موسوعة الأخلاق

الفرق بين البخل والشح


اختلف أهل العلم في البخل والشح، هل هما مترادفان أم لكلِّ واحد منهما معنى غير معنى الآخر، وقد بين الطِّيبي أن الفرق بينهما عسير جدًّا [4552] ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (28/ 94). وسنعرض هنا بعضًا من أقوال العلماء في الفرق بينهما:
- يرى ابن مسعود رضي الله عنه: أن البخل هو البخل بما في اليد من مال، أما الشح فهو أن يأكل المرء مال الآخرين بغير حقٍّ، فقد (قال له رجل: إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك قال: إني سمعت الله يقول: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: ليس ذاك بالشحِّ، ولكنه البخل، ولا خير في البخل، وإنَّ الشحَّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا) [4553] رواه ابن أبي شيبة (9/98)، والطبراني (9/218) (9080)، والحاكم (2/532)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/426) (10841). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
- وفرَّق ابن عمر بين الشحِّ والبخل، فقال: (ليس الشحيح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل، وإنه لشرٌّ، إنما الشحُّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له) [4554] ذكره البغوي في ((تفسيره)) (8/78)، والسيوطي في ((الدر المنثور)) (8/107-108) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
- وقيل أنهما مترادفان لهما نفس المعنى [4555] ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/396).
- (وقيل: البخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك، والشحُّ: الحرص على تحصيل ما ليس عندك) [4556] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (4/293).
- وقيل: (البخل منع الواجب، والشحُّ منع المستحب) [4557] ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/396). وهؤلاء قالوا: إن منع المستحب لا يمكن أن يكون بخلًا لعدة أمور:
أحدها: أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا بالواجب.
وثانيها: أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذمَّ فاعله، وأن يعاب به.
وثالثها: وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل؛ لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكلُّ ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركًا التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلًا لزم أن يكون الله تعالى موصوفًا بالبخل لا محالة، تعالى الله عز وجل عنه علوًّا كبيرًا.
ورابعها: قال عليه الصلاة والسلام: ((وأيُّ داء أدوأ من البخل )) [4558] جزء من حديث رواه البخاري (4383). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف.
وخامسها: أنه لو كان تارك التفضل بخيلًا لوجب فيمن يملك المال كلَّه العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكلِّ.
وسادسها: أنه تعالى قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 3] وكلمة من للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله، ثم إنه تعالى قال في صفتهم: أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلًا مذمومًا لما صحَّ ذلك. فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب [4559] ((مفاتيح الغيب)) للرازي (9 / 444).
- وقيل: (البخل هو المنع من مال نفسه، والشحُّ هو بخل الرجل من مال غيره...).
- وقيل: (البخل هو نفس المنع، والشحُّ الحالة النفسية التي تقتضي ذلك المنع) [4560] ((الكليات)) للكفوي (1 /361).
- وقيل: إنَّ الشحَّ هو البخل مع زيادة الحرص، وهو ما رجَّحه القرطبي، فقال: (وقيل: إنَّ الشحَّ هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم قال: ((اتَّقوا الظلم؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتَّقوا الشحَّ؛ فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم )) [4561] رواه مسلم (2578). وهذا يردُّ قول من قال: إنَّ البخل منع الواجب، والشحُّ منع المستحب. إذ لو كان الشحُّ منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذمِّ الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدًا، ولا يجتمع شحٌّ وإيمان في قلب رجل مسلم أبدًا )) [4562] رواه النسائي (6/14)، وابن ماجه (2256)، وأحمد (2/256) (7474)، وابن حبان (8/43) (3251)، والحاكم (2/82)، والبيهقي (9/161) (18978). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). [4563] (( الجامع لأحكام القرآن)) (4/293).
- ويرى ابن القيم أنَّ (الفرق بين الشحِّ والبخل: أنَّ الشحَّ هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه، وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشحِّ، والشحُّ يدعو إلى البخل، والشحُّ كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحَّه، ومن لم يبخل فقد عصى شحَّه ووقي شرَّه، وذلك هو المفلح وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] ) [4564] ((الوابل الصيب)) (ص 33).

انظر أيضا: