موسوعة التفسير

سُورةُ البَيِّنةِ
الآيات (6-8)

ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

غريب الكلمات:

الْبَرِيَّةِ: أي: الخَلْقِ، مأخوذٌ مِن بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ، أي: خلَقَهم، وأصلُ (برأ) هنا: يدُلُّ على خَلْقٍ [80] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 15)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 128)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/236)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 462)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 470)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 253). .
عَدْنٍ: أي: إقامةٍ وخُلدٍ، واستقرارٍ وثَباتٍ، وأصلُ (عدن): يدُلُّ على الإقامةِ [81] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/248)، ((المفردات)) للراغب (ص: 553)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا سوءَ عاقِبةِ هؤلاءِ الجاحِدينَ مِن أهلِ الكتابِ ومِن المشرِكينَ: إنَّ الكُفَّارَ -مِن اليَهودِ والنَّصارى والمُشرِكينَ- في نارِ جَهنَّمَ ماكِثينَ فيها، أولئك هم شَرُّ الخَليقةِ.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه حُسنَ عاقبةِ المؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ أولئك هم خَيرُ الخَليقةِ، ثوابُهم عِندَ رَبِّهم جنَّاتُ إقامةٍ دائِمةٍ تجري الأنهارُ مِن تحتِها، ماكِثينَ في الجنَّةِ أبَدًا، رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه، ذلك الثَّوابُ الكريمُ لِمَن خاف اللهَ تعالى.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الكُفَّارِ أوَّلًا في قَولِه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] ، ثمَّ ذَكَر ثانيًا حالَ المؤمِنينَ في قَولِه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة: 5] ؛ أعاد في آخِرِ هذه السُّورةِ ذِكرَ كِلا الفَريقَينِ، فبَدَأ أيضًا بحالِ الكُفَّارِ [82] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/246). .
وأيضًا بعْدَ أنْ أنْحَى على أهلِ الكتابِ والمشرِكين معًا، ثمَّ خصَّ أهْلَ الكتابِ بالطَّعنِ في تَعلُّلاتِهم، والإبطالِ لشُبهاتِهم الَّتي يُتابِعُهم المشرِكون عليها؛ أعْقَبَه بوَعيدِ الفريقَينِ جَمْعًا بيْنَهما، كما ابتَدَأَ الجمْعَ بيْنَهما في أوَّلِ السُّورةِ؛ لأنَّ ما سَبَقَ مِن المَوعظةِ والدَّلالةِ كافٍ في تَذليلِ أنفُسِهم للمَوعظةِ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/482، 483). .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: إنَّ الكُفَّارَ مِن اليَهودِ، والنَّصارى، والمُشرِكينَ باللهِ: في نارِ جَهنَّمَ يومَ القيامةِ، ماكِثينَ فيها أبَدًا [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/555)، ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/483). .
أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.
أي: أولئك الكُفَّارُ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى والمُشرِكينَ هم شَرُّ الخَليقةِ الَّتي خَلقَها اللهُ [85] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/555)، ((الوسيط)) للواحدي (4/540)، ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 279). .
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55] .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر الأعداءَ، وبدأَ بهم؛ أتْبَعه الأولياءَ، فقال [86] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/197). :
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7).
أي: إنَّ الَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ: أولئك هم خَيرُ الخَليقةِ الَّتي خلَقَها اللهُ تعالى [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/556)، ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((تفسير القاسمي)) (9/524). .
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا خَصَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ بالخَيريَّةِ؛ ذكَرَ ثَوابَهم [88] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/197). .
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: ثَوابُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ في الآخِرةِ عِندَ رَبِّهم: جنَّاتُ إقامةٍ دائِمةٍ لا تَحوُّلَ عنها، تجري الأنهارُ مِن تحتِ قصورِها وأشجارِها بلا انقِطاعٍ [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/556)، ((تفسير القرطبي)) (20/146)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: ماكِثينَ في الجنَّةِ أبَدًا، يتنعَّمونَ في كُلِّ وَقتٍ بلا موتٍ ولا خروجٍ [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/556)، ((تفسير القرطبي)) (20/146)، ((تفسير ابن كثير)) (8/458)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 282). .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
أي: رَضِيَ اللهُ عنهم؛ بسَبَبِ إيمانِهم وطاعتِهم له، ورَضُوا هم عن اللهِ؛ لِمَا آتاهم مِن النَّعيمِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/556)، ((تفسير القرطبي)) (20/146)، ((تفسير ابن كثير)) (8/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). .
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ.
أي: ذلك الثَّوابُ الكريمُ والنَّعيمُ العَظيمُ يكونُ لِمَن خاف اللهَ في الدُّنيا وعَظَّمَه؛ فامتَثَل أوامِرَه، واجتَنَب نواهِيَه [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/557)، ((تفسير القرطبي)) (20/146)، ((تفسير ابن كثير)) (8/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 283). .
قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 31 - 33] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ هذا تنبيهٌ على أنَّ وَعيدَ عُلَماءِ السُّوءِ أعظَمُ مِن وَعيدِ كُلِّ أحَدٍ [93] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/248). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ... أنَّه لَمَّا ذَكَرَ اللهُ حُكْمَ الكُفَّارِ مِن اليَهودِ والنَّصارى والمُشرِكينَ، ذَكَرَ حُكْمَ المؤمِنينَ، والقرآنُ الكريمُ مَثَانٍ تُثَنَّى فيه المعاني، فيُؤتى بالمعنى وما يُقابِلُه، ويأتي بأصحابِ النَّارِ وأصحابِ الجَنَّةِ، ويأتي بآياتِ التَّرهيبِ وآياتِ التَّرغيبِ، وهَلُمَّ جرًّا؛ مِن أجْلِ أنْ يكونَ الإنسانُ سائرًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بيْنَ الخَوفِ والرَّجاءِ، ولئلَّا يَمَلَّ؛ فإنَّ تنويعَ الأساليبِ وتنويعَ المواضيعِ لا شَكَّ أنَّه يعطي النَّفْسَ قوَّةً واندِفاعًا، بخلافِ ما لو كان الكَلامُ على وتيرةٍ واحدةٍ؛ فإنَّ الإنسانَ قد يَمَلُّ ولا تتحرَّكُ نَفْسُه [94] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 280). !
3- أنَّ مَن كان مؤمنًا كاملَ الإيمانِ فإنَّه يَرى أنَّه أعَزُّ خَلْقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ قال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وكما أنَّ المؤمِنَ أكرمُ الخَلْقِ عندَ اللهِ وأعزُّهم، فالكافِرُ أذَلُّهم عندَ اللهِ وأحَطُّهم؛ قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ، فلا يجوزُ للمُسلمِ أنْ يَستَذِلَّ أمامَ الكافِرِ [95] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (3/320). !
4- قَولُ اللهِ تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ هذه الآيةُ إذا ضُمَّ إليها آيةُ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، صار المجموعُ دليلًا على فَضْلِ العِلمِ والعُلَماءِ؛ فهذه الآيةُ المذكورةُ مِن سورةِ (فاطرٍ) دَلَّت على أنَّ العالِمَ يكونُ صاحِبَ الخَشيةِ، وقَولُه: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ يدُلُّ على أنَّ صاحِبَ الخَشيةِ تكونُ له الجنَّةُ [96] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/252). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، أي: خاف المُحسِنَ إليه خوفًا يَليقُ به، فلم يَركَنْ إلى التَّسويفِ والتَّكاسُلِ، ولم يُطَبِّعْ نَفْسَه بالشَّرِّ بالجَريِ مع الهوى في التَّطَعُّمِ بالمحَرَّماتِ، بل كان ممَّن يَطلُبُ معاليَ الأخلاقِ، فيَستفتي قَلْبَه فيما يُرضي رَبَّه، فكان تواتُرُ إحسانِه يَزيدُه خوفًا، فيَزيدُه شُكرًا؛ فإنَّ الخَشيةَ مِلاكُ الأمرِ، والباعِثُ على كُلِّ خَيرٍ [97] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/198، 199). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ اسمُ الإشارةِ مُنصَبٌّ على مجموعِ الجزاءِ المتقَدِّمِ، وهو للَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وهنا يقولُ: إنَّه لِمَن خَشِيَ رَبَّه؛ مِمَّا يفيدُ أنَّ تلك الأعمالَ تَصدُرُ منهم عن رَغبةٍ ورَهبةٍ؛ رَغبةٍ فيما عندَ اللهِ، ورَهبةٍ مِنَ اللهِ [98] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/54). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فيه سُؤالٌ: لِمَ ذكَرَ: كَفَرُوا بلَفظِ الفِعْلِ، وَالْمُشْرِكِينَ باسمِ الفاعِلِ؟
الجوابُ: تنبيهًا على أنَّ أهلَ الكِتابِ ما كانوا كافِرينَ مِن أوَّلِ الأمرِ، بخلافِ المُشرِكينَ؛ فإنَّهم وُلِدوا على عبادةِ الأوثانِ، وإنكارِ الحَشْرِ والقيامةِ [99] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/247). .
2- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فيه سُؤالٌ: أنَّ المُشرِكينَ كانوا يُنكِرونَ النُّبُوَّةَ، ويُنكِرونَ القيامةَ، أمَّا أهلُ الكتابِ فكانوا مُقِرِّينَ بكُلِّ هذه الأشياءِ، إلَّا أنَّهم كانوا مُنكِرينَ لنبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان كُفرُ أهلِ الكِتابِ أخَفَّ مِن كُفرِ المُشرِكينَ، وإذا كان كذلك، فكيف يجوزُ التَّسويةُ بيْن الفريقَينِ في العَذابِ؟
الجوابُ: أنَّ الفريقَينِ وإن اشتَرَكا في ذلك، لكِنَّه لا يُنافي اشتِراكُهم في هذا القَدْرِ تَفاوُتَهم في مَراتِبِ العَذابِ [100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/247). .
3- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فيه سؤالٌ: ما السَّبَبُ في أنَّه لم يقُلْ هاهنا: (خَالِدينَ فيها أبَدًا)، وقال في صِفةِ أهلِ الثَّوابِ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [البينة: 8] ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: التنبيهُ على أنَّ رَحمتَه تعالى أَزيدُ مِن غَضَبِه.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ العُقوباتِ والحُدودَ والكَفَّاراتِ تتداخَلُ، أمَّا الثَّوابُ فأقسامُه لا تتداخَلُ [101] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/247). .
4- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ فيه سُؤالٌ: ما الفائِدةُ في قَولِه تعالى: شَرُّ الْبَرِيَّةِ؟
الجوابُ: أنَّه يُفيدُ النَّفيَ والإثباتَ، أي: هم دونَ غَيرِهم [102] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/247). .
5- التَّرَضِّي يكونُ عن الصَّحابةِ، ويكونُ عن التَّابِعينَ، ويكونُ عن تابِعي التَّابِعينَ، ويكونُ عمَّن كان عابدًا للهِ على الوجهِ الَّذي يَرضاه إلى يومِ القيامةِ، ودليل ذلك قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، ذلك لِمَن خَشِيَ ربَّه إلى يومِ القيامةِ، لكنْ جَرَتْ عادةُ المُحَدِّثِينَ رحِمَهم اللهُ أنْ يَخُصُّوا الصَّحابةَ بالتَّرضِّي عنهم؛ ومَن بَعْدَهم بالتَّرحُّمِ عليهم؛ فيَقولوا في الصَّحابيِّ: رضيَ اللهُ عنه، ويقولوا فيمَن بعدَ الصَّحابةِ: رحِمَه اللهُ، ولكنْ لو أنَّك قلتَ للصَّحابيِّ: رحِمه اللهُ، وفي غيرِه: رضيَ اللهُ عنه؛ فلا حَرَجَ عليك، إلَّا إذا خَشِيتَ أنْ يَتَوهَّمَ السَّامعُ بأنَّ التَّابِعيَّ صحابيٌّ؛ والصَّحابيَّ تابعيٌّ! فهنا لا بُدَّ أنْ تُبَيِّنَ فتقولَ: قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ -وهو مِن الصَّحابةِ- رحمه اللهُ، أو قال مجاهِدٌ -وهو مِن التَّابعينَ- رضيَ اللهُ عنه؛ حتَّى لا يَتَوهَّمَ أحدٌ أنَّ ابنَ مسعودٍ مِن التَّابِعينَ، ومُجاهِدًا مِن الصَّحابةِ [103] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/674). !
6- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قد استدَلَّ بهذه الآيةِ أبو هُريرةَ وطائفةٌ مِنَ العُلَماءِ على تفضيلِ المؤمِنينَ مِنَ البَرِيَّةِ على الملائِكةِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/458). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (32/248). المنقولُ عن السَّلَفِ أنَّ صالِحي البَشَرِ أفضَلُ مِن الملائكةِ، ونَقَل ابنُ القَيِّمِ عن ابنِ تيميَّةَ أنَّ صالِحي البشَرِ أفضَلُ باعتبارِ كَمالِ النِّهايةِ، والملائكةَ أفضَلُ باعتبارِ البدايةِ؛ فإنَّ الملائكةَ الآنَ في الرَّفيقِ الأعلى مُنَزَّهونَ عمَّا يُلابِسُه بنو آدَمَ، مُستَغرِقونَ في عبادةِ الرَّبِّ تعالى، ولا ريبَ أنَّ هذه الأحوالَ الآنَ أكمَلُ مِن أحوالِ البَشَرِ، وأمَّا يومَ القيامةِ بعدَ دُخولِ الجنَّةِ فيصيرُ حالُ صالِحي البشَرِ أكمَلَ مِن حالِ الملائكةِ. قال ابنُ القَيِّم: (وبهذا التَّفصيلِ يَتبيَّنُ سِرُّ التَّفضيلِ، وتتَّفِقُ أدِلَّةُ الفَريقَينِ، ويُصالَحُ كُلٌّ منهم على حَقِّه). ((بدائع الفوائد)) (3/163). ويُنظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/352). وهذه المسألةُ مِن فُضولِ المسائلِ، ولا يترتَّبُ عليها عمَلٌ. .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إلى قوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أنَّ الخشيةَ تُوجِبُ الإيمانَ والعمَلَ الصَّالِحَ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 203). .
8- في قَولِه تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أنَّ الجَنَّةَ لا تَفْنَى [106] يُنظر: ((تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد)) لابن عثيمين (ص: 132). ، وفيه بِشارةٌ بأنَّها مَسكَنُهم الخالِدُ [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/486). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في بَيانِ حالِ الفَريقينِ في الآخرةِ، بعْدَ بَيانِ حالِهم في الدُّنيا [108] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/186)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/544). ، فالجُملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/482، 483). .
- وذَكَر المُشرِكينَ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ اختِصاصُ الحُكْمِ بأهلِ الكتابِ حسَبَ اختصاصِ مُشاهَدةِ شَواهدِ النُّبوَّةِ في الكِتابِ بهم [110] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/186). .
- وقُدِّمَ أهلُ الكتابِ على المشرِكينَ في الوَعيدِ؛ استِتباعًا لتَقديمِهم عليهم في سَببِه، ولأنَّ مُعظَمَ الرَّدِّ كان مُوجَّهًا إلى أحوالِهم مِن قولِه: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلى قولِه: دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 4-5] ، ولأنَّه لو آمَنَ أهلُ الكتابِ لَقامت الحُجَّةِ على أهلِ الشِّركِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/483). ، ولأنَّ جنايةَ أهلِ الكتابِ في حقِّ الرَّسولِ عليه السَّلامُ كانت أعظَمَ؛ لأنَّ المشرِكين رأَوْه صغيرًا، ونشأ فيما بيْنَهم، ثمَّ سفَّهَ أحلامَهم، وأبطَلَ أديانَهم، وهذا أمرٌ شاقٌّ، أمَّا أهلُ الكتابِ فقد كانوا يَستَفتِحونَ برِسالتِه، ويُقِرُّون بمَبعَثِه، فلمَّا جاءهم أنكَروه مع العِلمِ به؛ فكانت جنايَتُهم أشَدَّ [112] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/246). .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بـ (إِنَّ)؛ للرَّدِّ على أهلِ الكتابِ الَّذين يَزعُمون أنَّهم لا تَمَسُّهم النَّارُ إلَّا أيَّامًا مَعدودةً؛ فإنَّ الظَّرفيَّةَ الَّتي اقتَضَتْها فِي تُفيدُ أنَّهم غيرُ خارِجينَ منها، وتَأكَّدَ ذلك بقَولِه: خَالِدِينَ فِيهَا، وأمَّا المشرِكون فقدْ أنْكَروا الجَزاءَ رَأسًا [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/483). .
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... إيرادُ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للإيذانِ بتَحقُّقِ مَضمونِها لا مَحالةَ، أو أنَّهم فيها الآنَ؛ على تَنزيلِ مُلابَستِهم لِما يُوجِبُها مَنزِلةَ مُلابستِهم لها [114] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/186). .
أو الإخبارُ عنهم بالكَونِ في نارِ جهنَّمَ إخبارٌ بما يَحصُلُ في المُستقبَلِ بقَرينةِ مَقامِ الوعيدِ؛ فإنَّ الوعيدَ كالوعْدِ يَتعلَّقُ بالمُستقبَلِ، وإنْ كان شأنُ الجُملةِ الاسميَّةِ غيرِ المُقيَّدةِ بما يُعيِّنُ زَمانَ وُقوعِها أنْ تُفيدَ حُصولَ مَضمونِها في الحالِ، كما تقولُ: زَيدٌ في نِعمةٍ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/483). .
- وجُملةُ أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ كالنَّتيجةِ لكَونِهم في نارِ جَهنَّمَ خالِدينَ فيها؛ فلذلك فُصِلَت عن الجُملةِ الَّتي قبْلَها، وهو إخبارٌ بسُوءِ عاقبتِهم في الآخرةِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/483). .
- وقولُه: أُولَئِكَ إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافِهم بما هُم فيه مِن القبائحِ المذكورةِ، وما فيه مِن مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ مَنزلتِهم في الشَّرِّ، أي: أولئكَ البُعداءُ المذكورونَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ شرُّ الخَليقةِ، أي: أعمالًا، فيكونُ في حيِّزِ التَّعليلِ لخُلودِهم في النَّارِ، أو شرُّهم مقامًا ومَصيرًا، فيكونُ تَأكيدًا لفَظاعةِ حالِهِم [117] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/186). .
- وأُدخِلَ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ بيْن اسمِ (إنَّ) وخبَرِها؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بالحكْمِ الواردِ بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن أجْلِ الأوصافِ الَّتي قبْلَ اسمِ الإشارةِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/484). .
- وتَوسيطُ ضَميرِ الفصْلِ (هُمْ)؛ لإفادةِ اختِصاصِهم بكَونِهم شرَّ البَريَّةِ، لا يُشارِكُهم في ذلك غيرُهم مِن فِرَقِ أهلِ الكفْرِ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/484). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قُوبِلَ حالُ الكَفرةِ مِن أهلِ الكِتابِ وحالُ المشركينَ بحالِ الَّذين آمَنوا بعْدَ أنْ أُشِيرَ إليهم بقولِه: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] ؛ استيعابًا لأحوالِ الفِرَقِ في الدُّنيا والآخرةِ، وجَرْيًا على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ نِذارةِ المُنذَرينَ ببِشارةِ المُطمَئنِّينَ، وما تَرتَّبَ على ذلك مِن الثَّناءِ عليهم.
وقُدِّمَ الثَّناءُ عليهم على بِشارتِهم، على عَكسِ نظْمِ الكلامِ المُتقدِّمِ في ضِدِّهم؛ ليكونَ ذِكرُ وَعْدِهم كالشُّكرِ لهم على إيمانِهم وأعمالِهم؛ فإنَّ اللهَ شَكورٌ، والجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن تَكرُّرِ ذِكرِ الَّذين كَفَروا مِن أهلِ الكتابِ والمشْرِكين؛ فإنَّ ذلك يُثيرُ في نُفوسِ الَّذين آمَنوا مِن أهلِ الكتابِ والمشرِكين تَساؤلًا عن حالِهم؛ لعلَّ تَأخُّرَ إيمانِهم إلى ما بعْدَ نُزولِ الآياتِ في التَّنديدِ عليهم يَجعَلُهم في انحطاطِ دَرَجةٍ، فجاءت هذه الآيةُ مُبيِّنةً أنَّ مَنْ آمَنَ منهم هو مَعدودٌ في خَيرِ البَريَّةِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/485). .
أو قَدَّمَ اللهُ الثَّناءَ على المؤمنينَ الَّذين عَمِلوا الصَّالحاتِ على ذِكْرِ جزائِهم؛ لأنَّ ثناءَ اللهِ عليهم أعظَمُ مَرتبةً، وأعلى مَنقَبةً؛ فلذلك قَدَّمَه على الجزاءِ الَّذي هو جزاؤُهم في يومِ القيامةِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 281). .
- وأُدخِلَ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ بيْنَ اسمِ (إنَّ) وخبَرِها؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بالحكْمِ الواردِ بعدَ اسمِ الإشارةِ مِن أجْلِ الأوصافِ الَّتي قبْلَ اسمِ الإشارةِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/484، 485). .
- وتَوسيطُ ضَميرِ الفصلِ (هم)؛ لإفادةِ اختِصاصِهم بكَونِهم خيرَ البَريَّةِ، لا يُشارِكُهم في ذلك غيرُهم مِن البشَرِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/484، 485). .
3- قولُه تعالَى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
- جُملةُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ إلى آخِرِها مُبيِّنةٌ لجُملةِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وعِنْدَ رَبِّهِمْ ظرْفٌ وقَعَ اعتراضًا بيْنَ جَزَاؤُهُمْ وبيْنَ جَنَّاتُ عَدْنٍ؛ للتَّنويهِ بعِظَمِ الجزاءِ بأنَّه مُدَّخرٌ لهم عندَ ربِّهم تَكرمةً لهم؛ لِما في عِنْدَ مِن الإيماءِ إلى الحُظوةِ والعِنايةِ، وما في لَفظِ رَبِّهِمْ مِن الإيماءِ إلى إجزالِ الجزاءِ بما يُناسِبُ عِظَمَ المُضافِ إليه (عِند)، وما يُناسِبُ شَأنَ مَن يَرُبُّ أنْ يَبلُغَ بمَربوبِه عَظيمَ الإحسانِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/485). .
- وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا فيه عِدَّةُ مُبالَغاتٍ؛ وهي: تَقديمُ المدْحِ بالخَيريَّةِ، وذِكرُ الجزاءِ المُؤذِنِ بأنَّ ما مُنِحوا في مُقابَلةِ ما وُصِفوا به، والحُكْمُ عليه بأنَّه مِن عِنْدَ رَبِّهِمْ، والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ المُنبئةِ عن التَّربيةِ والتَّبليغِ إلى الكَمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِهم، وجمْعُ جنَّاتٍ، وتَقييدُها إضافةً ووَصْفًا بما تَزدادُ لها نَعيمًا، وتَأكيدُ الخُلودِ بالتَّأبيدِ، وذلك كلُّه فيه مِن الدَّلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم ما لا يَخْفى [125] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/329)، ((تفسير أبي السعود)) (9/187). .
- وإضافةُ جَنَّاتُ إلى عَدْنٍ لإفادةِ أنَّها مَسكَنُهم؛ لأنَّ العَدْنَ الإقامةُ، أي: ليس جَزاؤهم تَنزُّهًا في الجنَّاتِ، بلْ أقوى مِن ذلك بالإقامةِ فيها [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/485). .
- وجُعِلَ جَزاءُ الجماعةِ جمْعَ الجنَّاتِ؛ فيَجوزُ أنْ يكونَ على وَجْهِ التَّوزيعِ، أي: لكلِّ واحدٍ جنَّةٌ، ويَجوزُ أنْ يكونَ لكلِّ أحدٍ جنَّاتٌ مُتعدِّدةٌ، والفضلُ لا يَنحصِرُ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/486). .
- وجَرْيُ النَّهرِ مُعبَّرٌ به عن انتقالِ السَّيلِ تَشبيهًا لسُرعةِ انتقالِ الماءِ بسُرعةِ المشْيِ، وإسنادُ الجرْيِ إلى الأنهارِ تَوسُّعٌ في الكلامِ؛ لأنَّ الذي يَجْري هو ماؤُها، وهو المُعتبَرُ في ماهيَّةِ النَّهرِ [128] يُنظر: (تفسير ابن عاشور)) (30/486). .
- قولُه: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ تَذييلٌ [129] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). آتٍ على ما تَقدَّمَ مِن الوعْدِ للَّذين آمَنوا، والوعيدِ للَّذين كَفَروا، بُيِّنَ به سَببُ العَطاءِ وسَببُ الحِرمانِ، وهو خَشيةُ اللهِ تعالَى بمَنطوقِ الصِّلةِ ومَفهومِها، وماصَدَقَ [130] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو المَوصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يُقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). (مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) هم المؤمِنون، واللَّامُ للمِلكِ، أي: ذلك الجَزاءُ للمؤمنينَ الَّذين خَشُوا ربَّهم، فإذا كان ذلك مِلكًا لهم لم يكُنْ شَيءٌ منه مِلْكًا لغَيرِهم، فأفاد حِرمانَ الكفَرةِ المُتقدِّمِ ذِكرُهم، وتمَّ التَّذييلُ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/486، 487). .
- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ المُعرِبةِ عن المالكيَّةِ والتَّربيةِ في قولِه: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الخَشيةِ، والتَّحذيرِ مِن الاغترارِ بالتَّربيةِ [132] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/187). .
- وأيضًا في ذِكرِ الرَّبِّ هنا دونَ أنْ يُقالَ: (ذلك لِمَن خَشِيَ اللهَ) تَعريضٌ بأنَّ الكفَّارَ لم يَرْعَوا حقَّ الرُّبوبيَّةِ؛ إذ لم يَخْشَوا ربَّهم، فهُم عَبيدُ سُوءٍ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/487). .