قراءة ونقد

الأغاني
book
أبو الفرج الأصفهاني
عنوان الكتاب: الأغاني
النـاشـر: دار الكتب العلمية – بيروت
الطبعة: الثانية
سـنة الطبع: 1412هـ
عرض ونقد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية


كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أحد كتب الأدب التاريخية المشهورة, حيث طار صيته في الآفاق, وانتشرت نسخه شرقًا وغرباً, واعتمد عليه كثير من الباحثين والمستشرقين في كتاباتهم, واستشهدوا برواياته التاريخية, حتى رسم البعض صورة مغلوطة للمجتمع المسلم من خلال روايات أبي الفرج وما فيها من مجون وفحش وخلاعة وخمر وغناء، وسنستعرض من خلال هذه السطور أهم ما تضمنه كتاب الأغاني وأهم المؤاخذات عليه.
عرض الكتاب:
كتاب الأغاني كتاب موسوعي, جمع في الأدب, والغناء, والشعر, مبتدئاً بالعصر الجاهلي, ثم صدر الإسلام, ثم العهد الأموي، والعباسي, إلى عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله، المتوفى سنة 289 هجرية، بعدها لم يرد عن الخلفاء أو الأمراء أو غيرهم شيء.
وقد تناول فيه علوماً شتى, وأغراضًا متنوعة من تفسير, وحديث, ولغة, وسير وأخبار, ومسامرات, وأحوال لسراة الناس وكبرائهم من خلفاء وأمراء ووزراء وعلماء وغيرهم.

وسبب تسميته بـ ((الأغاني)) هو تدوينه وجمعه عددًا من الأغاني والأصوات العربية وما يتبعها من نصوصها الشعرية وألحانها. وقد بنى مادة الكتاب على مائة صوت كان الرشيد أمر مغنيَه إبراهيم الموصلي أن ينتخبها له، وضمَّ إليها أبو الفرج الأصوات التي زيدت للخليفة الواثق، ثم ما اختاره أبو الفرج لنفسه من أصوات من مصادر أخرى. مع نسبة كل ما ذكره إلى قائله, سواء كان شاعرًا, أو صانع لحن, ويذكر ما يتعلق به من طريقة إيقاعه وغيرها. وتناول ما أورده من هذه الأمور بالشرح والبيان, والتلخيص, وتفسير المشكل, وإيضاح الغريب, والإعراب, وما يتعلق بالشعر من عروض وغيره.

الكتاب ألفه أبو الفرج الأصفهاني في خمسين عاماً, حتى إذا انتهى من تصنيفه قدمه كهدية إلى سيف الدولة الحمداني, فما كان من الأخير إلا أن أعطاه مقابل ذلك ألف دينار, إلا أن هذا الثمن لم يرق للصاحب ابن عباد, فاستقلها, ورأى أنها غير مجزية لعمل كهذا, وقال: (لقد قصر سيف الدولة, وإنه ليستحق أضعافها).
لماذا كتاب الأغاني؟
ربما يتساءل بعض القرَّاء الكرام لماذا نتعرض لهذا الكتاب بالنقد والتمحيص, والتفتيش عن أخطائه وسقطاته, بينما الكتاب لا يعدو أن يكون كتاب أدب وأخبار ومسامرات كغيره من الكتب؟ ولعلنا نجمل الإجابة في الآتي:

أولاً: ما يحتويه الكتاب من تشويه مخز للتاريخ الإسلامي لاسيما الخلفاء والأمراء والعلماء وغيرهم, حيث لم يفتأ يصورهم في صورة من لا خلاق لهم ولا دين, لا يردعهم رادع عن اقتراف المحرمات, ولا يمنعهم مانع عن ركوب الشهوات.

ثانيًا: ما يتمتع به هذا الكتاب من شهرة وانتشار, واعتماد الكثير من الباحثين في التاريخ الإسلامي على أخباره, وما يورده من قصص كمصدر أصيل من مصادر التاريخ الإسلامي, مما يجعله مادة دسمة لكثير من المتصيدين في الماء العكر, الذين يقتنصون الأخطاء, ويتتبعون الهفوات في محاولة منهم لإثبات أن الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها كانت مليئة بالخلاعة والمجون بجميع أشكالها وألوانها.
وهذا ما يتبادر إلى ذهن القارئ مباشرة عند استعراضه لأخبار هذا الكتاب حتى ليخيل له وللوهلة الأولى أن المجتمعات الإسلامية ومدن الإسلام وحواضره ما هي إلا مواخير للخلاعة, وحوانيت لمعاقرة الخمر, واستماع الغناء والملاهي.

ثالثًا: الطريقة التي يعرض فيها المؤلف أخباره, ويروي بها قصصه, حيث يقرن الخبر بالإسناد, ويسلسله بالرجال حتى يضفي إلى أخباره صبغة المصداقية والقوة, ويستطيع من خلال ذلك تمرير ما يصبو إليه من قدح في أعلام الأمة وساداتها.
كما اعتمد في ذلك على طريقة ماكرة, يدس فيها السم في الدسم, وذلك بنقله للروايات المتواترة, والحقائق التاريخية والأحداث والوقائع بشيء من المصداقية, ثم يضيف هو على ذلك أضعافه من الكذب, والتدليس, والتضليل, فيخيل للقارئ أن ما أورده في طيات كتابه هو الحق الذي لا شبهة فيه.

رابعًا: الاهتمام المبالغ فيه بالكتاب من قبل المستشرقين, حيث إنهم اعتبروه مصدرًا مهمًّا لا يستغنى عنه لمعرفة ما كانت عليه المجتمعات الإسلامية في تلك الحقب من التاريخ، وراحوا يروِّجون له ويشيدون بقيمته؛ لأنه يخدم أغراضهم الخبيثة.

خامساً: ومما يدعونا إلى التنبيه على محتويات الكتاب شخصية صاحبه المشبوهة, وتحذير العلماء منه, ووصمهم له بأوصاف تخرجه عن دائرة العدالة وتنفي عنه الثقة في نقل الأخبار, وإليك بعضًا مما قاله فيه أهل العلم:
قال ابن الجوزي: (... وكان يتشيع، ومثله لا يوثق بروايته، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب ((الأغاني)) رأى كل قبيح ومنكر) [المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (14/ 185) ].
وقال الحسن بْن الحسين النوبختي: (كان أَبُو الفرج الأصبهاني، أكذب الناس، كان يدخل سوق الوراقين وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصحف ويحملها إِلَى بيته ثم تكون رواياته كلها منها)[ تاريخ بغداد وذيوله ط العلمية (11/ 398).].
وقال الإمام الذهبي وهو يتحدث عنه: ( شيعي، وهذا نادر في أموي, كان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس، والشعر, والغناء, والمحاضرات، يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا).[ميزان الاعتدال (3/ 123)].
إضافة إلى ذلك إغراق الرجل في الشعوبية الحاقدة, الناقمة على كل ما هو عربي, الشعوبية التي تفيض من سطور الكتاب, وتفوح رائحتها من بين حروفه وكلماته.

ما يؤخذ على كتاب الأغاني:
لعلنا بعد هذه المقدمات نستطيع أن نلج في الكتاب ونستخرج بعض خباياه وما أخذ عليه, مستشهدين على ذلك بما لا يخدش الحياء, ولا تستقبحه الأسماع معرضين عن غيره:

1- فمما يؤخذ على كتاب الأغاني أن صاحبه أكثر من نقل الخلاعة والمجون, وركز على هذا الجانب حتى طفح به الكتاب وفاض, مصرحًا بذلك لا معرضًا, مستخدمًا الألفاظ الفاحشة, والعبارات القبيحة, ولولا تنزهينا لأسماع القرَّاء, وألسنتهم لعرضنا جانبًا من هذا الفحش والبذاء.
ولعل وَلَعَهُ بهذه الأخبار يعكس جانبًا من سلوكياته الأخلاقية, وما طبع عليه من طباع, فمن لا يتنزه عن قول الخنا, والمفاكهة به لا يتورع عن فعله.

