موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (24-26)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الدَّهْرُ: أي: مَرُّ الزَّمانِ، وطُولُ العُمُرِ، واختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ، وأصلُ (دهر): يدُلُّ على الغَلَبةِ والقَهرِ، وسُمِّيَ الدَّهرُ دَهرًا؛ لأنَّه يأتي على كُلِّ شَيءٍ ويَغلِبُه [296] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 405)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 221)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/305)، ((المفردات)) للراغب (ص: 319)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 351). .
رَيْبَ: الرَّيبُ: الشَّكُّ، أو هو الشَّكُّ معَ الخَوفِ، ومعَ تُهمَةِ المشكوكِ فيه، وتوهُّم أمْرٍ ما بالشَّيءِ، والرَّيبُ مصدرُ: رابَني الشَّيءُ: إذا حصَل فيه الرِّيبةُ، وهي قلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها [297] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تفسير الزمخشري)) (1/34)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 47). .

المعنى الإجماليُّ:

يحكي الله سبحانَه جانبًا مِن أقوالِ المشركينَ الباطِلةِ، فيقولُ: وقال الكُفَّارُ تَكذيبًا للبَعثِ بعدَ المَوتِ: ما لَنا إلَّا حياتُنا هذه الَّتي نَحياها الآنَ، يَموتُ مِنَّا أُناسٌ، ويُولَدُ آخَرونَ، ولا حياةَ بعدَ المماتِ، وما يُفنِينا إلَّا مَرُّ الزَّمانِ، وطُولُ الأعمارِ، واختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ! وما لهؤلاء الكُفَّارِ مِن عِلمٍ بما يَقولونَ مِن إنكارِهم البَعثَ، ما هم إلَّا يَظُنُّونَ!
وإذا تُتْلى عليهم آياتُ القُرآنِ واضحاتٍ في وُقوعِ البَعثِ بعدَ الموتِ، ما كان لهم مِن حُجَّةٍ إلَّا قَولُهم: أحيُوا آباءَنا إنْ كُنتُم صادِقينَ في أنَّ بعدَ الموتِ بَعثًا! قُلْ لهم -يا محمَّدُ: اللهُ يُحييكم ثُمَّ يُميتُكم ثمَّ يَجمَعُكم إلى يومِ القيامةِ لا شَكَّ في وُقوعِ ذلك، ولكِنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن ذَكَر سُبحانَه أنَّ المُشرِكينَ قد اتَّخَذوا إلهَهم هواهم، وأنَّ اللهَ قد أضَلَّهم على عِلمٍ بحالِهم، وأنَّه خَتَم على سَمْعِهم وقَلْبِهم، وجَعَل على بَصَرِهم غِشاوةً- ذكَرَ هنا جِنايةً أُخرى مِن جِناياتِهم، وحماقةً مِن حماقاتِهم: تلك أنَّهم أنكَروا البَعثَ [298] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (25/158). .
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا.
أي: وقال الكُفَّارُ تَكذيبًا للبَعثِ بعدَ المَوتِ: ما ثَمَّ حياةٌ غَيرُ حياتِنا هذه الَّتي نَحياها الآنَ [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/95)، ((تفسير ابن عطية)) (5/87)، ((تفسير ابن كثير)) (7/268، 269)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/361). !
كما قال تعالى: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: 29] .
نَمُوتُ وَنَحْيَا.
أي: يموتُ أناسٌ، ويَحيا آخَرونَ في هذه الحياةِ، وليس ثَمَّةَ حياةٌ أُخرَى [300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/95)، ((تفسير القرطبي)) (16/170)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/99)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/361، 362). قال ابن جُزَي: (نَمُوتُ وَنَحْيَا فيه أربَعةُ تأويلاتٍ: أحَدُها: أنَّهم أرادوا: يموتُ قَومٌ، ويحيا قومٌ. والآخَرُ: نموتُ نحن، ويحيا أولادُنا. الثَّالِثُ: نموتُ حين كُنَّا عَدَمًا أو نُطَفًا، ونحيا في الدُّنيا. والرَّابعُ: نموتُ الموتَ المعروفَ، ونحيا قَبْلَه في الدُّنيا؛ فوقَعَ في اللَّفظِ تَقديمٌ وتأخيرٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/272). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: يحيى بنُ سلام، وابنُ أبي زَمَنين، وأبو حيَّان، وابنُ كثير، والبِقاعي، والعُلَيمي، والألوسي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/400)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/215)، ((تفسير أبي حيان)) (9/423)، ((تفسير ابن كثير)) (7/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/99)، ((تفسير العليمي)) (6/272)، ((تفسير الألوسي)) (13/150)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/361). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/95)، ((تفسير السمرقندي)) (3/280)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6789)، ((تفسير البغوي)) (4/187)، ((تفسير الخازن)) (4/125). قال ابن جرير: (وقَولُه: نَمُوتُ وَنَحْيَا نموتُ نحن وتحيا أبناؤُنا بَعْدَنا، فجَعَلوا حياةَ أبنائِهم بَعْدَهم حياةً لهم؛ لأنَّهم مِنهم وبَعضُهم، فكأنَّهم بحياتِهم أحياءٌ، وذلك نظيرُ قَولِ النَّاسِ: ما مات مَن خَلَّفَ ابنًا مِثلَ فلانٍ؛ لأنَّه بحياةِ ذِكْرِه به كأنَّه حَيٌّ غيرُ مَيِّتٍ). ((تفسير ابن جرير)) (21/95). .
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.
أي: وما يُفنِينا إلَّا الزَّمانُ، فنَبلُغُ فيه بمُرورِ أيَّامِه ولياليه سِنَّ الهَرَمِ والشَّيخوخةِ، فنَموتُ، أو تُصيبُنا فيه أسبابٌ تُفضي بنا إلى الهَلاكِ والموتِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/96)، ((البسيط)) للواحدي (20/150)، ((تفسير ابن عطية)) (5/87)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/99)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/362). قال ابنُ كثير: (وهذا يَقولُه مُشرِكو العَرَبِ المُنكِرونَ للمَعادِ، ويَقولُه الفلاسِفةُ الإلهيُّونَ منهم، وهم يُنكِرونَ البُداءَةَ والرَّجعةَ، ويقولُه الفلاسِفةُ الدَّهْريَّةُ الدوريةُ المُنكِرونَ للصَّانِعِ، المُعتَقِدونَ أنَّ في كُلِّ سِتَّةٍ وثلاثينَ ألْفَ سَنةٍ يعودُ كُلُّ شَيءٍ إلى ما كان عليه، وزَعَموا أنَّ هذا قد تكَرَّر مرَّاتٍ لا تَتناهى، فكابَروا المعقولَ، وكَذَّبوا المنقولَ!). ((تفسير ابن كثير)) (7/269). !
وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ.
أي: وما للمُشرِكينَ أيُّ قَدْرٍ مِنَ العِلمِ بصِحَّةِ ما يقولونَ مِن إنكارِ البَعثِ، ولا بُرهانَ لديهم يُثبِتُ أنَّ الدَّهرَ هو الَّذي يُهلِكُهم كما يَزعُمونَ [302] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/840)، ((تفسير ابن جرير)) (21/98)، ((تفسير الزمخشري)) (4/291)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/99)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/363). !
إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.
أي: ما يَقولونَ ذلك إلَّا بمُجَرَّدِ الظَّنِّ، وليسوا على يَقينٍ مِمَّا يَدَّعُونَ [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/98)، ((تفسير السمعاني)) (5/143)، ((تفسير ابن كثير)) (7/269)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/363). قال القرطبي: (كان المُشرِكونَ أصنافًا؛ منهم هؤلاء، ومنهم مَن كان يُثبِتُ الصَّانِعَ ويُنكِرُ البَعثَ، ومنهم مَن كان يَشُكُّ في البَعثِ ولا يَقطَعُ بإنكارِه). ((تفسير القرطبي)) (16/172). وقال ابن القيِّم: (الظَّنُّ الَّذي أثبَتَه سُبحانَه للمُعارِضينَ نُصوصَ الوَحيِ بعُقولِهم: ليس هو الاعتِقادَ الرَّاجِحَ، بل هو أكذَبُ الحَديثِ). ((الصواعق المرسلة)) (3/878). وقال ابنُ عثيمين: (الظنُّ هنا بمعنى الوهمِ؛ فليس ظنُّهم مبنيًّا على دليلٍ يجعلُ الشَّيءَ مظنونًا، بل هو مُجرَّدُ وهمٍ لا حقيقةَ له؛ فلا حجَّةَ لهم إطلاقًا). ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/242). .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25).
أي: وإذا تُتْلى عليهم آياتُ القُرآنِ الواضِحاتُ الدَّلالةِ على وُقوعِ البَعثِ بعدَ الموتِ، لم يكُنْ لهم ما يَحتَجُّونَ به على المؤمنِينَ سِوى قَولهِم: أحيُوا آباءَنا الموتى إنْ كُنتُم صادِقينَ في دَعواكم أنَّ اللهَ يَبعَثُنا بعدَ مَوتِنا؛ حتَّى نُصَدِّقَ بحَقيقةِ ما تَزعُمونَ [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/99)، ((تفسير القرطبي)) (16/173)، ((تفسير ابن كثير)) (7/270)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/100، 101)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/363، 364). !
كما قال تعالى: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الدخان: 34 - 36] .
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا اعْتَرفوا بأنَّهم ما يُهْلِكُهم إلَّا الدَّهرُ، وأنَّهم اسْتَدلُّوا على إنكارِ البَعثِ بما لا دَليلَ لهم فيه مِن سُؤالِ إحياءِ آبائِهم؛ رَدَّ اللهُ تعالى عليهم بأنَّه تعالى هو المُحْيي، وهو المُميتُ لا الدَّهرُ، وضَمَّ إلى ذلك آيةً جامعةً لِلْحسابِ يومَ البَعثِ، وهذا واجبٌ الاعتِرافُ بهِ إنْ أنْصَفوا، ومَن قدَرَ على هذا قدَرَ على الإتيانِ بآبائِهم [305] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/424). .
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُكَذِّبينَ بالبَعثِ: اللهُ هو الَّذي يُحييكم في الدُّنيا ما شاءَ، ثُمَّ يُميتُكم متى شاء عندَ انقِضاءِ آجالِكم [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/99)، ((الهداية)) لمكي (10/6792)، ((تفسير أبي حيان)) (9/424)، ((تفسير الشوكاني)) (5/11)، ((تفسير القاسمي)) (8/433). قال القاسمي: (أي: قُلْ لهم في جوابِ قَولِهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ: قُلِ: اللهُ يُحييكم ثمَّ يُميتُكم لا الدَّهرُ؛ لِما عُرِفَ مِن وُجوبِ رُجوعِ العالَمِ إلى واجِبِ الوُجودِ، هو سَبَبُ الأسبابِ، ومَصدَرُ الكائناتِ، أو قُلْ لهم في جوابِ إنكارِهم البَعثَ: إنَّ مَن قَدَر على الإبداءِ قادِرٌ على الإعادةِ، والحِكمةُ اقتَضَت الجَمعَ للمُجازاةِ). ((تفسير القاسمي)) (8/433). .
كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 28] .
ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ.
أي: ثمَّ يَجمَعُكم اللهُ جميعًا ليومِ القيامةِ أحياءً، لا شَكَّ في وُقوعِ ذلك، وإحيائِكم بعدَ موتِكم [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/99، 100)، ((تفسير ابن كثير)) (7/270)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/365). .
كما قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ الحقَّ، فمِنْ جَهلِهم يُنكِرونَ المَعادَ، وبَعْثَ العِبادِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/100)، ((تفسير السمعاني)) (5/144)، ((تفسير ابن كثير)) (7/270). !

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- كان أهلُ الجاهِليَّةِ يُضيفونَ المصائبَ والنَّوائِبَ إلى الدَّهرِ، وهُم في ذلك فِرقتانِ: فِرقةٌ لا تُؤمِنُ باللهِ، لا تَعرِفُ إلَّا الدَّهرَ، فتَنْسُبُ المكارِهَ إليه على أنَّها مِن فِعْلِه، ولا ترَى أنَّ له مُدَبِّرًا ومُصَرِّفًا، وهؤلاء الدَّهْريَّةُ الَّذين حكى اللهُ عنهم في كتابِه: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، وفِرقةٌ تَعرِفُ الخالِقَ فتُنَزِّهُه أنْ تَنسُبَ إليه المكارِهَ، فتُضيفُها إلى الدَّهرِ والزَّمانِ، وعلى هذين الوَجهَينِ كانوا يَسُبُّونَ الدَّهرَ ويَذُمُّونَه، فيَقولُ القائِلُ منهم: يا خَيبةَ الدَّهْرِ، ويا بُؤسَ الدَّهرِ، إلى ما أشْبَهَ هذا مِن قَولِهم [309] يُنظر: ((غريب الحديث)) للخَطَّابي (1/489). ، فإذا أضافوا إلى الدَّهرِ ما نالهم مِنَ الشَّدائِدِ وسَبُّوا فاعِلَها، كان مَرجِعَ سَبِّهم إلى اللهِ تعالى؛ إذ هو الفاعِلُ في الحقيقةِ للأُمورِ الَّتي يُضيفونَها إلى الدَّهرِ لا الدَّهرُ؛ فنُهُوا عن سَبِّ الدَّهرِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يُؤذيني ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ [310] قال ابنُ القَيِّمِ: (في هذا ثلاثُ مَفاسِدَ عَظيمةٌ: إحداها: سَبُّه مَن ليس بأهلٍ أن يُسَبَّ؛ فإنَّ الدَّهرَ خَلقٌ مُسَخَّرٌ مِن خَلقِ اللهِ، مُنقادٌ لأمْرِه، مُذَلَّلٌ لِتَسخيرِه؛ فسَابُّه أَولى بالذَّمِّ والسَّبِّ منه. الثَّانيةُ: أنَّ سَبَّه مُتضَمِّنٌ للشِّركِ؛ فإنَّه إنَّما سَبَّه لِظَنِّه أنَّه يَضُرُّ ويَنفَعُ، وأنَّه مع ذلك ظالمٌ قد ضَرَّ مَن لا يَستَحِقُّ الضَّرَرَ، وأعطى مَن لا يَستَحِقُّ العَطاءَ، ورفَعَ مَن لا يَستَحِقُّ الرِّفعةَ، وحَرَم مَن لا يَستَحِقُّ الِحرمانَ، وهو عندَ شاتِميه مِن أظلَمِ الظَّلَمةِ! وأشعارُ هؤلاء الظَّلَمةِ الخَوَنةِ في سَبِّه كثيرةٌ جِدًّا، وكثيرٌ مِن الجُهَّالِ يُصَرِّحُ بلَعْنِه وتَقبيحِه! الثَّالثةُ: أنَّ السَّبَّ منهم إنَّما يقَعُ على مَن فَعَل هذه الأفعالَ الَّتي لو اتَّبَع الحَقُّ فيها أهواءَهم لَفَسَدَت السَّمَواتُ والأرضُ! وإذا وقَعَت أهواؤُهم حَمِدوا الدَّهرَ وأثْنَوا عليه. وفي حقيقةِ الأمرِ فرَبُّ الدَّهرِ تعالى هو المُعطي المانِعُ، الخافِضُ الرَّافِعُ، المُعِزُّ المُذِلُّ، والدَّهرُ ليس له مِنَ الأمرِ شَيءٌ، فمَسَبَّتُهم للدَّهرِ مَسَبَّةٌ لله عزَّ وجَلَّ؛ ولهذا كانت مُؤذِيةً للرَّبِّ تعالى، كما في الصَّحيحَينِ مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «قال الله تعالى: يُؤذيني ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ». فسابُّ الدَّهرِ دائِرٌ بيْنَ أمْرَينِ لا بُدَّ له مِن أحَدِهما: إمَّا سَبُّه لله، أو الشِّركُ به؛ فإنَّه إذا اعتَقَد أنَّ الدَّهرَ فاعِلٌ مع اللهِ، فهو مُشرِكٌ، وإنِ اعتَقَد أنَّ اللهَ وَحْدَه هو الَّذي فَعَل ذلك، وهو يَسُبُّ مَن فَعَلَه؛ فقد سَبَّ اللهَ!). ((زاد المعاد)) (2/323). ، وأنا الدَّهرُ [311] قال ابنُ عثيمين: (الدَّهرُ: ليس مِن أسماءِ الله تعالى؛ لأنَّه اسمٌ جامِدٌ لا يَتضَمَّنُ مَعنًى يُلحِقُه بالأسماءِ الحُسنى، ولأنَّه اسمٌ للوَقتِ والزَّمَنِ... فأمَّا قَولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يُؤذِيني ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ، بيدي الأمرُ، أقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ» فلا يدُلُّ على أنَّ الدَّهرَ مِن أسماءِ اللهِ تعالى؛ وذلك أنَّ الَّذين يَسُبُّونَ الدَّهرَ إنمَّا يُريدونَ الزَّمانَ الَّذي هو مَحَلُّ الحوادِثِ، لا يُريدونَ اللهَ تعالى، فيَكونُ معنى قَولِه: «وأنا الدَّهرُ» ما فَسَّره بقَولِه: «بيدَي الأمرُ، أقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ»، فهو سُبحانَه خالِقُ الدَّهرِ وما فيه، وقد بَيَّنَ أنَّه يُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ، وهما الدَّهرُ، ولا يُمكِنُ أن يكونَ المُقلِّبُ -بكَسرِ اللَّامِ- هو المُقَلَّبَ -بفَتحِها- وبهذا تَبَيَّنَ أنَّه يَمتَنِعُ أن يكونَ الدَّهرُ في هذا الحديثِ مُرادًا به اللهُ تعالى). ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) (ص: 9). قال ابن كثير: (وقد غَلِطَ ابنُ حزمٍ ومَن نحا نحوَه مِن الظَّاهرِيَّةِ في عَدِّهِم الدَّهرَ مِن الأسماءِ الحسنَى، أخْذًا مِن هذا الحديثِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/270). ، بيدي الأمرُ، أقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ)) [312] أخرجه البخاري (4826) واللَّفظُ له، ومسلم (2246). ، وفي روايةٍ: ((يُؤذيني ابنُ آدَمَ؛ يقولُ: يا خَيبةَ الدَّهرِ، فلا يَقولَنَّ أحَدُكم: يا خَيبةَ الدَّهرِ؛ فإنِّي أنا الدَّهرُ، أقَلِّبُ لَيلَه ونَهارَه، فإذا شِئتُ قَبَضْتُهما )) [313] أخرجه مسلم (2246) (3). ، وفي روايةٍ: ((يَسُبُّ ابنُ آدَمَ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ، بيَدِي اللَّيلُ والنَّهارُ)) [314] أخرجه مسلم (2246) (1). ، وفي روايةٍ [315] أخرجه مسلم (2246) (5). : ((لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ)) [316] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/125). ويُنظر: أيضًا: ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (1/336). ، وقد بَقِيَ هذا شائِعًا في ألسِنةِ النَّاسِ مِن المُسلِمينَ، وفي أشعارِهم، وهي سُنَّةٌ جاهِليَّةٌ [317] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصَّنْعاني (11/104). ، فكثيرٌ مِن الفُسَّاقِ والمُجَّانِ والحَمقَى إذا جَرَت تصاريفُ الدَّهرِ على خِلافِ مُرادِهم جَعَلوا يَسُبُّونَ الدَّهرَ والوَقتَ، ورُبَّما لَعَنوه! وهذا ناشِئٌ مِن ضَعفِ الدِّينِ، ومِن الحُمقِ والجَهلِ العَظيمِ؛ فإنَّ الدَّهرَ ليس عِندَه مِن الأمرِ شَيءٌ؛ فإنَّه مُدَبَّرٌ مُصَرَّفٌ، والتَّصاريفُ الواقِعةُ فيه تدبيرُ العزيزِ الحَكيمِ، ففي الحقيقةِ يَقَعُ العَيبُ والسَّبُّ على مُدَبِّرِه! وكما أنَّه نَقصٌ في الدِّينِ فهو نَقصٌ في العَقلِ؛ فبه تَزدادُ المصائِبُ ويَعظُمُ وَقعُها، ويُغلَقُ بابُ الصَّبرِ الواجِبِ، وهذا مُنافٍ للتَّوحيدِ. أمَّا المؤمِنُ فإنَّه يَعلَمُ أنَّ التَّصاريفَ واقِعةٌ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه وحِكمتِه، فلا يَتعَرَّضُ لِعَيبِ ما لم يَعِبْه اللهُ ولا رَسولُه، بل يَرضى بتدبيرِ اللهِ، ويُسَلِّمُ لأمْرِه، وبذلك يَتِمُّ تَوحيدُه وطُمأنينتُه [318] يُنظر: ((القول السديد شرح كتاب التوحيد)) للسعدي (ص: 148). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ هذه الآيةُ مِن أقوى الدَّلائِلِ على أنَّ القَولَ بغيرِ حُجَّةٍ وبَيِّنةٍ قَولٌ باطِلٌ فاسِدٌ، وأنَّ مُتابَعةَ الظَّنِّ والحُسبانِ مُنكَرٌ عندَ اللهِ تعالى [319] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/679). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ فيه سُؤالٌ: الحياةُ مُقَدَّمةٌ على الموتِ في الدُّنيا، فمُنكِرو القيامةِ كان يجِبُ أن يَقولوا: (نحيا ونَموتُ)، فما السَّبَبُ في تقديمِ ذِكرِ الموتِ على الحياةِ [320] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/678). ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى: يحيا البَعضُ، ويموتُ البَعضُ [321] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 226). ، فهو حُكمٌ على النَّوعِ بجُملتِه مِن غيرِ اعتبارِ تَقديمٍ وتأخيرٍ [322] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/423). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه كلامُ مَن يقولُ بالتَّناسُخِ [323] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 226). قال الشِّربيني في بيانِ مَعنى التَّناسُخِ: (هو أنَّ رُوحَ الشَّخصِ إذا خرَجَت تَنتَقِلُ إلى شَخصٍ آخَرَ، فيَحيا بعدَ أنْ لم يكُنْ؛ فإنَّه عقيدةُ أكثَرِ عَبَدةِ الأصنامِ). ((تفسير الشربيني)) (3/599). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تعالى قدَّمَ ذِكرَ الحياةِ فقال؛ حكايةً عنهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، ثمَّ قال بَعْدَه: نَمُوتُ وَنَحْيَا، يعني: أنَّ تلك الحياةَ مِنها ما يَطرَأُ عليها الموتُ، وذلك في حَقِّ الَّذين ماتوا، ومِنها ما لم يَطرَأِ الموتُ عليها، وذلك في حَقِّ الأحياءِ الَّذين لم يموتوا بَعْدُ [324] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/678). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ المعنى نحيا ونموتُ، على وَجهِ تقديمِ الحياةِ قبْلَ المماتِ [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/95). ؛ فالعَطفُ بالواوِ لا يَقتَضي ترتيبًا بيْنَ المتعاطِفَينِ في الحُصولِ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/362). ومِن الأجوبةِ أيضًا: أنَّ المرادَ: نموتُ نحن، ويحيا أولادُنا. أو: نموتُ حينَ كُنَّا عَدَمًا أو نُطَفًا، ونحيا في الدُّنيا. وقد تقدَّم ذكرُ هذه الأقوالِ (ص: 112). .
2- قَولُهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا هذا يَرُدُّه المنقولُ والمَعقولُ:
أمَّا المنقولُ: فالكِتابُ والسُّنَّةُ يدُلَّانِ على ثُبوتِ الآخِرةِ، ووُجوبِ الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ، وأنَّ للعِبادِ حياةً أُخرى سِوى هذه الحياةِ الدُّنيا، والكُتُبُ السَّماويَّةُ الأُخرى تُقَرِّرُ ذلك وتُؤَكِّدُه.
وأمَّا المعقولُ: فإنَّ اللهَ فَرَض على النَّاسِ الإسلامَ والدَّعوةَ إليه، والجِهادَ لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، مع ما في ذلك مِن استِباحةِ الدِّماءِ والأموالِ والنِّساءِ والذُّرِّيَّةِ، فمِن غيرِ المَعقولِ أن يكونَ النَّاسُ بعدَ ذلك تُرابًا؛ لا بَعْثَ ولا حياةَ، ولا ثَوابَ ولا عِقابَ، وحِكمةُ اللهِ تأبى هذا.
وأمَّا قَولُهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، أي: إلَّا مُرورُ الزَّمَنِ، فهذا يَرُدُّه المنقولُ والمحسوسُ:
فأمَّا المنقولُ: فالكِتابُ والسُّنَّةُ يَدُلَّانِ على أنَّ الإحياءَ والإماتةَ بيَدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، كما قال اللهُ تعالى: هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يونس: 56] ، وقال عن عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49] .
وأمَّا المحسوسُ: فإنَّنا نَعلَمُ مَن يَبقى سِنينَ طَويلةً على قَيدِ الحياةِ، كنُوحٍ عليه السَّلامُ وغَيرِه، ولم يُهلِكْه الدَّهرُ، ونُشاهِدُ أطفالًا يموتونَ في الشَّهرِ الأوَّلِ مِن وِلادتِهم، وشَبابًا يموتونَ في قُوَّةِ شَبابِهم؛ فليس الدَّهرُ هو الَّذي يُميتُهم [327] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/242). .
3- قَولُ الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فيه دليلٌ على أنَّ الظَّنَّ يُستعملُ بمعنى الوَهمِ، كما يُستعمَلُ أيضًا بمعنى الِعلمِ واليقينِ؛ كقولِه تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [328] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/242). [البقرة: 46] .
4- إنْ قيل: كيفَ وقَع قَولُه: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ جَوابًا لِقَولِهم: ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟
والجوابُ: أنَّهم لَمَّا أنكَروا البَعثَ، وكَذَّبوا الرُّسُلَ، وحَسِبوا أنَّ ما قالوه قَولٌ مُبَكِّتٌ؛ أُلزِموا ما هم مُقِرُّونَ به مِن أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ هو الَّذي يُحييهم ثمَّ يُميتُهم، وضُمَّ إلى إلزامِ ذلك إلزامُ ما هو واجِبُ الإقرارِ به إن أنصَفوا وأصغَوا إلى داعي الحَقِّ، وهو جَمْعُهم إلى يومِ القيامةِ، ومَن كان قادِرًا على ذلك كان قادِرًا على الإتيانِ بآبائِهم، وكان أهْوَنَ شَيءٍ عليه [329] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/292). .
ويُمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهم لَمَّا قالوا: ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ عِنادًا وتَمرُّدًا، قِيل لهم: دَعُوا آباءَكُم؛ فإنَّ القاهرَ القادرَ العالِمَ بكلِّ شَيءٍ، يَفعَلُ كَيْتَ وكَيْتَ، فضْلًا عمَّا اقْتَرَحْتُموه، ولكنْ أنتُمْ جُهلاءُ لا تَعلَمون ذلك، كما قال: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ [330] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/292)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/257)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 520). [الجاثية: 24] .
5- في قولِه تعالى: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا تَسجيلٌ عليهم بالتَّلجْلُجِ عن الحُجَّةِ البيِّنةِ، والمَصيرِ إلى سِلاحِ العاجزِ؛ مِن المُكابَرةِ والخُروجِ عن دائرةِ البَحثِ [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/364). .
6- قَولُه تعالى: ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ هو إشارةٌ إلى ما تَقدَّمَ ذِكرُه في الآيةِ المتقَدِّمةِ، وهو أنَّ كَونَه تعالى عادِلًا خالِقًا بالحَقِّ، مُنَزَّهًا عن الجَورِ والظُّلمِ: يَقتَضي صِحَّةَ البَعثِ والقيامةِ [332] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/680). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ
- قولُه: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ... الواوُ استِئنافيَّةٌ، والكلامُ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِتَفْنيدِ مَزاعمِ المُشرِكينَ؛ إذ كانوا يَزْعُمون أنَّ هَلاكَ الأنفُسِ مَنوطٌ بِمُرورِ الأيَّامِ واللَّيالي [333] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/155). .
- أو عطْفٌ على جُملةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ [الجاثية: 21] ، أي: بعْدَ أنْ جادَلوا المُسلِمينَ بأنَّه إنْ كان بَعثٌ بعْدَ الموتِ، فسَتكونُ عُقْباهم خَيرًا مِن عُقْبى المُسلِمينَ، وهمْ لا يُوقِنون بالبَعثِ والجزاءِ، بلْ ضَرَبوه جَدلًا، وإنَّما يَقينُهم قولُهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/361). .
- وضَميرُ (هِيَ) ضَميرُ القِصَّةِ والشَّأنِ، أي: قِصَّةُ الخَوضِ في البَعثِ تَنحصِرُ في أنْ لا حَياةَ بعْدَ المَماتِ، أي: القصَّةُ هي انْتِفاءُ البَعثِ، كما أفادَه حَصْرُ الأمْرِ في الحياةِ الدُّنيا، أي: الحاضرةِ القَريبةِ مِنَّا، أي: فلا تُطِيلوا الجِدالَ معنا في إثباتِ البَعثِ. ويجوزُ أنْ يكونَ (هي) ضَميرَ الحياةِ باعتبارِ دَلالةِ الاستثناءِ، على تَقديرِ لَفظِ الحياةِ؛ فيَكونَ حَصْرًا لجنسِ الحياةِ في الحَياةِ الدُّنيا [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/361). .
- وجُملةُ نَمُوتُ وَنَحْيَا مُبيِّنةٌ لِجُملةِ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، أي: ليس بعْدَ هذا العالَمِ عالَمٌ آخَرُ؛ فالحَياةُ هي حَياةُ هذا العالَمِ لا غَيرُ، فإذا مات مَن كان حيًّا خلَفَه مَن يُوجَدُ بعْدَه، فمعنى نَمُوتُ وَنَحْيَا: يَموتُ بعضُنا ويَحْيا بَعضٌ، أي: يَبْقى حيًّا إلى أمَدٍ، أو يُولَدُ بعْدَ مَن ماتوا، وللدَّلالةِ على هذا التَّطوُّرِ عُبِّرَ بالفِعلِ المُضارِعِ نَمُوتُ وَنَحْيَا، أي: تَتجدَّدُ فِينا الحياةُ والموتُ؛ فالمَعنى: نَموتُ ونَحْيا في هذه الحياةِ الدُّنيا، وليس ثَمَّةَ حَياةٌ أُخرى. ثمَّ إنْ كانت هذه الجُملةُ مَحْكيَّةً بلَفظِ كَلامِهم، فلَعلَّها ممَّا جَرَى مَجْرى المَثلِ بيْنَهم، وإنْ كانتْ حِكايةً لِمَعنى كَلامِهم، فهي مِن إيجازِ القُرآنِ؛ وهمْ إنَّما قالوا: يَموتُ بعضُنا، ويَحْيا بعضُنا ثمَّ يَموتُ؛ فصار كالمَثلِ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/361). .
- قولُه: نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ لا يَخطُرُ بالْبالِ أنَّ حِكايةَ قَولِهم: نَمُوتُ وَنَحْيَا تَقْتضي إرادةَ نَحْيا بعْدَ أنْ نَموتَ؛ لأنَّ قولَهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا يَصرِفُ عن خُطورِ هذا بالبالِ. والعطْفُ بالواوِ لا يَقْتضي تَرْتيبًا بيْن المُتعاطِفَينِ في الحُصولِ. وإنَّما قُدِّمَ نَمُوتُ في الذِّكرِ على وَنَحْيَا في البَيانِ، مع أنَّ المُبيَّنَ قولُهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا؛ فكان الظَّاهرُ أنْ يَبدَأَ في البَيانِ بذِكرِ اللَّفظِ المُبيَّنِ، فيُقالَ: نَحْيا ونموتُ؛ فقِيل: قُدِّمَ نَمُوتُ لتَتأتَّى الفاصلةُ بلَفظِ (نَحيا) مع لَفظِ الدُّنيا. والأوجَهُ أنْ يكونَ تَقديمُ فِعلِ نَمُوتُ على وَنَحْيَا؛ للاهتِمامِ بالموتِ في هذا المَقامِ؛ لأنَّهم بصَدَدِ تَقريرِ أنَّ المَوتَ لا حَياةَ بعْدَه، ويَتبَعُ ذلك الاهتِمامَ تَأَتِّي طِباقَينِ بيْنَ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ونَمُوتُ وَنَحْيَا، ثمَّ بيْن نَمُوتُ وَنَحْيَا، وحصَلَت الفاصِلةُ تَبَعًا، وذلك أدْخَلُ في بَلاغةِ الإعجازِ؛ ولذلك أعْقَبَه بقولِه: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ، فالإشارةُ بذلك إلى قَولِهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، أي: لا عِلمَ لهمْ بأنَّ الدَّهرَ هو المُمِيتُ؛ إذ لا دَليلَ. وأمَّا زِيادةُ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ فقَصَدوا تأْكيدَ مَعنى انْحِصارِ الحَياةِ والموتِ في هذا العالَمِ المُعبَّرِ عنه عِندَهم بالدَّهرِ؛ فالحياةُ بتَكوينِ الخِلْقةِ، والمماتُ بفِعلِ الدَّهرِ، فكيف يُرْجَى لِمَن أهْلَكَه الدَّهرُ أنْ يعودَ حَيًّا؟! فالدَّهْرُ هو الزَّمانُ المُستمِرُّ المُتعاقِبُ لَيلُه ونَهارُه [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/362). .
- وهذه الكلماتُ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ كَلماتٌ كانتْ تَجْري على ألْسِنَتِهم؛ لِقِلَّةِ التَّدبُّرِ في الأُمورِ، وإنْ كانوا يَعلَمون أنَّ اللهَ هو الخالِقُ لِلعوالِمِ، وأمَّا ما يَجْري في العالَمِ مِن التَّصرُّفاتِ، فلمْ يكُنْ لهمْ فيه رأْيٌ، وكيف وحالَتُهم الأُمِّيَّةُ لا تُساعِدُ على ذلك؟! وكانوا يُخطِئونَ في التَّفاصيلِ حتَّى يأْتُوا بما يُناقِضُ ما يَعتقِدونَه؛ ولذلك أعقَبَه بقولِه تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ؛ فإشارةُ بِذَلِكَ إلى قولِهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، أي: لا عِلمَ لهمْ بأنَّ الدَّهْرَ هو المُميتُ؛ إذ لا دَليلَ على ذلك؛ فإنَّ الدَّليلَ النَّظرِيَّ بيِّنٌ أنَّ الدَّهرَ -وهو الزَّمانُ- ليس بمُميتٍ مُباشَرةً، وهو ظاهرٌ، ولا بواسِطةٍ في الإماتةِ؛ إذ الزَّمانُ أمْرٌ اعْتِباريٌّ لا يَفعَلُ ولا يُؤثِّرُ، وإنَّما هو مَقاديرُ يُقدِّرُ بها النَّاسُ الأبعادَ بيْنَ الحوادثِ، مَرجِعُه إلى تَقديرِ حِصَّةِ النَّهارِ واللَّيلِ، وحِصَصِ الفُصولِ الأربعةِ، وإنَّما تَوهَّمَ عامَّةُ النَّاسِ أنَّ الزَّمانَ مُتصرِّفٌ، وهي تَوهُّماتٌ شاعَتْ حتَّى استَقرَّتْ في الأذهانِ السَّاذَجةِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/362، 363). .
- وجُملةُ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ مُبيِّنةٌ لِجُملةِ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ، أو اسْتِئنافٌ بَيانيٌّ؛ كأنَّ سائلًا حينَ سَمِعَ قولَه: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ، سأَلَ عن مُستنَدِهم في قولِهم ذلك، فأُجِيبَ بأنَّه الظَّنُّ المَبْنيُّ على التَّخيُّلِ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/363). .
- وجِيءَ بالمُضارِعِ في يَظُنُّونَ؛ لأنَّهم يُجَدِّدون هذا الظَّنَّ، ويَتلقَّاهُ صَغيرُهم عن كَبيرِهم في أجْيالِهم، وما همْ بمُقْلِعينَ عنه [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/363). .
- ولَمَّا ذكَرَ تعالَى خلْقَ السَّمواتِ والأرضِ وقيَّدَه بالحقِّ، قال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، يعني: ألَا تَتعجَّبونَ مِن هذا الَّذي اتَّبَعَ هَواهُ، وأضَلَّه اللهُ، وختَمَ على سَمْعِه وقَلْبِه؛ كيف ضَلَّ عن سَبيلِ المَعرفةِ، ورفَضَ العمَلَ، وطعَنَ في تلك الحِكمةِ البالِغةِ، وادَّعى الحِكمةَ لِنَفْسِه، وقال: لا عَمَلَ ولا جَزاءَ، ومَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ؟! بخِلافِ المُؤمنِ الَّذي جعَلَ هَواهُ تَبَعًا لِدِينِه؛ فدَلَّ بعطْفِ قَولِه: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ على اتَّخَذَ؛ على أنَّهم إنَّما اتَّبَعوا أهْواءَهم الباطِلةَ، ولمْ يُجِيلُوا فِكْرَهم في تلك الآياتِ الباهرةِ الدَّالَّةِ على تلك الحِكمةِ البالِغةِ؛ لِسَبْقِ عِلْمِه الأزَليِّ والقَضاءِ المُقدَّرِ، وذلك الَّذي جَسَّرَهم أنْ يُبطِلوا حِكمةَ اللهِ بقَولِهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا. ثمَّ نَفى العِلمَ عنْهم على الاسْتِغراقِ بقَولِه: (مَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)، وذيَّلَ الآياتِ بقَولِه: ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ورتَّبَ فيه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ تَقْريرًا وتأْكيدًا؛ فعُلِمَ قطْعًا أنَّ مَنِ اقْتَنى شَيئًا مِن الهَذَيانِ، وسمَّاهُ حِكمةً، واتَّبَعَ الهَوى، ورفَضَ العمَلَ، وأنْكَرَ الهُدى الَّذي هو القولُ بالحَشرِ؛ هو ممَّنْ أضَلَّه اللهُ على عِلْمٍ وختَمَ على سَمْعِه وقَلْبِه، وجعَلَ على بَصرِه غِشاوةً، وما لَه بما يقولُ مِن عِلمٍ، وهو أجهَلُ خلْقِ اللهِ وإنْ جمَعَ أسفارًا مِن الهَذَياناتِ، نَعوذُ باللهِ مِن سَخَطِ اللهِ [341] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/254). .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ عطْفٌ على وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] ، أي: عَقَدوا على عَقيدةِ أنْ لا حَياةَ بعْدَ المَماتِ؛ اسْتِنادًا لِلْأوهامِ والأقيسةِ الخياليَّةِ، وإذا تُلِيَت عليهم آياتُ القُرآنِ الواضحةِ الدَّلالةِ على إمْكانِ البَعثِ وعلى لُزومِه، لم يُعارِضوها بما يُبْطِلُها، بلْ يُهْرَعون إلى المُباهَتةِ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/363). .
- وفي قولِه: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا استِثناءٌ من حُجَّتَهُمْ، وهو يَقتضي تَسمِيةَ كلامِهم هذا حُجَّةً، وهو ليس بحُجَّةٍ؛ إذ هو بالبُهتانِ أشْبَهُ؛ فسَمَّى قولَهم حُجَّةً وليس بحُجَّةٍ؛ لأنَّهم أدْلَوا به كما يُدْلي المُحتَجُّ بحُجَّتِه، وساقُوه مَساقَها، فيكونُ إطلاقُ اسمِ الحُجَّةِ عليه على سَبيلِ التَّهكُّمِ بهم. أو لأنَّه في حِسبانِهم وتَقديرِهم حُجَّةٌ، فيكونُ إطلاقُ اسمِ الحُجَّةِ على كلامِهم جرَى على اعتِقادِهم وتَقديرِهم دون قَصْدِ تَهكُّمٍ بهم، أي: أْتُوا بما تَوهَّمْتُموه حُجَّةً. أو كأنَّه قِيل: ما كان حُجَّتُهم إلَّا ما ليس بحُجَّةٍ، والمُرادُ: نَفْيُ أنْ تكونَ لهم حُجَّةٌ ألْبتَّةَ، وأنَّ هذه ليستْ بحُجَّةٍ، بل هي عِنادٌ؛ فيَحصُلُ أنْ لا حُجَّةَ لهم بطَريقِ التَّمليحِ والكِنايةِ [343] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/291، 292)، ((تفسير البيضاوي)) (5/108)، ((تفسير أبي حيان)) (9/423)، ((تفسير أبي السعود)) (8/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/364). . أو أنَّ الحُجَّةَ اسمٌ لِمَا يُحتَجُّ به مِن حَقٍّ وباطلٍ [344] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/145). قال ابنُ تيميَّةَ: (الحُجَّةُ هي ما يَحتَجُّ به الخَصمُ وإن كان باطِلًا؛ فليس مِن شَرطِ لَفظِ الحُجَّةِ أن تكونَ حَقًّا، بل إذا كانت حَقًّا سُمِّيَت بَيِّنةً وبُرهانًا ودَليلًا). ((الصفدية)) (2/316). وقال ابن القيِّم: (الحُجَّةُ في كتابِ اللهِ يُرادُ بها نَوعانِ: أحدُهما: الحُجَّةُ الحَقُّ الصَّحيحةُ؛ كقَولِه تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام: 83] ، وقَولِه تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام: 149] . ويُرادُ بها: مُطلَقُ الاحتِجاجِ بحَقٍّ أو بباطِلٍ؛ كقَولِه: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] ، وقَولِه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وقَولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258] ، وقَولِه: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: 16]). ((بدائع الفوائد)) (4/173). .
3- قولُه تعالَى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ تَلقينٌ لإبطالِ قَولِهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] يَتضمَّنُ إبطالَ قَولِهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [الجاثية: 24] ، والمَقصودُ منه قَولُه: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ؛ وإنَّما قُدِّمَ عليه يُحْيِيكُمْ تَوطئةً له، أي: كما هو أوجَدَكم هو يُميتُكم لا الدَّهرُ؛ فتَقديمُ اسمِ اللَّهُ على المُسنَدِ الفِعليِّ -وهو يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ- يُفِيدُ تَخصيصَ الإحياءِ والإماتةِ به؛ لِإبْطالِ قَولِهم: إنَّ الدَّهرَ هو الَّذي يُمِيتُهم [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/365). .
- وقولُه: ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إبطالٌ لِقَولِهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الجاثية: 24] ، وليس هو إبطالًا بطَريقِ الاسْتِدلالِ؛ لأنَّ أدِلَّةَ هذا تَكرَّرتْ فيما نزَلَ مِن القُرآنِ؛ فاسْتُغنِيَ عن تَفصيلِها، ولكنَّه إبطالٌ بطَريقِ الإجمالِ والمُعارَضةِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/365). .
- قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْتِدراكٌ مِن قولِه تعالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ، وهو إمَّا مِن تَمامِ الكَلامِ المأْمورِ به، أو كَلامٌ مَسوقٌ مِن جِهَتِه تعالى؛ تَحقيقًا للحقِّ، وتَنبيهًا على أنَّ ارتيابَهم لِجَهْلِهم وقُصورِهم في النَّظرِ والتَّفكُّرِ، لا لأنَّ فيه شائبةَ رَيْبٍ ما [347] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/74). .