الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ التَّاسعُ: بُطلانُ خِيارِ الشَّرطِ


الفرعُ الأوَّلُ: بُطلانُ خِيارِ الشَّرطِ بالإجازةِ (صَريحًا أو دلالةً)
يَبطُلُ خِيارُ الشَّرطِ بالإجازةِ (صَريحًا أو دلالةً) إجازةُ البيعِ اللَّفظيَّةُ نوعانِ: إجازةٌ صريحةٌ؛ وذلك بأنْ يَتلفَّظَ صَراحةً بما يدُلُّ على ذلك، كالتلفُّظِ بإجازةِ البيعِ، كأنْ يقولَ: أجزْتُ البيعَ، أو بإسقاطِ الخيارِ، كأنْ يقولَ: أسقطْتُ الخيارَ. إجازةٌ غيرُ صريحةٍ لكنَّها في مَعنى الصَّريحِ (بطَريقِ الدلالةِ): وهي أن يَحصُلَ تَصرُّفٌ في المبيعِ يدُلُّ على إجازةِ البيعِ وإيجابِه، كالتَّصرُّفِ فيه تَصرُّفَ المُلَّاكِ بالبيعِ، أو الإجارةِ، أو العِتقِ، ونحْوِ ذلك. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/267). لمَن له حقُّ الخِيارِ، باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ قال ابنُ عُثَيمينَ: (قولُه: «وتَصرُّفُ المشتري فسْخٌ لخيارِه» أي: إذا تَصرَّفَ المشتري في المبيعِ الذي اشترَطَ فيه الخيارَ له وحْدَه؛ فإنَّ تَصرُّفَه فسْخٌ لخيارِه، ويُؤخَذُ مِن كلامِ أهلِ العلمِ هنا أنَّ الفسْخَ يَثبُتُ بما دلَّ عليه مِن قولٍ أو فِعلٍ. مِثالُ ذلك: اشْتَرى الرَّجلُ بيتًا مِن شخصٍ، واشترَطَ الخيارَ لمدَّةِ شَهرٍ، وفي أثناءِ الشَّهرِ آجَرَه مَن يَسكُنُه، فيَبطُلُ خِيارُه. فإنْ قال: أنا ما أبطلْتُ الخيارَ؟ نقولُ: تَصرُّفُك دَليلٌ على رِضاك به، وأنَّك أسقطْتَ الخيارَ. وكذلك البيعُ مع اشتراطِ الخيارِ لنفسِه في هذا البيتِ لمدَّةِ شَهرٍ، وقدِ اشتراهُ بمائةِ ألْفٍ، ثمَّ جاءه إنسانٌ وقال: بِعْني إياَّه بمائةٍ وعشْرةٍ، فباعَه بمائةٍ وعشْرةٍ، فيَبطُلُ خِيارُه؛ لتَصرُّفِه في البيتِ، وتَصرُّفُه فيه دَليلٌ على رِضاهُ به، وأنَّه لا يُريدُ ردَّه) ((الشرح الممتع)) (8/292). : الحنَفيَّةِ ((العناية)) للبابرتي (6/312)، ((البناية)) للعيني (8/66). ، والمالكيَّةِ ((مختصر خليل)) (ص 152)، ((التاج والإكليل)) للمواق (4/416،418). ، والشَّافعيَّةِ ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (ص: 100)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/ 349)، ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/49). ، والحنابِلةِ ((الإقناع)) للحجاوي (2/89)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/208، 209). ؛ وذلك لأنَّ تَصرُّفَ المشْتري يُعتبَرُ إجازةً للبيعِ، وهو دَليلُ رِضاهُ وإمْضائهِ للبَيعِ، وهذا يُسقِطُ خِيارَ الشَّرطِ ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/208).
الفرعُ الثَّاني: بُطلانُ خِيارِ الشَّرطِ بمُضيِّ المدَّةِ
يَبطُلُ خِيارُ الشَّرطِ بمُضيِّ المدَّةِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ ((العناية)) للبابرتي (6/312)، ((البناية)) للعيني (8/66). ، والمالكيَّةِ ((التاج والإكليل)) للمواق (4/415، 416)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/121). ، والشَّافعيَّةِ ((المجموع)) للنَّوَوي (9/195)، ويُنظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (5/37). ، والأصحُّ عندَ الحنابِلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (4/272).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّها مدَّةٌ مُلحَقةٌ بالعقدِ، فبَطَلَت بانقضائِها كالأجَلِ يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مُفلِح (3/409).
ثانيًا: لأنَّ الحكمَ ببَقائِها يُفْضي إلى بَقاءِ الخِيارِ في غيْرِ المدَّةِ الَّتي شَرَطاهُ فيها، والشَّرطُ يُثبِتُ الخِيارَ؛ فلا يَجوزُ أنْ يَثبُتَ به ما لم يَتناوَلْه يُنظر: ((الشرح الكبير)) لابن قُدامةَ (4/69).
ثالثًا: لأنَّه حُكمٌ مُؤقَّتٌ، ففات بفَواتِ وَقْتِه كسائرِ المؤقَّتاتِ يُنظر: ((الشرح الكبير)) لابن قُدامةَ (4/69).
الفَرعُ الثَّالثُ: بُطلانُ خِيارِ الشَّرطِ بمَوتِ مَن له الخِيارُ في المدَّةِ
لا يَبطُلُ خِيارُ الشَّرطِ بمَوتِ مَن له الخِيارُ في المدَّةِ، بل يُورَّثُ للوَرَثةِ، وهو مَذهَبُ المالكيَّةِ ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/214)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/130)، ويُنظر: ((المدونة)) لسحنون (3/216). والشَّافعيَّةِ ((المجموع)) للنَّوَوي (9/205)، ((تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي مع حاشية الشَّرْواني)) (4/339، 340)، ويُنظر: ((شرح المحلي على المنهاج)) (2/242). ، واختارَهُ ابنُ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (القولُ الصحيحُ: أنَّه يَنتقِلُ الحقُّ إلى الورثةِ، ولهم الخيارُ بين الإمضاءِ أو الفسخِ؛ لأنَّهم وَرِثوه مِن مُورِّثِهم على هذا الوجهِ) ((الشرح الممتع)) (8/294).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
قولُه تعالَى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء: 12] ، وقولُه: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء: 12]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كَلِمةَ تَرَكَ تَشمَلُ كلَّ مَتروكاتِه؛ مِن أعيانٍ، أو مَنافِعَ، أو حُقوقٍ يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/294).
ثانيًا: لأنَّه حقٌّ ثابتٌ لإصلاحِ المالِ، فلم يَسقُطْ بالمَوتِ، كالرَّهنِ وحَبسِ المَبيعِ على الثَّمنِ يُنظر: ((المجموع)) للنَّوَوي (9/205).
الفَرعُ الرَّابعُ: بُطلانُ خِيارِ الشَّرطِ بالجُنونِ والإغماءِ
لا يُبطِلُ الجنونُ والإغماءُ خِيارَ الشَّرطِ، وهو على خِيارِه إنْ أفاقَ قبْلَ مُضِيِّ مُدَّتِه، ويَلزَمُ البيعُ إذا أفاقَ بعْدَ مُضيِّ مُدَّتِه، باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ ((البناية)) للعيني (8/66، 67)، ((الفتاوى الهندية)) (3/42، 43)، ويُنظر: ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/29). ، والمالكيَّةِ عِندَ المالكيَّةِ: يُفرَّقُ بيْن المُغْمى عليه وبيْن المجنونِ، ولهم تَفصيلٌ في الحالتينِ: إذا جُنَّ مَن له الخيارُ، فأَطبَقَ عليه في أيَّامِ الخيارِ حتَّى مَضَت مُدَّتُه؛ فإنَّ السُّلطانَ يَنظُرُ له، أو يُوكِّلُ مِن وَرثَتِه مَن يَنظُرُ له في الأصلحِ في الأخذِ أو الرَّدِّ. وأمَّا مَن أُغمِيَ عليه في أيَّامِ الخيارِ، انتُظِرَت إفاقتُه، ثمَّ هو على خيارِه، إلَّا أنْ يَطولَ إغماؤه أيَّامًا، فإنْ طال إغماؤهُ فسَخَ السُّلطانُ البيعَ إنْ رَأى ضَررًا، وليس له أنْ يُمضِيَه. ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/332). ، والشَّافعيَّةِ عندَ الشافعيةِ: لم يَنقطِعِ الخيارُ بلْ يقومُ مَقامَه وليُّه أو الحاكمُ. ((المجموع)) للنَّوَوي (9/205، 209). ، والحنابِلةِ عندِ الحنابلةِ: يقومُ مَقامَه أبوه أو وَصيُّه أو الحاكمُ. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مُفلِح (3/404)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/201).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الرَّغبةَ في المَبيعِ أو عدَمِها لا تُعلَمُ إلَّا مِن جِهتِه يُنظر: ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/201).
ثانيًا: لأنَّه حقٌّ ثابتٌ لإصلاحِ المالِ، فلم يَسقُطْ بالجنُونِ والإغماءِ، كالرَّهنِ وحَبسِ المَبيعِ على الثَّمنِ يُنظر: ((المجموع)) للنَّوَوي (9/205) بتصرف.

انظر أيضا: