مقالات وبحوث مميزة

 

 

مَسألةُ السَّفَرِ لزِيارةِ قَبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ

وزِيارةِ أماكنِ السِّيرةِ النَّبويَّة، كغار حِراءٍ، وجَبل أُحُدٍ، وغيرِهما
 

الشيخ عَلَوي بن عبد القادر السَّقَّاف

المُشرفُ العامُّ على مؤسَّسة الدُّرَر السَّنِية

 

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسَلين

أمَّا بعدُ:

فقدِ اختلَط على كثيرٍ من الناسِ الفرْقُ بين زِيارةِ القُبور، والسَّفرِ إليها، ومِن ذلك التفريقُ بين زِيارة قبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، والسفرِ إليه، وهو ما يُعبَّرُ عنه بشَدِّ الرِّحال؛ فزِيارةُ قُبورِ المُسلِمينَ -لِتَذكُّرِ الآخِرةِ والدُّعاءِ للميِّتِ- قُربةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ومأْمورٌ بها، وقبرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإنْ لم يَثبُت في فَضلِ زِيارتِه على وجهِ الخُصوصِ حديثٌ صحيحٌ ولا حَسَنٌ، بل كلُّ ما ورَدَ فيه ضعيفٌ جدًّا، أو موضوعٌ لا أصلَ له؛ فإنَّه يَدخُلُ دخولًا أوَّليًّا في الأحاديثِ العامَّةِ التي ورَدتْ في فَضلِ زِيارة القُبورِ.
 

إذا علِمتَ ذلك، فاعلَمْ أنَّ بعضَ العلماءِ المتأخِّرين أجازَ السفرَ لزِيارةِ قَبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، بل بعضُهم استحبَّه، أو أوجَبَه، لكِنَّ المتقدِّمين منهم -وعلى رأْسِهم الصَّحابةُ والتابِعون- لم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه فعَلَه أو أباحه، وأصلُ الخِلافِ بين العلماءِ المتأخِّرين هو فَهمُهم لحديثِ: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثَلاثةِ مساجِدَ)) [رواه البخاري (1189)، ومسلم (1397 )]، وفي روايةٍ عِندَ مُسلمٍ: ((لا تَشُدُّوا)).
 

فالمُجيزون قالوا: معنى الحديث: لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلى مَسجدٍ إلَّا إلى هذه المساجدِ الثلاثةِ، وعليه يجوزُ السَّفرُ إلى أيِّ بُقعةٍ، كقَبرِ وَلِيٍّ أو نَبِيٍّ؛ قُربةً إلى اللهِ تعالى، وشبَّهوا ذلك بالسَّفرِ مِن أجْلِ طلَبِ العِلم، أو أيِّ أمرٍ من أُمورِ الدُّنيا أو الآخِرَةِ.
 

 والمانعون قالوا: معنى الحديث: لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلى أيِّ بُقعةٍ تَقرُّبًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ إلَّا إلى هذه المساجِد الثلاثةِ، وحُجَّتُهم: أنَّه إذا كانتِ المساجدُ -وهي أفضلُ بِقاعِ الأرض؛ فهي بُيوتُ اللهِ، وأحبُّ البِقاعِ إليه- لا يجوزُ السَّفرُ إليها قُرْبةً؛ فغيرُها مِن الأماكنِ مِن بابِ أَولى، أمَّا بقيَّةُ أنواعِ السَّفرِ -سواءٌ كانتْ لطلبِ عِلم، أو غيرِ ذلك- فإنَّها ليستْ سَفرًا لذاتِ المكانِ، بل لتَحصيلِ غَرضٍ ما.
 

ولا شَكَّ أنَّ مَن يَتأمَّلُ القولَينِ بعدْلٍ وإنصافٍ، يَظهَرُ له قُوَّةُ حُجَّةِ المانعينَ، وصوابُ فَهمِهم للحديثِ، وإلَّا فعَلَى فَهْمِ المُجِيزين يكونُ السفرُ إلى مَسجدِ قُباءٍ مُحرَّمًا؛ لأنَّه ليس من المساجدِ الثلاثةِ، ولكن لو قدَّرْنا أنَّ هناك قبرًا لأحدِ الصالحينَ بجوارِ مَسجدِ قُباءٍ فإنَّه يجوزُ السفرُ إليه، وهذا فَهمٌ لا يستقيمُ!

وممَّا يُؤيِّدُ ذلك فَهْمُ ابنِ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهما؛ فعن قَزَعةَ قال: سأَلْتُ ابنَ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهما: آتِي الطُّورَ؟ فقال: (دَعِ الطُّورَ ولا تأْتِها، وقال: لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثَلاثةِ مساجِدَ). [رواه ابنُ أبي شَيبةَ في ((المصنَّف)) (7539 ) بإسناد صحيح].

وبعضُهم قصَرَ الجوازَ على قبرِه الشريفِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، وليس معهم دليلٌ.

وزعَم بعضُ الناس أنَّه لم يُحرِّمْ ذلك أحدٌ من العلماء قبْلَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ المُتوفَّى سَنةَ (728هـ)، وهذا غيرُ صحيحٍ؛ فقد حرَّم السفرَ لزِيارة القُبور:
 

من المالكيَّة: الإمامُ مالكٌ (ت: 179هـ)، والقاضي عِياض (ت: 544هـ).

ومن الشَّافعيَّة: أبو محمَّد الجُويني (ت: 438هـ)، وابنُ الأثير؛ صاحِب (جامعِ الأصولِ) (ت:606هـ).

ومن الحنابِلةِ: ابنُ بَطَّة العُكبريُّ (ت: 387هـ)، وابنُ عَقيل (ت: 513هـ)، وغيرُهما.

قال ابنُ تَيميَّةَ في (مجموع الفتاوى) (1/ 304): (وسُئِلَ مالكٌ عن رجلٍ نَذَر أنْ يأتيَ قبْرَ النبيِّ، فقال مالكٌ: إنْ كان أرادَ القبرَ فلا يأْتِه، وإنْ أرادَ المسجدَ فلْيأتِه، ثمَّ ذكَر الحديثَ: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِدَ)). ذكَره القاضي إسماعيلُ في "مبسوطِه")اهـ.

وقد أشار المُناويُّ في (فيض القدير) (6/181) إلى هذا النَّقلِ عن الإمامِ مالكٍ بقولِه: (... ما نُقِلَ عن مالكٍ مِن مَنعِ شَدِّ الرحل لِمُجرَّدِ زِيارةِ القبرِ من غيرِ إرادةِ إتيانِ المسجدِ للصَّلاةِ فيه).

وقال ابنُ بطَّةَ في (الإبانة الصغرى) (ص 92): (ومِن البِدَع البِناءُ على القُبورِ وتَجصيصُها، وشَدُّ الرِّحال إلى زِيارتِها). اهـ.

وقال النَّوويُّ (ت: 676هـ) في شرحه لصحيحِ مُسلمٍ (9/106): (واختَلف العُلماءُ في شدِّ الرِّحالِ وإعمالِ المَطِيِّ إلى غيرِ المساجدِ الثلاثةِ، كالذَّهابِ إلى قُبورِ الصالحينَ، وإلى المواضِعِ الفاضلةِ، ونحوِ ذلك؛ فقال الشيخ أبو محمدٍ الجُوينيُّ من أصحابِنا: هو حرامٌ. وهو الذي أشارَ القاضي عِياضٌ إلى اختيارِه). اهـ.

وقال الحافظُ ابنُ حَجرٍ في (الفتح) (3/65) عند شرحِه لحديث: ((لا تُشَدُّ الرِّحال)): (قال الشيخ أبو محمدٍ الجُويني: يَحرُمُ شَدُّ الرِّحالِ إلى غيرِها؛ عملًا بظاهرِ هذا الحديث. وأشار القاضي حُسينٌ إلى اختيارِه، وبه قال عِياضٌ وطائفةٌ). اهـ.

وقال ابنُ قُدامة في (المُغْني) (2/ 100): (فإنْ سافرَ لزِيارةِ القُبورِ والمشاهِد؛ فقال ابنُ عَقيلٍ: لا يُباحُ له الترخُّصُ؛ لأنَّه منهيٌّ عن السَّفرِ إليها؛ قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجِدَ)). متَّفقٌ عليه). اهـ.

وقال ابنُ الأثيرِ في (جامع الأصول) (9/ 283) في شرحِ حديثِ ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ)): (هذا مِثلُ قولِه: (لا تُعمَلُ المَطِيُّ)، وكنَّى به عن السَّيرِ والنَّفرِ، والمُرادُ: لا يُقصَدُ مَوضعٌ من المواضع بنِيَّةِ العِبادةِ والتقرُّبِ إلى اللهِ تعالى إلَّا إلى هذه الأماكنِ الثلاثةِ؛ تَعظيمًا لشأْنِها، وتشريفًا). اهـ.
 

وقال علَّامةُ حَضرموتَ ومُفْتيها السيِّدُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُبَيدِ اللهِ السقَّافُ (ت: 1300هـ) في كتابِه (إدام القوت) (ص584):  (نصَّ إمامُ الحرَمينِ -ومِثله القاضي حُسينٌ- على تحريمِ السَّفرِ لزِيارةِ القُبور، واختاره القاضي عياضُ بنُ موسى بنِ عيَّاشٍ في (إكماله)، وهو مِن أفضلِ مُتأخِّري المالكيَّةِ، وقام وقعَد في ذلك الشيخُ الإمامُ ابنُ تيميَّةَ، وخَطَّأه قومٌ وصَوَّبَه آخَرون، ومهما يكُن من الأمرِ فَلْيَسَعْه ما وَسِعَ الجُوينيَّ والقاضِيَينِ حُسينًا وعِياضًا، ولكنَّهم أفردُوه باللَّومِ، والقولُ واحدٌ! وقال مالكُ بنُ أنسٍ: مَن نَذَر المشيَ إلى مَسجدٍ من المساجدِ لِيُصلِّيَ فيه، كَرِهتُ ذلك؛ لِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجِدَ)). وقال ابنُ سُريجٍ -وهو مِن كبارِ أصحابِ الشافعيِّ-: "إنَّ الزِّيارةَ قُربةٌ تَلزَمُ بالنَّذرِ". والخَطبُ يسيرٌ لم يُوَسِّعْه إلَّا الحَسَدُ والتعصُّبُ، وإلَّا فالتثريبُ في مَوضعِ الاختِلافِ ممنوعٌ). انتهَى كلام السَّقَّاف.

أمَّا النوويُّ، وابنُ حَجَرٍ، وابنُ قُدامةَ، وغيرُهم من المتأخِّرين فقد قالوا بالجوازِ، لكنَّ المقصودَ هنا هو توضيحُ أنَّ هناك مَن قال بالتحريمِ قبلَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ، لكنْ لشُهرتِه ومَكانتِه، وكذلك لتَشنيعِ خُصومِه عليه وادِّعائِهم أنَّه أوَّلُ مَن قال بذلك؛ اشتُهِرتْ هذه المسألةُ عنه.
 

وقال بالتحريمِ أيضًا بعدَ ابنِ تَيميَّةَ عددٌ من العلماء؛ منهم:

علَّامةُ اليمنِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ الصَّنعانيُّ (ت: 1182هـ)؛ قال في (سُبل السلام) (3/ 394): (والحديثُ دليلٌ على فَضيلةِ المساجدِ هذه، ودلَّ بمَفهومِ الحَصْرِ أنَّه يَحرُمُ شَدُّ الرِّحالِ لِقَصدِ غيرِ الثلاثةِ -كزِيارةِ الصالحينَ أحياءً وأمواتًا؛ لِقَصدِ التقرُّب-، كقصْدِ المواضعِ الفاضلةِ؛ لقَصدِ التبرُّكِ بها والصلاةِ فيها) اهـ.

ومنهم: علَّامةُ الهِند السيِّد صِدِّيق حسَن خان الحُسينيُّ (ت: 1307هـ)؛ قال في شرحِه لصحيح مُسلمٍ (5/113): (وأمَّا السَّفرُ لغيرِ زِيارةِ القُبور -كما تقدَّم نظائرُه- فقد ثبَتَ بأدلَّةٍ صحيحةٍ، ووقَع في عصْرِه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، وقرَّره النبيُّ عليه السَّلام؛ فلا سبيلَ إلى المنْعِ منه والنهيِ عنه، بخِلاف السَّفرِ إلى زِيارةِ القُبور؛ فإنَّه لم يَقعْ في زمَنِه، ولم يُقِرَّ أحدًا مِن أصحابه، ولم يُشِرْ في حديثٍ واحدٍ إلى فِعلِه واختيارِه، ولم يَشْرَعْه لأحدٍ مِن أُمَّتِه؛ لا قـــولًا، ولا فِعــلًا، وقد كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ يَزورُ أهلَ البقيع وغيرَهم مِن غيرِ سفرٍ ورِحلةٍ إلى قُبورِهم؛ فسُنَّتُه التي لا غُبارَ عليها ولا شَنارَ فيها: هي زِيارةُ القبورِ من دونِ اختيارِ سَفرٍ لها؛ لِتذَكُّرِ الآخِرةِ). اهـ.

ومنهم: علَّامةُ العِراقِ السيِّد نُعمان بنُ محمودٍ الألوسيُّ مُفتي الحَنفيَّة ببغدادَ (ت: 1317هـ)؛ قال في (جلاء العينينِ) (ص518) بعد أنِ انتصَرَ لرأْيِ ابنِ تيميَّةَ في هذا: (ونِهايةُ الكلامِ في هذا المقامِ: أنَّ شيخَ الإسلامِ لم يَنفرِدْ بهذا القولِ الذي شُنِّعَ به عليه، بل ذهَبَ إليه غيرُه من الأئمَّةِ الأعلامِ).

هذا، وقد أعرَضْتُ عن أدلَّةٍ يَستشهِدُ بها الطرَفانِ، لكن لا تُسلَّمُ لهما، وأُسُّ الخِلافِ هو ما ذكَرْتُه.
 

فمِن أدلَّةِ المُجِيزينَ أحاديثُ فَضْلِ زِيارةِ قبرِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، وكلُّها ضعيفةٌ لا يَصِحُّ منها شيءٌ، ولو صحَّتْ فهي خارِج مَحلِّ النِّزاعِ، ومنها ما يَرْوُونه مِن (أنَّ بلالًا رضِيَ اللهُ عنه رأَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ وهو في الشامِ في منامِه، وهو يقولُ له: ما هذه الجَفوةُ يا بِلالُ؟! أمَا آنَ لك أنْ تَزُورَني يا بلالُ؟! فانتَبَه حزينًا خائفًا، فركِبَ راحلتَه وقصَدَ المدينةَ)! قال الحافظُ ابنُ حَجرٍ في (لِسان الميزان) (1/359) عن هذه القِصَّةِ: (بيِّنةُ الوَضعِ)، وقال الذَّهبيُّ في (سير أعلام النُّبلاء) (1/358): (مُنكَرٌ). وغيرها مِن الآثارِ والأحاديثِ الضَّعيفةِ والموضوعةِ.
 

ومِن أدلَّةِ المانعينَ التي أَعرضتُ عنها أَثَرُ أبي بَصْرةَ الغِفاريِّ وإنكارُه على أبي هُريرَةَ رضِيَ اللهُ عنهما ذَهابَه إلى الطُّورِ، وقد تَتبَّعتُ رِواياتِ هذا الأثرِ، فوجَدْتُه ليس في مَحلِّ النِّزاعِ؛ فذَهابُ أبي هُريرَةَ رضِيَ اللهُ عنه إنما كان لِمَسجدٍ هناك، ثم إنَّه وافَق أبا بَصْرةَ بعدَ ذلك.

أمَّا زِيارةُ أماكنِ السِّيرةِ النبويَّةِ -كغار حِراءٍ، وجَبَل أُحدٍ، وغيرِهما- بقَصدِ التعبُّدِ والتقرُّبِ إلى اللهِ تعالى: فبِدعةٌ لا تَجوزُ، ولم يُنقَلْ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ أنَّه فعَلَ ذلك، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ مِن صحابتِه رضِيَ اللهُ عنهم أنَّه فعَل ذلك، وهم أعلَمُ الناسِ بعْدَ الأنبياءِ بدِينِ اللهِ، وأطْوعُهم للهِ عزَّ وجلَّ، وفي الحديثِ: ((مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ)) متَّفق عليه.
 

أمَّا إنْ لم يكُن على سَبيلِ التعبُّدِ؛ كأنْ يكونَ للاستعانةِ بزِيارتِها في فَهمِ حوادثِ السِّيرةِ، كالغزواتِ وغيرِها، كما يَفعَلُه بعضُ المُعلِّمين؛ فلا بأسَ بذلك؛ حيثُ إنَّ الأصلَ في الأفعالِ على غيرِ وجْهِ التعبُّدِ الجوازُ، وعلى وجْهِ التعبُّد المنعُ، لكنْ يُشترَطُ لجوازِ زِيارتِها شروطٌ؛ منها:

1-  ألَّا يَلتزمَ الزيارةَ في أوقاتٍ مُعيَّنةٍ، وبصُورةٍ وهيئةٍ مُعيَّنة؛ حتى لا تُشبِهَ العِبادةَ.

2-   ألَّا يَتعمَّدَ أداءَ عِبادةٍ عِندها؛ كصلاةٍ، أو ذِكرٍ، أو دُعاءٍ، أو قَصدِ التبرُّك بها.

3- أنْ يَتمكَّنَ مِن إنكارِ المنكَرِ مِن بِدَعٍ أو شِرْكيَّاتٍ -إن وُجِدت- بالضوابطِ الشرعيَّةِ المُعتبَرةِ، فإنْ لم يَستطِعْ فعليه مُغادرةُ المكانِ؛ فذلك أضعَفُ الإيمان.

أمَّا عدَمُ ثُبوتِ زِيارةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه الكرامِ لهذه الأماكنِ، فإنَّه لا يدُلُّ على حُرمتِها؛ فهذا إنما يُقالُ فيما كان على وَجهِ التعبُّدِ.

لكن قد يُقالُ: إنَّ زِيارةَ مِثلِ هذه الأماكنِ ذَريعةٌ للشِّركِ. فيُجابُ بأنَّ مُجرَّدَ الزِّيارةِ ليس ذَريعةً للشِّركِ، إلَّا إذا هُيِّئت هذه الأماكِنُ بحيثُ تُصبِحُ أماكنَ زِيارةٍ يأْتيها الناسُ أفواجًا ويَقصِدونها قَصدًا؛ فمِثلُ هذا الفِعلِ قد يُؤدِّي إلى جَعْلِها مَزاراتٍ؛ فسَدُّ هذا البابِ مُتعيِّنٌ، وهناك فَرْقٌ بين هذا وذاك لِمَن تأمَّلَه.
 

واللهُ أعلمُ.