2- ومن المآخذ التي تؤخذ على هذا الكتاب استخفافه بالعقائد والطعن فيها, ونقلها والسكوت عنها, فتراه ينقل الكفر البواح, والاستهزاء بالصلاة, وما إلى ذلك, ويتضح ذلك من خلال بعض ما سنورده من نقول مقتضبة أبقينا فيها على الشاهد, وحذفنا ما ننزه سمعك ولسانك عنه.
ففي أحد الأخبار التي نقلها الأصفهاني يقول بعد نقل السند:
(اجتمع يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وجميع أصحابهم فشربوا أياما تباعا فقال لهم يحيى ليلة من الليالي وهم سكارى ويحكم ما صلينا منذ ثلاثة أيام فقوموا بنا حتى نصلي فقالوا نعم فقام مطيع فأذن وأقام ثم قالوا من يتقدم فتدافعوا ذلك فقال مطيع للمغنية تقدمي فصلي بنا فتقدمت تصلي بهم عليها غلالة رقيقة مطيبة ....) [ الأغاني (13/ 350)] إلى آخر ما ورد في هذا الخبر. وفي خبر آخر يقول: (حَدَّثَنِي حمزة النوفلي ، قال :صلى الدلال المخنث إلى جانبي في المسجد ، فضرط ضرطة هائلة سمعها من في المسجد ، فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد وهو يقول في سجوده رافعًا بذلك صوته: سبح لك أعلاي وأسفلي، فلم يبق في المسجد أحد إلا فتن وقطع صلاته بالضحك)[ الأغاني (4/ 273)].

ومن الأمثلة على نقله لتحريف القرآن وسكوته عنه, ما نقله عن الفرزدق إذ سمع رجلًا يقول: ({وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] فقال الفرزدق: فاقطعوا أيديهما والله غفور رحيم فقال: ينبغي أن يكون هذا هكذا، قال: فقيل له: إنما هو: عزيز حكيم، قال: هكذا ينبغي أن يكون)[ الأغاني (21/ 364).] .
وإليك هذا الخبر الذي ينقل فيه لعن دين الإسلام إذ يحكي في قصة طويلة أن عمر فرق بين منظور بن زبان وبين امرأة أبيه لما تزوجها, وزعم أنه لم يعلم بالتحريم, ثم تزوجت فـ(رآها منظور يوما وهي تمشي في الطريق، وكانت جميلة رائعة الحسن، فقال: يا مليكة، لعن الله دينًا فرق بيني وبينك، فلم تكلمه وجازت... وبلغ عمر رضي الله عنه الخبر فطلبه ليعاقبه، فهرب منه)[ الأغاني (12/ 228)].

3- ومما يؤخذ على الكتاب أيضًا أخطاؤه التاريخية التي أوردها مؤلفه فيه, ومن ذلك على سبيل المثال قوله [الأغاني (14/ 174).]: أن هارون الرشيد (قد أخذ صالح بن عبد القدوس وعلي بن الخليل في الزندقة) بينما من قتله هو المهدي, وحينها لم يكن عمر الرشيد يتعدى الخمس سنوات.
ومن ذلك أيضًا روايته عن الوليد بن عقبة أنه قال: (لما فتح رسول الله مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح على رؤوسهم فجيء بي إليه وأنا مخلق فلم يمسسني وما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق فلم يمسسني من أجل الخلوق) [الأغاني (5/ 154).] .والغريب أن الوليد ابن عقبة أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا إلى بني المصطلق يجمع منهم الزكاة, فكيف يكون يوم فتح مكة صبيًّا؟! قال ابن عبد البر رحمه الله: (الحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا يوم الفتح) [الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1553)].
4- ويؤخذ على الكتاب كذلك التشويه البالغ, لأعلام الإسلام من خلفاء وعلماء وقادة, فنقل عنهم الأخبار الملفقة, والأقاصيص الكاذبة التي تصورهم على غير ما هم عليه, ولا يخفى على العاقل المنصف ما تخلفه هذه الأخبار في نفس قارئها, من تشويه لأعلام ظنهم لبرهة من الزمن يتربعون على عروش العفاف, ويتحلون بحلية الوقار, فإذا هو يصدم بالازدواجية الأخلاقية لهذه الشخصيات.

وللأصفهاني في عرض شخصياتهم دهاء ومكر فهو يعرض لاسم واحد من أفاضل الأمة مشفوعا بما يليق به من صيغ التكريم، حتى إذا استوثق من ثقة القارئ المغفَّل رماه بباقعة تجعله موضع الهزء والسخرية!. وقلما سلم من بوائقه هذه فرد أو جماعة أو حزب ممن لهم حميد الذكر بين العرب والمسلمين منذ العهد الراشدي مروراً بالأموي فالعباسي حتى أيام الأصفهاني[انظر كتاب: جولة في كتابي (الأغاني) و(السيف اليماني) (ص: 419)].

وممن طعن فيهم الأصفهاني: النعمان بن البشير الأنصاري, والإمام أبو حنيفة، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم الكثير, ولم يسلم من أذاه آل البيت النبوي, والذي كان يتشيع لهم, ويظهر حبه وتقديره لهم, بينما تكذبه أقواله وما ينقل عنهم, فقد نالوا منه النصيب الأكبر من الإقذاع والتعدي، إذن هو عدو الجميع, لا صديق له يمتنع عن لسانه, ولا صاحب يتورع عنه.
وهاك بعض النقول عنه تبين طعونه في سرات الإسلام وساداتهم:
قال: كان أبو حنيفة الفقيه صديقًا لحماد عجرد فنسك أبو حنيفة وطلب الفقه فبلغ فيه ما بلغ ورفض حمادا وبسط لسانه فيه فجعل حماد يلاطفه حتى يكف عن ذكره وأبو حنيفة يذكره فكتب إليه حماد بهذه الأبيات:
 

إن كان نسكُكَ لا يتمُّ

بغير شَتمي وانتقاصي

أو لم تكن إلاَّ به

ترجو النجاة من القصاص

فاقعد وقم بي كيف شئـ

ـتَ مع الأداني والأقاصي

فلطالما زكّيْتَنِي

وأنا المقيم على المعاصي

أيّام تَأخذها وتُعـ

ـطِي في أباريقِ الرَّصاصِ


قال فأمسك أبو حنيفة رحمه الله بعد ذلك عن ذكره خوفا من لسانه)[ الأغاني (14/ 326).].
وهذا افتراء على الإمام الأعظم إذ لم يعرف عن الإمام أي شيء عن صلته بحماد عجرد وأمثاله.
ومن طعونه في آل البيت النبوي ذكره أن الحسين بن علي رضي الله عنه أقر يزيد على شربه للخمر [الأغاني (15/ 281)]. ومن ذلك ذكره أن المغنين يجتمعون عند الحسن بن الحسن[الأغاني (1/ 227)].

ومن ذلك تعديه على حرماتهم وحديثه عن نسائهم, فهاهو ينقل عن سكينة بنت الحسين مواعدتها لابن أبي ربيعة الشاعر هي وصويحباتها ومحادثته إلى الفجر[الأغاني (2/ 369)], كما ينقل عنه أنها تحكم بين المغنين وتفصل بينهم [الأغاني (2/ 359)] إلى ما هنالك من هذه النقول التي يطفح بها هذا الكتاب.
5- كما يؤخذ على الكتاب أيضًا تصويره الفترة الزمنية التي تمثل صدر الإسلام بأنها فترة دموية مليئة بالدسائس والمؤمرات, والمكر والخديعة, وهذا ما لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فالكتاب مليء بمثل هذه الأخبار والأقاصيص, ومن رجع إليها وجدها ظاهرة للعيان, غير خفية على من تتبعها.

وبعد أيها القارئ الكريم:
فهذه بعض المآخذ على كتاب قد ملأ السمع والبصر, واشتهر وانتشر, واحتفى به أعداء الأمة من المستشرقين والمستغربين لما يقضيه من مآربهم, ويحقق من أمانيهم في ذم الإسلام وأهله, ومن أراد الاستزادة فنحيله على كتاب:
- جولة في كتابي (الأغاني) و (السيف اليماني) لمحمد مصطفى المجذوب.
- ((السيف اليماني في نحر الأصفهاني)) لوليد الأعظمي.