِ، وإنْ كان غيرَ عالِمٍ فالشَّرطُ صَحيحٌ، سواءٌ شَرَط قبْلَ العقدِ، أو مع العقدِ، أو بعْدَ العقدِ) ((الشرح الممتع)) (8/256).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
قولُه تعالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الأصلَ في الشُّروطِ الوفاءُ؛ لأنَّها مُلحَقةٌ بالعقْدِ، فتَأخُذُ حُكمَه يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (ص 1067).
ثانيًا: مِن الآثارِ
(أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ عمَرَ باع غُلامًا له بثَمانِ مائةِ دِرهمٍ، وباعَهُ بالبَراءةِ، فقال الذي ابتاعَهُ لِعبدِ اللهِ بنِ عُمرَ: بالغلامِ داءٌ لم تُسَمِّه، فاختَصَما إلى عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِي اللهُ عنه، فقال الرَّجلُ: باعَني عبْدًا، وبه داءٌ لم يُسَمِّه لي، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ: بِعتُه بالبَراءةِ، فقَضى عُثمانُ بنُ عفَّانَ على عبْدِ اللهِ بنِ عُمرَ باليَمينِ أنْ يَحلِفَ له: لقدْ باعَهُ الغَلامَ وما به داءٌ يَعلَمُه، فأبى عبْدُ اللهِ أنْ يَحلِفَ له وارتجَعَ العبْدَ، فباعَهُ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ بعْدَ ذلك بألفٍ وخمسِ مائةِ دِرهمٍ) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (2/613)، والبيهقي (11101). صحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/42)، وقال البيهقيُّ: أصحُّ ما رُوِي في هذا الباب، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (6/558)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (8/246).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ابنَ عُمرَ رَضِي اللهُ عنهما باع بالبَراءةِ، ولم يُنكِرْ عليه عُثمانُ رَضِي اللهُ عنه، وإنَّما رأى البَراءةَ مع العلمِ بالعَيبِ لا يَنفَعُ، ولم يُخالِفْ فيه أحدٌ يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1067).
ثالثًا: أنَّه شَرَطَ البَراءةَ مِن عَيبٍ لم يُدلِّسْ به ولا كَتَمَه؛ فأشبَهَ إذا أراهُ إيَّاهُ يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1067).
رابعًا: أنَّ الإبراءَ مِن بابِ الإسقاطِ، فالمُشْتري يَملِكُ حقَّ خِيارِ الرَّدِّ بالعَيبِ، فإذا أسْقَطَ حقَّه سَقَط، والإبراءُ مِن الحقِّ المجهولِ جائزٌ يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/172، 173).
خامسًا: لأنَّه إذا كان عالمًا بالعيبِ، فهو غاشٌّ مُخادِعٌ، فيُعامَلُ بنَقيضِ قصْدِه، بخَلافِ ما إذا كان جاهِلًا ولا يَدْري بالعُيوبِ الموجودةِ فيه يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/256).
سادسًا: لأنَّه شَرطٌ، والشَّرطُ يَجِبُ الوَفاءُ به يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/53).

انظر أيضا: