موسوعة التفسير

سُورةُ العَلَقِ
الآيات (1-5)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

عَلَقٍ: أي: دمٍ جامدٍ، جمعُ عَلَقةٍ، والعَلَقُ: التَّشَبُّثُ بالشَّيءِ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/21)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/125)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1318)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 579)، ((تفسير القرطبي)) (20/119)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300). قال الماوَرْديُّ: (العَلَقُ جَمْعُ عَلَقةٍ، والعَلَقةُ: قِطْعةٌ مِن دَمٍ رَطْبٍ؛ سُمِّيَتْ بذلك لأنَّها تَعلَقُ لرُطوبتِها بما تَمُرُّ عليه، فإذا جَفَّتْ لم تكنْ عَلَقةً). ((تفسير الماوردي)) (6/304). وقال ابن عاشور: (العَلَقُ: اسمُ جمعِ عَلَقةٍ، وهي قِطعةٌ قَدْرَ الأُنْمُلَةِ مِن الدَّمِ الغليظِ الجامِدِ الباقي رَطْبًا لم يَجِفَّ، سُمِّي بذلك تشبيهًا لها بدودَةٍ صغيرةٍ تُسَمَّى عَلَقةً، وهي حمراءُ داكِنةٌ تكونُ في المياهِ الحُلوةِ، تمتصُّ الدَّمَ مِن الحيوانِ إذا عَلِقَ خُرْطومُها بجِلْدِه، وقد تَدخلُ إلى فَمِ الدَّابَّةِ -وخاصَّةً الخيلَ والبِغالَ- فتَعْلَقُ بلَهاتِه ولا يتَفَطَّنُ لها). ((تفسير ابن عاشور)) (30/438). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُخاطِبًا نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: اقرَأْ -يا محمَّدُ- ما أُنزِلَ إليك مِن القُرآنِ مُفتَتِحًا بذِكرِ اسمِ رَبِّك الخالِقِ، خَلَق الإنسانَ مِن قِطعةِ دَمٍ غَليظٍ، اقرَأِ القُرآنَ، ورَبُّك الكَثيرُ الخَيراتِ ذو المحاسِنِ والمحامِدِ، الَّذي عَلَّم عِبادَه الخَطَّ بالقَلَمِ، علَّم الإنسانَ العُلومَ الَّتي لم يكُنْ يَعلَمُها.

تفسير الآيات:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1).
أي: اقرَأْ -يا محمَّدُ- ما أُنزِلَ إليك مِن القُرآنِ مُفتَتِحًا بذِكرِ اسمِ رَبِّك الخالِقِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/527)، ((تفسير ابن عطية)) (5/501)، ((تفسير القرطبي)) (20/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/436، 437). قال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه: اقْرَأْ وإن كان خِطابًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلًا، فهو خِطابٌ لكُلِّ أحدٍ). ((مجموع الفتاوى)) (16/324، 325). .
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها أنَّها قالت: ((أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحةُ في النَّومِ، فكان لا يرى رُؤيا إلَّا جاءت مِثْلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثمَّ حُبِّبَ إليه الخَلاءُ، وكان يخلو بغارِ حِراءٍ، فيَتحَنَّثُ فيه -وهو التَّعَبُّدُ- اللَّياليَ ذَواتِ العَدَدِ قبْلَ أن يَنزِعَ [16] يَنْزِعَ: أي: يَرْجِعَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/23). إلى أهْلِه، ويَتزَوَّدُ لذلك، ثمَّ يَرجِعُ إلى خديجةَ فيَتزَوَّدُ لمِثْلِها، حتَّى جاءه الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فجاءه المَلَكُ فقال: اقرَأْ. قال: ما أنا بقارئٍ. قال: فأخَذَني فغَطَّني حتَّى بَلَغ منِّي الجَهْدَ، ثمَّ أرسَلَني، فقال: اقرَأْ. قُلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخَذَني فغَطَّني الثَّانيةَ حتَّى بَلَغ منِّي الجَهْدَ ثمَّ أرسَلَني، فقال: اقرَأْ. فقُلتُ: ما أنا بقارئٍ. فأخَذَني فغَطَّني الثَّالِثةَ ثمَّ أرسَلَني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 1 - 3] )) [17] رواه البخاري (3) واللَّفظُ له، ومسلم (160). .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان خلْقُ الإنسانِ أوَّلَ النِّعَمِ الفائضةِ عليه من الله سبحانه وتعالَى، وأقدَمَ الدَّلائلِ الدَّالَّةِ على وُجودِه عزَّ وجلَّ وكَمالِ قُدرتِه وعِلمِه وحِكمتِه؛ وَصَفَ ذاتَه تعالَى بذلكَ أوَّلًا ليَستَشهِدَ عليه السَّلامُ بهِ على تَمكينِه تعالَى لَه مِنَ القِراءةِ [18] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/177). .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2).
أي: خَلَق الإنسانَ مِن دَمٍ غَليظٍ جامدٍ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/527)، ((تفسير القرطبي)) (20/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/438). .
كما قال تعالى: ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [القيامة: 38] .
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3).
أي: اقرَأْ -يا محمَّدُ- القُرآنَ، ورَبُّك ذو المحاسِنِ والمحامِدِ، الكامِلُ الصِّفاتِ، الكَثيرُ الخَيراتِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/527)، ((تفسير ابن عطية)) (5/502)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/293)، ((تفسير السعدي)) (ص: 930). قال ابنُ عطيَّة: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جهةِ التَّأنيسِ، كأنَّه يقولُ: امْضِ لِما أُمِرْتَ به، ورَبُّك ليس كهذه الأربابِ، بل هو الأكرَمُ الَّذي لا يَلحَقُه نَقصٌ، فهو يَنصُرُك ويُظهِرُك). ((تفسير ابن عطية)) (5/502). .
كما قال تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27] .
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4).
أي: الَّذي عَلَّم عِبادَه الخَطَّ بالقَلَمِ؛ فانتَفَعوا بالكِتابةِ نَفْعًا عَظيمًا [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/527)، ((تفسير القرطبي)) (20/120)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 930). .
كما قال تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم: 1] .
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَبَّه على ما في الكتابةِ مِنَ المنافِعِ الَّتي لا يُحيطُ بها غيرُه سُبحانَه وتعالى؛ لأنَّه انبَنَت عليها استقامةُ أُمورِ الدُّنيا والدِّينِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وهي كافيةٌ في الدَّلالةِ على دَقيقِ حِكمتِه تعالى، ولطيفِ تَدبيرِه- زاد ذلك عَظَمةً على وَجهٍ يَعُمُّ غَيرَه، فقال [22] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/160). :
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5).
أي: علَّم الإنسانَ العُلومَ والأشياءَ النَّافِعةَ الَّتي لم يكُنْ يَعلَمُها [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/532)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 930). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: عَلَّم الإنسانَ الخَطَّ بالقَلَمِ ولم يكُنْ يَعلَمُه، مع أشياءَ غَيرِ ذلك ممَّا عَلَّمَه ولم يكُنْ يَعلَمُه). ((تفسير ابن جرير)) (24/532). .
كما قال تبارك وتعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قَولِه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى أنَّ أوَّلَ السُّورةِ يدُلُّ على مَدحِ العِلمِ، وآخِرَها على مَذَمَّةِ المالِ، وكفى بذلك مُرَغِّبًا في الدِّينِ والعِلْمِ، ومُنَفِّرًا عن الدُّنيا والمالِ [24] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/221). .
2- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ تنبيهٌ على أنَّ العِلمَ أشرَفُ الصِّفاتِ الإنسانيَّةِ، كأنَّه تعالى يقولُ: الإيجادُ والإحياءُ والإقدارُ والرَّزقُ كَرَمٌ ورُبوبيَّةٌ، أمَّا الأكرَمُ فهو الَّذي أعطاك العِلمَ؛ لأنَّ العِلمَ هو النِّهايةُ في الشَّرَفِ [25] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/218). .
3- قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قولِه: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فافتتحَ سُبحانَه السُّورةَ -وهي أوَّلُ سورةٍ أنزَلها الله في كتابِه- بالأمْرِ بالقِراءةِ النَّاشئةِ عنِ العِلمِ، وذكَر فيها ما مَنَّ به على الإنسانِ مِن تعليمِه ما لم يعلَمْ، فذكَر فيها فضلَه بتعليمِه، وتفضيلَه الإنسانَ بما علَّمه إياه، وذلك يدلُّ على شَرَفِ التَّعليمِ والعِلمِ [26] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/58). .
4- في قَولِه تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ التَّنبيهُ على فَضيلةِ الكِتابةِ [27] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/218). ، وفيه إشارةٌ إلى الاهتمامِ بعِلمِ الكِتابةِ، وبأنَّ اللهَ يُريدُ أن يُكتَبَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَنزِلُ عليه مِن القُرآنِ؛ فمِن أجْلِ ذلك اتَّخَذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُتَّابًا للوَحيِ مِن مَبدأِ بَعثتِه [28] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/441). .
5- إنَّ دواءَ النِّسيانِ هو الكتابةُ؛ ولهذا امْتَنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادِه بها، فقال: اقْرَأْ، ثُمَّ قال: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يعني: اقرَأْ مِن حِفْظِك، فإنْ لَمْ يكُنْ فمِنْ قَلَمِك؛ فاللهُ تبارك وتعالى بَيَّنَ لنا كيف نُداوي هذه العِلَّةَ -وهي عِلَّةُ النِّسيانِ-، وذلك بأنْ نُداويَها بالكِتابةِ، والآنَ أصبَحَتِ الكتابةُ أدَقَّ مِن الأوَّلِ؛ لأنَّه وُجِدَ -بحمدِ اللهِ- الآنَ المُسجِّلُ [29] يُنظر: ((شرح المنظومة البيقونية)) لابن عثيمين (ص: 39). ، وغيرُه مِن الوسائلِ الحديثةِ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- جِيءَ في وَصْفِ الرَّبِّ بطَريقِ الموصولِ الَّذِي خَلَقَ؛ لأنَّ في ذلك استِدلالًا على انفرادِ اللهِ بالإلهيَّةِ؛ لأنَّ هذا القُرآنَ سيُتْلى على المشرِكين؛ لِما تُفيدُه المَوصوليَّةُ مِن الإيماءِ إلى عِلَّةِ الخبَرِ، وإذا كانت عِلَّةُ الإقبالِ على ذِكرِ اسمِ الرَّبِّ هي أنَّه خالقٌ، دلَّ ذلك على بُطلانِ الإقبالِ على ذِكرِ غيرِه الَّذي ليس بخالقٍ، فالمُشرِكون كانوا يُقْبِلون على اسمِ اللَّاتِ واسمِ العُزَّى، وكونُ اللهِ هو الخالقَ يَعترِفونَ به؛ قال تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، فلمَّا كان المَقامُ مَقامَ ابتِداءِ كِتابِ الإسلامِ دِينِ التَّوحيدِ، كان مُقتضيًا لذِكرِ أدلِّ الأوصافِ على وَحدانيَّتِه [30] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/507)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/437). .
2- قولُه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قولِه: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ هذا القَدْرُ مِن هذه السُّورةِ هو الَّذي نَزَلَ أوَّلًا بخِلافِ بقيَّةِ السُّورةِ، فإنَّما نَزَلَ بعدَ ذلك بزَمانٍ، والحكمةُ في هذه الأوَّليَّةِ أنَّ هذه الآياتِ الخَمسَ اشتَمَلتْ على مَقاصِدِ القرآنِ، ففيها بَراعةُ الاستِهلالِ [31] براعةُ الاستهلالِ: هي كَوْنُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ مِن أجْلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطَفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ، ومِن أحسَنِ صُوَرِ براعةِ الاستِهلالِ مَوقِعًا، وأبلَغِها معنًى: فواتحُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الحُروفُ المقطَّعةُ؛ فإنَّها تُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إلى ما يَرِدُ بعْدَها؛ لأنَّهم إذا سمِعوها مِن النَّبيِّ الأُمِّيِّ علِموا أنَّها والمَتْلُوَّ بعْدَها مِن جِهةِ الوحيِ، وفيها تنبيهٌ على أنَّ المَتلُوَّ عليهم مِن جِنسِ ما يَنظِمونَ منه كلامَهم، مع عَجْزِهم عن أنْ يأتوا بمِثلِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (1/53)، ((علوم البلاغة)) لأحمد المراغي (ص: 378). ، وهي جديرةٌ أنْ تُسَمَّى «عُنوانَ القُرآنِ»؛ لأنَّ عُنوانَ الكتابِ يجمَعُ مَقاصِدَه بعبارةٍ وجيزةٍ في أَوَّلِه، وبيانُ كَونِها اشتَمَلتْ على مَقاصِدِ القرآنِ أنَّها تنحَصِرُ في علومِ التَّوحيدِ والأحكامِ والأخبارِ، وقد اشتَمَلتْ على الأمرِ بالقراءةِ والبُداءةِ فيها بِـ «بِاسْمِ اللهِ»، وفي هذه الإشارةُ إلى الأحكامِ، وفيها ما يتعلَّقُ بتوحيدِ الرَّبِّ وإثباتِ ذاتِه وصِفاتِه مِن صفةِ ذاتٍ وصِفةِ فِعلٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى أُصولِ الدِّينِ، وفيها ما يتعلَّقُ بالأخبارِ مِن قولِه: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [32] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/718، 719). .
3- قَولُه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ استدَلَّ به مَن قال بوُجوبِ قراءةِ التَّسميةِ في ابتداءِ كُلِّ سُورةٍ، كما أنزَلَ اللهُ تعالى وأمَرَ به [33] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/168)، ((تفسير الرازي)) (32/215). ويُنظَرُ لتفصيلِ الكَلامِ في البَسْملةِ وما يَتَعلَّقُ بقِراءتِها، وهل هي آيةٌ مِن الفاتِحةِ ومِن كلِّ سورةٍ أو ليست كذلك: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (8/83). .
4- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ سُؤالٌ عن توجيهِ الأمرِ بالقِراءةِ إلى نبيٍّ أمِّيٍّ!
الجوابُ: لا تَعارُضَ فيه؛ لأنَّ القِراءةَ تكونُ مِن مَكتوبٍ، وتكونُ مِن مَتْلوٍّ، وهنا مِن مَتْلُوٍّ يَتلوه عليه جبريلُ عليه السَّلامُ، وهذا إبرازٌ للمُعجِزةِ أكثَرَ؛ لأنَّ الأمِّيَّ بالأمسِ صار مُعَلِّمًا اليومَ، وقد أشار السِّياقُ إلى نوعَيِ القِراءةِ هذَينِ؛ حيثُ جَمَع القراءةَ مع التَّعليمِ بالقَلَمِ [34] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/13). .
5- قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قَولِه: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ في الاقتِصارِ على أمرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقِراءةِ، ثمَّ إخبارِه بأنَّ اللهَ عَلَّم الإنسانَ بالقَلَمِ: إيماءٌ إلى استمرارِ صِفةِ الأمِّيَّةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّها وَصفٌ مُكَمِّلٌ لإعجازِ القُرآنِ؛ قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/441). [العنكبوت: 48] .
6- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قَولِه: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ جَمَعت هذه الآياتُ الخَمسُ مِن أوَّلِ السُّورةِ أُصولَ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ؛ فوَصفُ الرَّبِّ يتضَمَّنُ الوُجودَ والوحدانيَّةَ، ووَصفُ الَّذِي خَلَقَ ووَصْفُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يَقتَضيانِ صِفاتِ الأفعالِ، معَ ما فيه مِنَ الاستدلالِ القَريبِ على ثُبوتِ ما أُشيرَ إليه مِنَ الصِّفاتِ بما تَقتَضيه المَوصوليَّةُ مِن الإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخَبَرِ الَّذي يُذكَرُ معها، ووَصفُ الْأَكْرَمُ يتضمَّنُ صِفاتِ الكَمالِ، والتَّنزيهَ عن النَّقائِصِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/440). .
7- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أنَّه ما مِن شَيءٍ في السَّماءِ ولا في الأرضِ مِن خَفيٍّ وظاهرٍ وصَغيرٍ وكَبيرٍ إلَّا وهو مخلوقٌ للهِ عزَّ وجَلَّ؛ ولهذا قال: خَلَقَ وحَذَفَ المفعولَ؛ إشارةً للعُمومِ؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ يفيدُ العُمومَ؛ إذْ لو ذَكَرَ المفعولَ لَتَقَيَّدَ الفِعلُ به، لو قال: خَلَقَ كذا، تَقَيَّدَ الخَلْقُ بما ذُكِرَ فقط، لكنْ إذا قال: خَلَقَ وأَطْلَقَ، صار عامًّا، فهو خالقُ كلِّ شيءٍ جلَّ وعَلا [37] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 257). .
8- قولُه تبارك وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ تنبيهٌ على أنَّ الرَّبَّ معروفٌ عندَ المخاطَبينَ، وأنَّ الفِطرةَ مُقِرَّةٌ به [38] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/339). .
9- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ دَلالةٌ على أنَّ القَولَ بأنَّ المعرِفةَ لا تحصُلُ إلَّا بالنَّظَرِ: غَلَطٌ؛ فإنَّ أوَّلَ ما أوجَبَ اللهُ على رَسولِه وعلى المؤمِنينَ هو ما أَمَرَ به في الآيةِ الكريمةِ هنا، والَّذين قالوا: المعرِفةُ لا تحصُلُ إلَّا بالنَّظَرِ قالوا: لو حَصَلتْ بغَيرِه لَسَقَطَ التَّكليفُ بها، فيُقالُ لهم: وليس فيما قَصَّ اللهُ علينا مِن أخبارِ الرُّسُلِ أنَّ منهم أحدًا أَوجَبَها، بل هي حاصِلةٌ عندَ الأُمَمِ جَميعِهم [39] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/332). .
10- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وفي قَولِه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ دَلالةٌ على ثُبوتِ صِفاتِ الكَمالِ له سُبحانَه، وأنَّه لم يَزَلْ مُتَّصِفًا بها [40] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/368). .
11- في قَولِه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ جُعِلَت العَلَقةُ مَبدَأَ الخَلْقِ، ولم تُجعَلِ النُّطْفةُ مَبدأَ الخَلْقِ؛ لأنَّ النُّطفةَ اشتَهَرت في ماءِ الرَّجُلِ، فلو لم تُخالِطْه نُطفةُ المرأةِ لم تَصِرِ العَلَقةُ، فلا يتخَلَّقُ الجنينُ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ خَلْقَ الإنسانِ مِن عَلَقٍ ثمَّ مَصيرَه إلى كَمالِ أشُدِّه هو خَلْقٌ يَنطوي على قُوًى كامِنةٍ، وقابِليَّاتٍ عَظيمةٍ، أقصاها قابِليَّةُ العِلمِ والكِتابةِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/438). .
وأيضًا وقَعَتِ الإشارةُ إلى «العَلَقةِ» دونَ «النُّطْفةِ»؛ لأنَّه ليس كلُّ نُطْفةٍ تصيرُ ولَدًا، وذلك بعدَ الأربعينَ الأُولى في أوَّلِ الطَّورِ الثَّاني؛ ولهذا -واللهُ أعلمُ- وقعتِ الإشارةُ إليه في أوَّلِ سُورةٍ أنزَلَها على رَسولِه؛ إذْ خَلْقُه مِن عَلَقةٍ هو أوَّلُ مَبدأِ الإنسانيَّةِ، وحينَئذٍ يُكتَبُ رِزْقُه وأَجَلُه وعَمَلُه، وشَقاوتُه أو سَعادتُه [42] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 74). .
12- في قَولِه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ سُؤالٌ: أنَّه بَيَّنَ سُبحانَه في آياتٍ أُخرى أنَّه خَلَقَ الإنسانَ مِن تُرابٍ، وفي آياتٍ أخرى: خَلَقَه مِن طينٍ، وفي آياتٍ أخرى: مِن صَلْصالٍ كالفَخَّارِ، وفي آياتٍ أُخرى: مِن ماءٍ دافقٍ، وفي آياتٍ أخرى: مِن ماءٍ مَهِينٍ، وفي هذه الآيةِ: مِن عَلَقٍ، فهل في هذا تناقُضٌ؟
 الجوابُ: ليس هناك تناقُضٌ، لكِنَّ الله سُبحانَه وتعالى يَذْكُرُ أحيانًا مَبدأَ الخَلْقِ مِن وجهٍ، ومَبدأَ الخَلْقِ مِن وَجهٍ آخَرَ؛ فخَلْقُه مِن ترابٍ لأنَّ أوَّلَ ما خُلِقَ الإنسانُ مِن التُّرابِ، ثُمَّ صُبَّ عليه الماءُ فكان طينًا، ثُمَّ استمرَّ مُدَّةً فكان حَمَأً مَسْنونًا، ثُمَّ طالتْ مُدَّتُه فكان صَلْصالًا، ثُمَّ خَلَقَه عزَّ وجلَّ لحمًا وعَظْمًا وعَصَبًا... إلى آخِرِه، هذا ابتِداءُ الخَلْقِ المتعلِّقِ بآدمَ. والخَلْقُ الآخرُ مِن بَنِيه أوَّلُ مَنْشَئِهم مِن نُطْفةٍ، وهي الماءُ المَهِينُ، وهي الماءُ الدَّافِقُ، هذه النُّطْفةُ تبقى في الرَّحِمِ أربعينَ يومًا، ثُمَّ تتحَوَّلُ شيئًا فشَيئًا، وبتَمامِ الأربعينَ تتقَلَّبُ بالتَّطوُّرِ والتَّدريجِ حتَّى تكونَ دَمًا عَلَقةً [43] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 258). .
13- في قَولِه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ أنَّ مِن إعجازِ القُرآنِ العِلميِّ ذِكْرَ العَلَقةِ؛ لأنَّ الثَّابتَ في العِلمِ الآنَ أنَّ الإنسانَ يَتخلَّقُ مِن بُويضةٍ دَقيقةٍ جِدًّا لا تُرى إلَّا بالمِرآةِ المُكبِّرةِ أضعافًا، ولا تَقبَلُ التَّخلُّقَ حتَّى تُخالِطَها نُطفةُ الرَّجُلِ، فتَمتزِجَ معها، فَتأخُذَ في التَّخلُّقِ إذا لم يَعُقْها عائقٌ، كما قال تعالَى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج: 5] ، فإذا أخَذَت في التَّخلُّقِ والنُّموِّ امتَدَّ تَكوُّرُها قَليلًا، فشابَهَت العَلَقةَ الَّتي في الماءِ مُشابَهةً تامَّةً في دِقَّةِ الجِسمِ وتَلوُّنِها بلَونِ الدَّمِ الَّذي هي سابحةٌ فيه، وفي كَونِها سابحةً في سائلٍ كما تَسبَحُ العَلَقةُ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/438). والمَعروفُ أنَّ العَلَقةَ -وهي الطَّورُ الثَّاني الَّذي تَنتَقِلُ إليه النُّطْفةُ- أهَمُّ ما يُميِّزُها في هذه المَرحَلةِ هو التَّعلُّقُ، فوَصْفُ العَلَقةِ العالِقةِ بجِدارِ الرَّحِمِ والمُحاطةِ بالدَّمِ المُتَجمِّدِ هو أَدَقُّ وَصْفٍ لهذه المَرْحلةِ؛ ففيها جُمْلةُ تَعلُّقاتٍ. يُنظر: ((خلق الإنسان)) للبار (ص: 367). .
14- قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ فالقادِرُ على إيجادِ إنسانٍ في أحسنِ تقويمٍ مِن هذه العلقةِ، قادرٌ على جعلِك قارئًا وإن لم تكُنْ تعلَمُ القراءةَ مِن قبلِ، كما أوجَد الإنسانَ مِن تلك العلقةِ ولم يكُنْ موجودًا مِن قبلُ، ولأنَّ الذي يتعهَّدُ تلك العلقةَ حتَّى تكتمِلَ إنسانًا يتعهَّدُها بالرِّسالةِ [45] يُنظر: ((تتمة الأضواء)) لعطية سالم (9/15، 16). .
15- في قَولِه تعالى: مِنْ عَلَقٍ إشارةٌ إلى ما ينطوي في أصلِ خَلْقِ الإنسانِ مِن بَديعِ الأطوارِ والصِّفاتِ الَّتي جعَلَتْه سُلطانَ هذا العالَمِ الأرضيِّ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/438). .
16- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ مجيءُ الوَصفِ هنا بـ الْأَكْرَمُ بدلًا مِن أيِّ صِفةٍ أُخرى؛ لِما في هذه الصِّفةِ مِن تلاؤُمٍ للسِّياقِ ما لا يُناسِبُ مَكانَها غَيرُها؛ لعِظَمِ العَطاءِ، وجَزيلِ المِنَّةِ؛ فأوَّلًا: رحمةُ الخليقةِ بهذه القراءةِ الَّتي ربَطَت العِبادَ برَبِّهم، وكفى. وثانيًا: نِعمةُ الخَلْقِ والإيجادِ؛ فهما نِعمتانِ مُتكامِلَتانِ: الإيجادُ مِنَ العَدَمِ بالخَلْقِ، والإيجادُ الثَّاني مِن الجَهلِ إلى العِلمِ، ولا يكونُ هذا كُلُّه إلَّا مِن الرَّبِّ الأكرَمِ سُبحانَه [47] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/17). .
17- في قَولِه تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ سمَّى اللهُ ووَصَفَ نفْسَه بالكَرَمِ، وبأنَّه الأكرَمُ بعدَ إخبارِه أنَّه خَلَقَ؛ لِيُتبيَّنَ أنَّه يُنْعِمُ على المخلوقينَ ويُوصِلُهم إلى الغاياتِ المحمودةِ، كما قال في موضعٍ آخَرَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 2-3] ، وكما قال موسى عليه السَّلامُ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] ، وكما قال الخليلُ عليه السَّلامُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] ، فالخَلْقُ يتضمَّنُ الابتداءَ، والكَرَمُ يتضمَّنُ الانتهاءَ، وكما قال في أمِّ القُرآنِ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثمَّ قال الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، ولَفظُ الكَرَمِ لَفظٌ جامِعٌ للمحاسِنِ والمحامِدِ، لا يُرادُ به مجرَّدُ الإعطاءِ، بل الإعطاءُ مِن تمامِ معناه؛ فإنَّ الإحسانَ إلى الغيرِ تمامُ المحاسِنِ، والكَرَمُ كثرةُ الخَيرِ ويُسْرتُه [48] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/293). .
18- قَولُه تعالى: الْأَكْرَمُ يَقتضي اتِّصافَه بالكَرَمِ في نفْسِه، وأنَّه الأكرَمُ، وأنَّه مُحْسِنٌ إلى عبادِه؛ فهو مُستحِقٌّ للحَمدِ لمحاسِنِه وإحسانِه [49] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/317). .
19- في قَولِه تعالى: الْأَكْرَمُ أخبَرَ أنَّه «الأكرَمُ» بصيغةِ التَّفضيلِ والتَّعريفِ لها؛ فدلَّ على أنَّه الأكرَمُ وَحْدَه، بخلافِ ما لو قال: «وربُّك أكرَمُ»؛ فإنَّه لا يدُلُّ على الحَصرِ، وقَولُه: الْأَكْرَمُ يدُلُّ على الحَصرِ، ولم يَقُلْ: «الأكرَمُ مِن كذا»، بل أطلَقَ الاسمَ؛ لِيُبيِّنَ أنَّه الأكرمُ مطلقًا غيرَ مُقيَّدٍ؛ فدلَّ على أنَّه متَّصِفٌ بغايةِ الكَرَمِ الَّذي لا شيءَ فوقَه، ولا نَقْصَ فيه [50] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/295). .
20- في قَولِه تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ سؤالٌ: أنَّه إذا كان تعالى تمدَّح بأنَّه عَلَّم بالقَلَمِ، وفي ذلك إشادةٌ بشأنِ القَلَمِ، فلماذا لم يكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كاتِبًا به، ولا مِن أهْلِه، بل كان أمِّيًّا لا يقرَأُ ولا يكتُبُ؟!
الجوابُ مِن جِهَتينِ:
الأُولى: أنَّه أكمَلُ للمُعجِزةِ؛ حيث أصبحَ النَّبيُّ الأمِّيُّ مُعَلِّمًا، كما قال الله سبحانه وتعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164] .
الثَّانيةُ: أنَّه لم يكُنْ هذا النَّبيُّ الأمِّيُّ مُغفِلًا شأنَ القَلَمِ، بل عُنِيَ به كُلَّ العنايةِ، وأوَّلُها وأعظَمُها أنَّه اتَّخذ كُتَّابًا للوَحْيِ يَكتُبونَ ما يُوحى إليه بيْن يَدَيه، مع أنَّه يَحفَظُه ويَضبِطُه، وتعهَّدَ اللهُ له بحِفْظِه وبضَبْطِه [51] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/18، 19). .
21- قولُه تعالى: الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كأنَّه ليس وَراءَ التَّكرُّمِ بإفادةِ الفوائدِ العِلميَّةِ تَكرُّمٌ؛ فدَلَّ على كَمالِ كَرَمِه بأنَّه علَّمَ عِبادَه ما لم يَعلَموا، ونَقَلَهم مِن ظُلمةِ الجهْلِ إلى نُورِ العِلمِ، ونبَّهَ على فَضلِ عِلمِ الكتابةِ؛ لِما فيه مِن المنافعِ العَظيمةِ الَّتي لا يُحيطُ بها إلَّا هو، وما دُوِّنَت العلومُ، ولا قُيِّدَت الحِكَمُ، ولا ضُبِطَت أخبارُ الأوَّلينَ ولا مَقالاتُهم ولا كُتبُ اللهِ المُنزَّلةِ؛ إلَّا بالكتابةِ، ولولا هي لَما استَقامَتْ أُمورُ الدِّينِ والدُّنيا، ولو لم يكُنْ على دَقيقِ حِكمةِ اللهِ تعالَى ولَطيفِ تَدبيرِه دَليلٌ إلَّا أمْرَ الخطِّ والقلَمِ؛ لَكفى به [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/776)، ((تفسير أبي حيان)) (10/507). .
22- قال تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وقد حَصَلَت مِن ذِكرِ التَّعليمِ بالقلَمِ والتَّعليمِ الأعمِّ، إشارةٌ إلى ما يَتلقَّاهُ الإنسانُ مِن التَّعاليمِ، سواءٌ أكان بالدَّرسِ أمْ بمُطالَعةِ الكُتبِ، وأنَّ تَحصيلَ العلومِ يَعتمِدُ أُمورًا ثلاثةً:
أحدُها: الأخْذُ عن الغيرِ بالمراجَعةِ والمُطالَعةِ، وطَريقُهما الكتابةُ وقِراءةُ الكتبِ؛ فإنَّ بالكتابةِ أمكَنَ للأُمَمِ تَدوينُ آراءِ عُلماءِ البشَرِ، ونَقْلُها إلى الأقطارِ النَّائيةِ، وفي الأجيالِ الجائيةِ.
والثَّاني: التَّلقِّي مِن الأفواهِ بالدَّرسِ والإملاءِ.
والثَّالثُ: ما تَنقدِحُ به العقولُ مِن المُستنبَطاتِ والمخترَعاتِ، وهذانِ داخلانِ تحتَ قولِه تعالَى: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وفي ذلك اطمئنانٌ لنفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ عَدَمَ مَعرفتِه الكتابةَ لا يَحولُ دونَ قِراءتِه؛ لأنَّ اللهَ علَّمَ الإنسانَ ما لم يَعلَمْ، فالَّذي علَّمَ القراءةَ لأصحابِ المعرفةِ بالكتابةِ قادرٌ على أنْ يُعلِّمَك القراءةَ دونَ سَبْقِ مَعرفةٍ بالكتابةِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/441). .
23- قال تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ذكَرَ التَّعليمَ بالقلَمِ الَّذي هو مِن أعظَمِ نِعَمِه على عبادِه؛ إذ به تَخلُدُ العُلومُ، وتَثبُتُ الحقوقُ، وتُعلَمُ الوصايا، وتُحفَظُ الشَّهاداتُ، ويُضبَطُ حِسابُ المعاملاتِ الواقعةِ بيْن النَّاسِ، وبه تُقَيَّدُ أخبارُ الماضينَ للباقينَ اللَّاحِقينَ، ولولا الكتابةُ لَانقطَعَت أخبارُ بَعضِ الأزِمنةِ عن بعضٍ، ودَرَسَت السُّنَنُ، وتخَبَّطَت الأحكامُ، ولم يَعرِفِ الخَلَفُ مَذاهِبَ السَّلَفِ، وكان مُعظَمُ الخَلَلِ الدَّاخِلِ على النَّاسِ في دينِهم ودُنياهم إنَّما يَعتريهم مِن النِّسيانِ الَّذي يمحو صُوَرَ العِلمِ مِن قُلوبِهم، فجَعَل لهم الكتابَ وِعاءً حافِظًا للعِلمِ مِنَ الضَّياعِ، كالأوعيةِ الَّتي تحفَظُ الأمتعةَ مِنَ الذَّهابِ والبُطلانِ؛ فنِعمةُ اللهِ عزَّ وجَلَّ بتعليمِ القَلَمِ بعدَ القرآنِ مِن أجَلِّ النِّعَمِ [54] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/278، 279). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
- لم يُذكَرْ لفِعلِ اقْرَأْ مَفعولٌ؛ إمَّا لأنَّه نُزِّلَ مَنزلةَ اللَّازمِ وأنَّ المَقصودَ: أَوجِدِ القراءةَ، وإمَّا لظُهورِ المَقروءِ مِن المَقامِ، وتَقديرُه: اقرَأْ ما سنُلْقِيه إليك مِن القرآنِ [55] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/506)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/436). .
- وقولُه: بِاسْمِ رَبِّكَ فيه وُجوهٌ؛ أوَّلُها: أنْ يكونَ افتتاحَ كَلامٍ بعْدَ جُملةِ اقْرَأْ وهو أوَّلُ المَقروءِ، أي قُلْ: باسمِ اللهِ، فتَكونَ الباءُ للاستعانةِ، فيَجوزُ تَعلُّقُه بمَحذوفٍ تَقديرُه: ابتَدِئْ، ويَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بـ اقْرَأْ الثَّاني، فيَكونَ تَقديمُه على مَعمولِه للاهتمامِ بشَأنِ اسمِ اللهِ، ومعْنى الاستعانةِ باسمِ اللهِ ذِكرُ اسمِه عِندَ هذه القِراءةِ، وإقحامُ كَلمةِ (اسم)؛ لأنَّ الاستعانةَ بذِكرِ اسمِه تعالَى لا بِذاتِه، وهذا الوجْهُ يَقْتضي أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (باسمِ اللهِ) حِينَ تَلقَّى هذه الجُملةَ.
الثَّاني: أنْ تكونَ الباءُ للمُصاحَبةِ، ويكونَ المَجرورُ في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ اقْرَأْ الثَّاني مُقدَّمًا على عامِلِه للاختصاصِ، أي: اقرَأْ ما سَيُوحى إليك مُصاحِبًا قِراءتَك (اسْم ربِّك)، فالمُصاحَبةُ مُصاحَبةُ الفَهمِ والملاحظةِ لجَلالِه، ويكونَ هذا إثباتًا لوَحدانيَّةِ اللهِ بالإلهيَّةِ، وإبطالًا للنِّداءِ باسمِ الأصنامِ الَّذي كان يَفعَلُه المشرِكون؛ يَقولون: باسمِ اللَّاتِ، باسمِ العُزَّى، فهذا أوَّلُ ما جاء مِن قَواعدِ الإسلامِ قدِ افتُتِحَ به أوَّلُ الوحْيِ.
الثَّالثُ: أنْ تكونَ الباءُ بمعْنى (على)، كقولِه تعالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ [آل عمران: 75] ، أي: على قِنطارٍ، والمعْنى: اقرَأْ على اسمِ ربِّك، أي: على إذْنِه، أي: إنَّ المَلَكَ جاءك على اسمِ ربِّك، أي: مُرسَلًا مِن ربِّك، فذِكرُ (اسم) على هذا مُتعيِّنٌ [56] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/506)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/436). .
- قولُه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ جاءَ باسمِ ربِّك، ولم يأتِ بلَفظِ الجَلالةِ؛ لِمَا في لفْظِ الرَّبِّ مِن معنى الَّذي ربَّاك ونظَر في مصلحتِك؛ فعُدِلَ عن اسْمِ اللهِ العَلَمِ إلى صِفةِ رَبِّكَ؛ لِما يُؤذِنُ وَصْفُ الرَّبِّ مِن الرَّأفةِ بالمَربوبِ والعِنايةِ به، مع ما يَتأتَّى بذِكرِه مِن إضافتِه إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إضافةً مُؤذِنةً بتَبْليغِه عليه السَّلامُ إلى الغايةِ القاصيةِ مِنَ الكَمالاتِ البَشريَّةِ بإنْزالِ الوَحيِ المُتواتِرِ، وأنَّه المُنفرِدُ برُبوبيَّتِه عندَه، ردًّا على الَّذين جَعَلوا لأنفُسِهم أربابًا مِن دُونِ اللهِ، فجاء الخِطابُ رَبِّكَ؛ ليدُلَّ على الاختصاصِ والتَّأنيسِ، أي: ليس لك رَبٌّ غيرُه [57] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/506، 507)، ((تفسير أبي السعود)) (9/177)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/437). .
- ووَصْفُ الربِّ بقَولِه تعالَى: الَّذِي خَلَقَ لتَذكيرِ أوَّلِ النَّعماءِ الفائضةِ على الإنسانِ من الله تعالَى، والتَّنبيهِ على أنَّ مَنْ قدَرَ عَلى خلْقِ الإنسانِ على ما هو عليه مِن الحياةِ وما يَتْبَعُها مِنَ الكَمالاتِ العِلميَّةِ والعَمَليَّةِ، مِن مادَّةٍ لم تَشَمَّ رائحةَ الحياةِ فضْلًا عن سائرِ الكَمالاتِ؛ قادرٌ على تَعليمِ القراءةِ للحيِّ العالِمِ المُتكلِّمِ [58] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/177). .
- وكذلك في قولِه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لم يَذكُرْ مَفعولَ خَلَقَ الأوَّلِ، ثمَّ قال: خَلَقَ الْإِنْسَانَ؛ وذلك إمَّا ألَّا يُقدَّرَ له مَفعولٌ لتَنزيلِ الفِعلِ مَنزلةَ اللَّازمِ، أي: الَّذي هو الخالقُ، وأنْ يُرادَ أنَّه الَّذي حَصَلَ منه الخلْقُ واسْتأثَرَ به، لا خالقَ سِواهُ، وإمَّا أنْ يُقدَّرَ له مَفعولٌ، ويُرادَ: خَلَقَ كلَّ شَيءٍ، فيَتناوَلَ كلَّ مَخلوقٍ؛ لأنَّه مُطلَقٌ، فليس بَعضُ المخلوقاتِ أَولى بتَقديرِه مِن بَعضٍ، ويكونَ قولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ تَخصيصًا للإنسانِ بالذِّكرِ مِن بيْنِ ما يَتناوَلُه الخلْقُ؛ لأنَّ التَّنزيلَ إليه، وهو أشرَفُ ما على الأرضِ، وأظهَرُ صُنْعًا وتَدْبيرًا، وأدَلُّ على وُجوبِ العبادةِ المقصودةِ مِن القراءةِ، أو أنْ يكونَ تَقديرُه: الَّذي خَلَقَ الإنسانَ؛ اعتمادًا على ما يَرِدُ بعْدَه مِن قولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ، فقيل: الَّذِي خَلَقَ مُبهَمًا، ثمَّ فسَّرَه بقولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ؛ تَفخيمًا لخلْقِ الإنسانِ، ودَلالةً على عَجيبِ فِطرتِه [59] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/775)، ((تفسير البيضاوي)) (5/325)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/509)، ((تفسير أبي حيان)) (10/507)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 619)، ((تفسير أبي السعود)) (9/177)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/437). .
- وجُملةُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ يَجوزُ أنْ تكونَ بدَلًا مِن جُملةِ الَّذِي خَلَقَ بدَلَ مُفصَّلٍ مِن مُجمَلٍ، إنْ لم يُقدَّرْ له مَفعولٌ، أو بدَلَ بَعضٍ، إنْ قُدِّرَ له مَفعولٌ عامٌّ، وسُلِكَ طَريقُ الإبدالِ؛ لِما فيه مِن الإجمالِ ابتداءً لإقامةِ الاستِدلالِ على افتقارِ المَخلوقاتِ كلِّها إليه تعالَى؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ الشُّروعِ في تَأسيسِ مِلَّةِ الإسلامِ، ففي الإجمالِ إحضارٌ للدَّليلِ مع الاختصارِ، مع ما فيه مِن إفادةِ التَّعميمِ، ثمَّ يكونُ التَّفصيلُ بعْدَ ذلك لزِيادةِ تَقريرِ الدَّليلِ، ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ بَيانًا مِن الَّذِي خَلَقَ إذا قُدِّرَ لفِعلِ خَلَقَ الأوَّلِ مَفعولٌ دلَّ عليه بَيانُه، فيَكونَ تَقديرُ الكلامِ: اقرَأْ باسمِ ربِّك الَّذي خَلَقَ الإنسانَ مِن عَلَقٍ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/437). .
- وخُصَّ خلْقُ الإنسانِ بالذِّكرِ مِن بيْنِ بَقيَّةِ المخلوقاتِ؛ لأنَّه المُطَّردُ في مَقامِ الاستدلالِ؛ إذ لا يَغفُلُ أحدٌ مِن النَّاسِ عن نفْسِه، ولا يَخْلو مِن أنْ يَخطُرَ له خاطرُ البحثِ عن الَّذي خَلَقَه وأوجَدَه؛ ولذلك قال تعالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، وفيه تَعريضٌ بتَحميقِ المشرِكين الَّذين ضلُّوا عن تَوحيدِ اللهِ تعالَى مع أنَّ دَليلَ الوَحدانيَّةِ قائمٌ في أنفُسِهم [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/438). !
- قولُه: مِنْ عَلَقٍ، أيْ: دمٍ جامدٍ؛ لبَيانِ كَمالِ قُدرتِه تعالَى بإظهارِ ما بيْن حالتِه الأُولى والآخرةِ مِن التَّبايُنِ البَيِّنِ. وإيرادُه بلَفْظِ الجمْعِ؛ لأنَّ الإنسانَ في معنى الجَمعِ، كقولِه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] ، ولمُراعاةِ الفَواصلِ. ولعلَّه هو السِّرُّ في تَخصيصِه بالذِّكرِ مِن بيْنِ سائرِ أطْوارِ الفِطرةِ الإنسانيَّةِ، مع كَونِ النُّطفةِ والتُّرابِ أدَلَّ منْه على كَمالِ القُدرةِ؛ لكَونِهما أبعَدَ منْهُ بالنِّسبةِ إلى الإنسانيَّةِ [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/775، 776)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 619)، ((تفسير أبي السعود)) (9/177). .
- وقيل: إنَّما ذُكِرَ مَن خُلِقَ مِن عَلَقٍ؛ لأنَّهم مُقِرُّون به، ولم يُذكَرْ أصْلُهم آدَمُ؛ لأنَّه ليس مُتقرِّرًا عندَ الكفَّارِ، فسِيقَ الفرْعُ، وتُرِكَ أصْلُ الخِلقةِ تَقريبًا لأفهامِهِم [63] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/507). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الألوسي)) (15/401- 402). .
2- قولُه تعالَى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
- قولُه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ جاء الأمرُ بالقِراءةِ ثانيًا تَأنيسًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كأنَّه قِيل: امْضِ لِما أُمِرْتَ به، وربُّك ليس مِثلَ هذه الأربابِ، بلْ هو الأكرَمُ الَّذي لا يَلحَقُه نقْصٌ [64] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/507). . وقيل: قولُه: اقْرَأْ، أي: افعَلْ ما أُمِرْتَ به؛ تَكرَّرَ للمُبالَغةِ، وتَأكيدًا للإيجابِ، وتَمهيدًا لِما يَعقُبُه مِن قولِه تعالَى: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ... إلخ؛ ففِعلُ اقْرَأْ الثَّاني تأكيدٌ لـ اقْرَأْ الأوَّلِ؛ للاهتمامِ بهذا الأمرِ. وقيل: الأوَّلُ مطلقٌ، والثَّاني للتَّبليغِ أو في الصَّلاةِ [65] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/178)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/439)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/529). وقال ابن عثيمين: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ اقْرَأْ تَكرارٌ للأُولى، لكِنْ هل هي توكيدٌ أو هي تأسيسٌ؟ الصَّحيحُ أنَّها تأسيٌس، وأنَّ الأُولى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ قُرِنَت بما يتعَلَّقُ بالرُّبوبيَّةِ، و اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ قُرِنَت بما يتعَلَّقُ بالشَّرعِ؛ ... لأنَّ التَّعليمَ بالقَلَمِ أكثَرُ ما يعتَمِدُ الشَّرعُ عليه؛ إذ إنَّ الشَّرعَ يُكتَبُ ويُحفَظُ، والقُرآنَ يُكتَبُ ويُحفَظُ، والسُّنَّةَ تُكتَبُ وتُحفَظُ، وكلامَ العُلَماءِ يُكتَبُ ويُحفَظُ؛ فلهذا أعادها اللهُ مرَّةً ثانيةً). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 259). .
- قولُه: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ جُملةٌ مَعطوفةٌ على جُملةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، فلها حُكْمُ الاستئنافِ، و(رَبُّكَ) مُبتدَأٌ، وخَبرُه إمَّا الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، وإمَّا جُملةُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وهذا الاستِئنافُ بَيانيٌّ، فإذا نَظَرْتَ إلى الآيةِ مُستقِلَّةً عمَّا تَضمَّنَه حَديثُ عائشةَ رضيَ الله عنها في وَصْفِ سَببِ نُزولِها، كان الاستِئنافُ ناشئًا عن سُؤالٍ يَجيشُ في خاطرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَقولَ: كيف أقرَأُ وأنا لا أُحسِنُ القراءةَ والكتابةَ؟ فأُجِيبَ بأنَّ الَّذي علَّمَ القراءةَ بواسطةِ القَلَمِ -أي: بواسطةِ الكِتابةِ- يُعلِّمُك ما لم تَعلَمْ، وإذا قرَنْتَ بيْن الآيةِ وبيْن الحديثِ المذكورِ، كان الاستئنافُ جَوابًا عن قولِه لجِبريلَ: ((ما أنا بقارئٍ)) [66] أخرجه البخاري (4953)، ومسلم (160). ؛ فالمعْنى: لا عَجَبَ في أنْ تَقرَأَ وإنْ لم تكُنْ مِن قبْلُ عالِمًا بالقِراءةِ؛ إذ العِلمُ بالقِراءةِ يَحصُلُ بوَسائلَ أُخرَى، مِثلُ الإمْلاءِ والتَّلقينِ والإلهامِ، وقد علَّمَ اللهُ آدَمَ الأسماءَ ولم يكُنْ آدَمُ قارئًا [67] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/178)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/439). .
- ووصْفُ الْأَكْرَمُ قيل: إنَّه مَصوغٌ للدَّلالةِ على قوَّةِ الاتِّصافِ بالكرَمِ، وليس مَصوغًا للمُفاضَلةِ، فهو مَسلوبُ المُفاضَلةِ، وقيل: هو على ظاهرِه، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ لقصدِ العمومِ [68] يُنظر: ((حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي))(8/ 378)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/439). .
- ومَفعولَا عَلَّمَ بِالْقَلَمِ مَحذوفانِ دلَّ عليهما قولُه: بِالْقَلَمِ؛ إذ المَقصودُ إسنادُ التَّعليمِ إلى اللهِ تعالَى، وتَقديرُهما: علَّم الكاتِبينَ، أو علَّمَ ناسًا الكتابةَ [69] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/508)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/440). . وفي حذْفِ المفعولِ أوَّلًا، وإيرادِه بعُنوانِ عدَمِ المَعلوميَّةِ ثانيًا مِن الدَّلالةِ على كَمالِ قُدرتِه تعالَى، وكَمالِ كَرَمِه، والإشعارِ بأنَّه تعالَى يُعلِّمُه مِن العلومِ ما لا تُحيطُ بِه العقولُ؛ ما لا يَخْفى [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/178). .
- ومُقْتضَى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ: (وعلَّمَ بالقلَمِ)، فعُدِلَ عن الإضمارِ؛ لتَأكيدِ ما يُشعِرُ به (ربُّك) مِن العِنايةِ المُستفادةِ مِن قولِه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وأنَّ هذه القِراءةَ شَأنٌ مِن شُؤونِ الرَّبِّ، اختَصَّ بها عَبْدَه؛ إتمامًا لنِعمةِ الرُّبوبيَّةِ عليه، وليَجرِيَ على لَفظِ الرَّبِّ وَصْفُ الْأَكْرَمُ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/439). .
- وقيل: تَخصيصُ هذه الصِّلةِ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ بالذِّكرِ، وجَعْلُها مُعترِضةً بيْنَ المُبتدأِ وَرَبُّكَ والخبَرِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ؛ للإيماءِ إلى إزالةِ ما خَطَرَ ببالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَعذُّرِ القِراءةِ عليه؛ لأنَّه لا يَعلَمُ الكِتابةَ، فكيفَ القِراءةُ؟! إذ قال للمَلَكِ: ((ما أنا بقارئٍ)) ثَلاثَ مرَّاتٍ؛ لأنَّ قولَه: ((ما أنا بقارئٍ)) اعتذارٌ عن تَعذُّرِ امتثالِ أمْرِه بقولِه: اقْرَأْ؛ فالمعْنى: أنَّ الَّذي علَّمَ النَّاسَ الكتابةَ بالقَلَمِ والقراءةَ قادِرٌ على أنْ يُعلِّمَك القراءةَ وأنت لا تَعلَمُ الكِتابةَ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/440). .
- وقولُه: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بدَلُ اشتمالٍ [73] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ(خُلُقُه) بَدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) لابن مالك (3/ 249). مِن عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، أي: علَّمَه بهِ وبدُونِه مِنَ الأمورِ الكُلِّيَّةِ والجُزئيَّةِ، والجَليَّةِ والخَفيَّةِ ما لم يَخطُرْ ببالِه [74] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/178). قال أبو العباسِ القرطبي: (مَا لإبهامِها للعمومِ؛ إذ الله تعالى علَّم كلَّ واحدٍ مِن نوعِ الإنسانِ ما لم يكُنْ يعلَمُ، لكنَّ الامتنانَ إنَّما يحصُلُ بالعلومِ النَّافعةِ لا غيرُ، فهي المقصودةُ بهذا العمومِ، والله أعلمُ). ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (7/433). .
- وتَعريفُ الْإِنْسَانَ يَجوزُ أنْ يكونَ تَعريفَ الجِنسِ، فيكونَ ارتقاءً في الإعلامِ بما قدَّرَه اللهُ تعالَى مِن تَعليمِ الإنسانِ بتَعميمِ التَّعليمِ بعْدَ تَخصيصِ التَّعليمِ بالقلَمِ، فعدَّدَ عليه اكتسابَ العُلومِ بعْدَ الجهْلِ بها [75] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/508)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/441). .
- وفيه ترتيبٌ حسنٌ بديعٌ، حيثُ عدَّدَ سُبحانه وتعالَى مَبدَأَ أمْرِ الإنسانِ ومُنتهاهُ إظهارًا لِما أنْعَمَ عليه؛ مِن أنْ نَقَلَه مِن أخسِّ المَراتبِ إلى أعْلاها؛ تَقريرًا لرُبوبيَّتِه، وتَحقيقًا لِأكْرَميَّتِه، وأشار أوَّلًا إلى ما يدُلُّ على مَعرفتِه عقْلًا، ثمَّ نبَّهَ على ما يدُلُّ عليها سَمْعًا [76] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/325). .