الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: حُكمُ خِيارِ العَيبِ


خِيارُ العَيبِ مَشروعٌ في الجُملةِ إذا وُجِد العيْبُ في السِّلعةِ، فإنَّ للمشْتري حقَّ الخيارِ بيْن الرَّدِّ أو الإمساكِ، ويَصِحُّ البيعُ، ويَلزَمُ مِن جِهةِ البائعِ، ولا يَلزَمُ مِن جِهةِ المشْتري. والشَّرطُ الذي يُكتَبُ على بَعضِ السِّلع بعِبارةِ: (لا تُرَدُّ ولا تُستبدَلُ) شَرطٌ باطلٌ؛ فقدْ جاء في ((فَتوى اللَّجْنةِ الدَّائمةِ)): (بَيعُ السِّلعةِ بشَرطِ ألَّا تُرَدَّ ولا تُستبدَلَ، لا يَجوزُ؛ لأنَّه شَرطٌ غيرُ صَحيحٍ؛ لِما فيه مِن الضَّررِ والتَّعْميةِ، ولأنَّ مَقصودَ البائعِ بهذا الشَّرطِ إلزامُ المشْتري بالبضاعةِ ولو كانت مَعيبةً، واشتراطُه هذا لا يُبْرِئُه مِن العُيوبِ الموجودةِ في السِّلعةِ؛ لأنَّها إذا كانت مَعِيبةً فله استبدالُها ببِضاعةٍ غيرِ مَعِيبةٍ، أو أخْذُ المشْتري أرْشَ العيْبِ، ولأنَّ كَاملَ الثَّمنِ مُقابِلُ السِّلعةِ الصَّحيحةِ، وأخْذُ البائعِ الثَّمنَ مع وُجودِ عَيبٍ أخْذٌ بغيرِ حقٍّ، ولأنَّ الشَّرعَ أقام الشَّرطَ العُرفيَّ كاللَّفظيِّ؛ وذلك للسَّلامةِ مِن العيبِ، حتَّى يَسوغَ له الرَّدُّ بوُجودِ العيبِ، تَنزيلًا لاشتراطِ سَلامةِ المَبيعِ عُرفًا مَنزِلةَ اشتراطِها لَفظًا) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى) (13/197).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لا يُتَلَقَّى الرُّكْبانُ لبَيْعٍ، ولا يَبِعْ بعْضُكم على بَيعِ بَعضٍ، ولا تَنَاجَشُوا، ولا يَبِعْ حاضِرٌ لِبادٍ، ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنَمَ، فمَن ابتاعَها بعْدَ ذلك فهو بخَيرِ النَّظرينِ بعْدَ أنْ يَحلُبَها؛ فإنْ رَضِيَها أمْسَكَها، وإنْ سَخِطَها ردَّها وصاعًا مِن تمْرٍ )) أخرجه البخاري (2148)، ومسلم (1515) واللفظ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ إثباتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخِيارَ بالتَّصْريةِ تَنبيهٌ على ثُبوتِه بالعَيبِ يُنظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (4/109).
ثانيًا: مِن الآثارِ
عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ: (أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ عمَرَ باع غُلامًا له بثَمانِ مائةِ دِرهمٍ، وباعَهُ بالبَراءةِ، فقال الذي ابتاعَهُ لِعبدِ اللهِ بنِ عُمرَ: بالغلامِ داءٌ لم تُسَمِّه، فاختَصَما إلى عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِي اللهُ عنه، فقال الرَّجلُ: باعَني عبْدًا، وبه داءٌ لم يُسَمِّه لي، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ: بِعتُه بالبَراءةِ، فقَضى عُثمانُ بنُ عفَّانَ على عبْدِ اللهِ بنِ عُمرَ باليَمينِ أنْ يَحلِفَ له: لقدْ باعَهُ الغَلامَ وما به داءٌ يَعلَمُه، فأبى عبْدُ اللهِ أنْ يَحلِفَ لم يكُنْ إباؤه عن اليمينِ تَدْليسًا منه رَضِي اللهُ عنه، بلْ صِيانةً لليمين عن البيعِ، ورُوِي أنَّه قال: (ترَكْتُ اليمينَ للهِ فعَوَّضني). يُنظرُ: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/273)، ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (4/185). له وارتجَعَ العبْدَ، فباعَهُ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ بعْدَ ذلك بألفٍ وخمسِ مائةِ دِرهمٍ) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (2/613)، والبيهقي (11101). صحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/42)، وقال البيهقيُّ: أصحُّ ما رُوِي في هذا الباب، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (6/558)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (8/246).
ثالثًا: مِن الإجماعِ
نقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ قُدامةَ قال ابنُ قُدامةَ: (قولُه: «البيِّعاِن بالخيارِ حتَّى يَتفرَّقا» جعَلَ التَّفرُّقَ غايةً للخيارِ، وما بعْدَ الغايةِ يَجِبُ أنْ يكونَ مُخالِفًا لِما قبْلها، إلَّا أنْ يَجِدَ بالسِّلعةِ عَيبًا فيَرُدَّها به، أو يكونَ قدْ شَرَط الخيارَ لنفْسِه مُدَّةً مَعلومةً، فيَملِكَ الرَّدَّ أيضًا. ولا خلافَ بيْن أهلِ العلمِ في ثُبوتِ الرَّدِّ بهذينِ الأمرينِ) ((المغني)) (3/494). ، وأبو الفرَجِ شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ قال شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (إنْ عَلِم به عَيبًا لم يكُنْ عالمًا به، فله الخِيارُ بيْن الإمساكِ والفسْخِ، سواءٌ كان البائعُ عَلِم العَيبَ فكتَمَه، أو لم يَعلَمْ، لا نَعلَمُ فيه خِلافًا) ((الشرح الكبير)) (4/ 86). ، والقَرافيُّ قال القَرافيُّ: (الإجماعُ مُنعقِدٌ عليه -أي: خيارِ العيبِ- من حيث الجُملةُ) ((الذخيرة)) (5/57).
رابعًا: لأنَّ مُطلَقَ العقْدِ يَقْتضي وصْفَ السَّلامةِ، فعندَ فَوتِه يَتخيَّرُ؛ كيْ لا يَتضرَّرَ بلُزومِ ما لا يَرْضى به يُنظر: ((الهداية)) للمَرْغِيناني (3/37).
خامسًا: ما في خِيارِ العَيبِ مِن استدراكِ ما فات المُشْتري مِن نقْصٍ، وإزالةٍ لِما يَلحَقُه مِن الضَّررِ في بَقائهِ في مِلْكِه ناقصًا عن حقِّه يُنظر: ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/218).

انظر أيضا: