موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيتان (1-2)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

قَدَمَ صِدْقٍ: أي: تَقدِمةَ خَيرٍ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ. وكلُّ سَابقٍ فِي خيرٍ أَو شَرٍّ، فهو عند العَربِ قَدَمٌ. وأصلُ (قدم):  يدلُّ على سَبْقٍ، والصِّدقُ يُعبَّرُ به عن كلِّ فعلٍ فاضلٍ ظاهرًا وباطنًا، وكلُّ شيءٍ أُضيفَ إليه فهو ممدوحٌ، وأصلُ (صدق): يدلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ قولًا وغيرَه [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/16)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/65)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 150)، ((المفردات)) للراغب (ص: 479)،  ((الكليات)) للكفوي (ص: 702). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَحَ اللهُ هذهِ السورةَ العظيمةَ بالحروفِ المقطَّعة؛ لبيانِ إعجازِ القُرآنِ، فمع أنَّه مُركَّبٌ مِن هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتكلَّمون بها، إلَّا أنَّهم عاجزونَ عن مُعارَضتِه بالإتيانِ بِشَيءٍ مِن مِثلِه، ثمَّ بَيَّنَ تعالى أنَّ تلك الآياتِ الرَّفيعةَ الشَّأنِ، هي آياتُ القُرآنِ الحكيمِ.
ثمَّ قال تعالى: كيف يتعَجَّبُ الكفَّارُ مِن قُريشٍ والعَرَبِ مِن إيحاءِ اللَّهِ إلى رجُلٍ مِن البشَرِ، أنْ يُنذِرَ جَميعَ النَّاسِ عِقابَ اللهِ على الكُفرِ والمَعصيةِ، ويُبَشِّرَ المُؤمِنينَ بأنَّ لهم أجرًا حَسنًا؛ بما قَدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ، فتعَجَّبَ الكُفَّارُ مِن هذا الرَّسولِ، فقالوا: إنَّه لَساحرٌ ظاهِرُ السِّحرِ.

تفسير الآيتين:

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1).
الر.
هذه الحروفُ المقطَّعةُ التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغَيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها [7] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (1/25، 26)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 203، 204)، ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/78، 81). .
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.
أي: تلك الآيات الرَّفيعة الشَّأن [8] قال الرازي: (قوله: تِلْكَ يحتملُ أن يكونَ إشارةً إلى ما في هذه السورةِ مِن الآياتِ، ويحتملُ أن يكونَ إشارةً إلى ما تقدَّم هذه السورةَ مِن آياتِ القرآنِ). ((تفسير الرازي)) (17/183). وقال ابنُ عاشور: (المختارُ في الحروفِ المقطَّعة في فواتحِ السورِ أن المقصودَ مِن تعدادِها التحدِّي بالإعجازِ، فهي بمنزلةِ التهجِّي للمتعلِّم. فيصحُّ أن يجعلَ (الر) في محلِّ ابتداءٍ، ويكون اسمُ الإشارةِ خبرًا عنه. والمعنى: تلك الحروفُ آياتُ الكتابِ الحكيمِ، أي: مِن جنسِها حروفُ الكتابِ الحكيمِ، أي: جميعُ تراكيبِه مِن جنسِ تلك الحروفِ. والمقصودُ تسجيلُ عجزِهم عن معارضتِه بأنَّ آياتِ الكتابِ الحكيمِ كلَّها مِن جنسِ حروفِ كلامِهم، فما لكم لا تستطيعونَ معارضتَها بمثلِها إن كنتُم تكذبونَ بأنَّ الكتابَ منزَّلٌ مِن عندِ الله؟! فلولا أنَّه مِن عندِ الله لكان اختصاصُه بهذا النظمِ المعجزِ دونَ كلامِهم محالًا؛ إذ هو مركبٌ مِن حروفِ كلامِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (11/81-82). هي آياتُ القرآنِ المحكَم، المشتملِ على الحكمةِ والأحكامِ [9] قال الواحدي: (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ القرآنُ في قولِ أكثرِ المفسِّرينَ). ((البسيط)) (11/116). ، قد أحكَم الله ألفاظَه ومعانيَه، وجعَله حاكمًا بينَ عبادِه؛ يبيِّنُ لهم الحقَّ مِن الباطل، والصَّواب من الخطأ، والحلالَ مِن الحرامِ [10] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/116)، ((تفسير الرازي)) (17/183 - 185)، ((تفسير القرطبي)) (8/305)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/60)، ((تفسير ابن كثير)) (4/245)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 357)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/82). .
كما قال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .
وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2).
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ.
أي: كيف يتعَجَّبُ كفَّارُ قُريشٍ وكُفَّارُ العَرَبِ [11] قال محمد رشيد رضا: (المرادُ بالنَّاسِ كُفَّارُ مَكَّةَ ومَن تَبِعَهم في إنكارِ نبُوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلم). ((تفسير المنار)) (11/118). وقال ابنُ عاشورٍ: (أُطلِقَ النَّاسُ على طائفةٍ مِن البشَرِ، والمرادُ المُشرِكونَ مِن أهلِ مكَّةَ؛ لأنَّهم المقصودُ مِن هذا الكلامِ. وهذا الإطلاقُ مِثلُ ما في قوله: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ... والنَّاسُ الثاني يعُمُّ جَميعَ البشَرِ الذين يُمكِنُ إنذارُهم، فهو عمومٌ عُرفيٌّ؛ ولِكَونِ المرادِ بالنَّاسِ ثانيًا غيرَ المُرادِ به أوَّلُ، ذُكِرَ بلَفْظِه الظَّاهِرِ دون أن يقالَ: أن أنذِرْهم). ((تفسير ابن عاشور)) (11/84). من إيحائِنا القرآنَ إلى رجلٍ من البَشَرِ [12] قال الرازي: (هذا التَّعجُّبُ يحتمِلُ وَجهين: أحدُهما: أن يتعَجَّبوا من أن يَجعَلَ اللهُ بشَرًا رسولًا، كما حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم قالوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] . والثاني: ألَّا يتعَجَّبوا من ذلك، بل يتعَجَّبوا من تخصيصِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوحيِ والنبوَّةِ، مع كونِه فَقيرًا يَتيمًا، فهذا بيانُ أنَّ الكفَّارَ تعَجَّبوا من ذلك، وأمَّا بيانُ أنَّ الله تعالى أنكَر عليهم هذا التعجُّبَ، فهو قَولُه في هذه الآيةِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ؛ فإنَّ قَولَه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا لفظُه لفظُ الاستفهامِ، ومعناه الإنكارُ). ((تفسير الرازي)) (17/185). ، يُنذِرُ جَميعَ النَّاسِ عِقابَ اللهِ، على الكُفرِ به ومَعصِيَتِه [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/106)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 489)، ((تفسير ابن كثير)) (4/245)، ((تفسير الألوسي)) (6/58)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/118، 119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 357)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/84). قال ابن تيمية: (قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أولَم يعلَموا أنَّ إرسالَ رسولٍ مِن البشَرِ يُبَلِّغُهم رسالاتِ رَبِّهم، ويهديهم إلى صراطٍ مُستقيمٍ، أبلَغُ في قدرةِ الرَّبِّ، ورَحمتِه بعبادِه، وإحسانِه إليهم، وأعظَمُ إثباتًا للكمالِ مِن كَونِ ذلك [غيرَ] ممكِنٍ له، ومِن امتناعِه عن فِعْلِه). ((درء تعارض العقل والنقل)) (10/24). ؟!
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ.
أي: وكيف عَجِبَ الكُفَّارُ مِن إيحائِنا إلى بَشَرٍ منهم، أن يبشِّرَ المُؤمِنينَ بأنَّه سبَقَت لهم مِن الله السَّعادةُ في اللَّوحِ المحفوظِ بما قَدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ، وإيمانٍ بمحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي أرشَدَهم إلى ذلك الخَيرِ الذي ينالون به الجنَّةَ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/111، 112)، ((تفسير ابن عطية)) (3/103)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 101)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 28)، ((تفسير ابن كثير)) (4/246)، ((تفسير القاسمي)) (6/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 357)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/84). قال ابنُ القيِّم: (وفسَّر قومٌ قَدَمَ صِدْقٍ بالجنةِ، وفسِّر بالأعمالِ التي تُنالُ بها الجنةُ، وفُسِّر بالسابقةِ التي سبَقت لهم مِن الله، وفسِّر بالرسولِ الذي على يدِه وهدايتِه نالوا ذلك، والتحقيقُ أنَّ الجميعَ حقٌّ؛ فإنَّهم سبَقت لهم مِن الله الحسنَى بتلك السابقةِ، أي: بالأسبابِ التي قدَّرها لهم على يدِ رسولِه، وادَّخر لهم جزاءَها يومَ لقائِه). ((حادي الأرواح)) (ص: 101). ؟!
قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ.
القراءاتُ التي لها أثَرٌ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ لَسَاحِرٌ يقصِدُ الكافرونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [15] قرأ بها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وابنُ كثيرٍ، وخلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/256). ويُنظر لمعنَى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 179)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (4/251، 252)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 327)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/86). .  
2- قراءةُ لَسِحْرٌ يَعْنون القُرآنَ الكريمَ [16] قرَأ بها الباقونَ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/256). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 179)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (4/251، 252)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 327)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/86). .
قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ.
أي: مع أنَّا بعَثْنا إليهم رسولًا منهم، رجلًا مِن جنسِهم، بشيرًا ونذيرًا [17] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/246). قال ابن جرير: (وفي الكلامِ مَحذوفٌ، استُغنِيَ بدَلالةِ ما ذُكِرَ عما تُرِكَ ذِكرُه، وهو: فلمَّا بشَّرَهم وأنذَرَهم وتلا عليهم الوحيَ، قال الكافرونَ: إنَّ هذا الذي جاءَنا به لَسِحرٌ مُبينٌ). ((تفسير ابن جرير)) 12/113). ، قال الكافرون: إنَّ هذا الرَّجُلَ لَساحِرٌ ظاهِرُ السِّحرِ، يسحَرُ النَّاسَ بالقُرآنِ الذي جاء به [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/113)، ((تفسير ابن كثير)) (4/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 357)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/86).

الفوائد التربوية :

قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا قدَّمَ الإنذارَ على التَّبشيرِ؛ لأنَّ التَّخليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحليةِ، وإزالةَ ما لا ينبغي مُقَدَّمٌ في الرُّتبةِ على فِعلِ ما ينبغي [19] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/187). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَّا كان الإنذارُ عامًّا، كان متعَلَّقُه- وهو الناس- عامًّا، والبِشارةُ خاصَّةً، فكان متعَلَّقُها خاصًّا، وهو (الذينَ آمنوا) [20] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/9). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ عبَّرَ عن كُفَّارِ مَكَّةَ ومَن تَبِعَهم بالنَّاسِ؛ لأنَّ هذه الشُّبهةَ على الرِّسالةِ، قد سبَقَتْهم إليها أقوامُ الأنبياءِ قَبلَ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [21] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/118). .
3- في قَولِه تعالى: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ بيانُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنذِرٌ لجنسِ النَّاسِ، وأنَّه مِن جِنْسِ النَّاسِ، وأنَّه لا يختصُّ به العرَبُ دونَ غَيرِهم، وإنْ كانوا هم أوَّلَ مَن أُرْسِلَ إليهم وبِلسانِهم [22] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/679). .
4- ذكَرَ اللهُ تعالى في كتابِه خمسةَ أشياءَ مُضافةً إلى الصِّدقِ، وهي: قدَمُ الصِّدقِ، كما هنا في سورة يونسَ، ومُدخَلُ الصِّدقِ، ومُخرَجُ الصِّدقِ، كما في سورةِ الإسراءِ (الآية: 80)، ولسانُ الصِّدقِ، كما في سورة الشُّعَراء (الآية: 84)،  ومَقعَدُ الصِّدقِ، كما في سورة القمر (الآية: 55)، وحقيقةُ الصِّدقِ في هذه الأشياءِ: هو الحقُّ الثَّابِتُ، المتَّصِلُ باللهِ، المُوصِلُ إلى اللهِ- وهو ما كان به وله، من الأقوالِ والأعمالِ- وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ [23]  يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/259). .
5- قَولُ الله تعالى: قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ يُشيرُ إلى إثباتِ رِسالتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ قَولَهم: إنَّ القرآنَ سِحرٌ جاء به ساحِرٌ، يتضَمَّنُ اعترافَهم بأنَّهما فوقَ المعهودِ والمعلومِ للبَشَرِ في عالَمِ الأسبابِ المَقدورةِ لهم [24] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/119). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
- قولُه: تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الْحَكِيمِ في اختيارِ وصْفِ الْحَكِيمِ هنا مِن بينِ أوصافِ الكَمالِ الثَّابتةِ للقُرآنِ؛ لأنَّ لهذا الوَصفِ مَزيدَ اختِصاصٍ بمَقامِ إظهارِ الإعجازِ مِن جهةِ المعنى بعدَ إظهارِ الإعجازِ مِن جهةِ اللَّفظِ بقولِه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، ولِمَا اشتَمَلَت عليه السُّورةُ مِن براهينِ التَّوحيدِ وإبطالِ الشِّركِ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/82). .
- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، وكذلك في سورةِ لُقمانَ قال: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2] ، بَينما قال في  مَطلعِ سُورةِ يوسُفَ: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] ؛ فوصَفه في السُّورتَين بالحكيمِ، وفي سورةِ يوسُفَ بالمبينِ؛ وذلك لأنَّ سُورتَيْ يونُسَ ولُقمانَ ترَدَّد فيهما مِن الآياتِ المعتبَرِ بها، الـمُطْلِعَةِ على عظيمِ حِكْمتِه تعالى، وإتقانِه للأشياءِ ما لم يَرِدْ في سورةِ يوسُفَ، كقولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [يونس: 3] ، وقد تَبِع الآيةَ المذكورةَ مِن سورةِ يونُسَ ما يُجاريها في التَّنبيهِ بما به الاعتبارُ، كقولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] ، ثمَّ قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [يونس: 6، 7]، لم يتَخلَّلْها ما يَخرُجُ عن بابِ الاعتبارِ، مِن الأحكامِ أو القَصصِ أو غيرِها، إلَّا ما تضَمَّن اعتِبارًا كالواردِ مِن قصَّةِ نوحٍ في خِطابِه لقومِه: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي... الآيةَ إلى قولِه: ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [يونس: 71]، وفي هذا أعظمُ عِبرةٍ، ولم يَرِدْ هذا الضَّربُ المقتضَبُ مِن قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على هذه الصِّفةِ في غيرِ هذه السُّورةِ لِما قدَّمْنا ذِكرَه، ولم يَكُنْ لِيُناسِبَ ما بُنِيَت عليه السُّورةُ غيرُ هذا الواردِ، وكذلك ما ورَد فيها مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ ودُعائِه في قولِه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ [يونس: 88] ، فكان ذلك حسْبُ ما دَعاه إلى ذِكْرِ إغراقِ فِرْعونَ وملَئِه، وطمَعِه في الإيمانِ حينَ أدرَكه الغرَقُ، فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس: 90] ، فلم ينفَعْه ذلك لِفَواتِ وقتِه، فاقتصَر أيضًا على هذا القَدْرِ مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ؛ لِما تقَدَّم مِن مُناسَبةِ هذه السُّورةِ.
وسورةُ لُقمانَ ورَد فيها قولُه تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، إلى قولِه: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 10، 11]، وبعد ذلك قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، وقولُه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... الآيةَ [لقمان: 34] ، وفي هذه السُّورةِ أيضًا ما مُنِح لقمانُ مِن الحِكْمةِ، وما انطوَت عليه قصَّتُه مِن حِكمةٍ، وما صدَر عنه في وصيَّتِه، ولم تَخرُجْ آيُ هذه السُّورةِ عن هذا، فهذا وجهُ وصفِ الكتابِ في هاتَين السُّورتَين بالحكيمِ.
وأمَّا سورةُ يوسُفَ عليه السَّلامُ فلم تَنطَوِ على غيرِ قصَّتِه، وبسْطِ التَّعريفِ بقَضيَّتِه، وبيانِ ما جرَى له مع أبيه؛ مِن فِراقِه، وامتِحانِه بإلقائِه في الجُبِّ، والبيعِ والتَّعرُّضِ له بالفِتْنةِ، وتَخلُّصِه بسابقِ اصطِفائِه ممَّا كِيدَ له به، وابتلائِه بالسَّجنِ، ثمَّ لِقائِه بأخيه، واجتماعِ شَملِه بأبيه عليهما السَّلامُ وإخوتِه، ولم تَخرُجْ آيةٌ مِن آيِ هذه السُّورةِ عن هذا مِن بَسْطِ هذه القصَّةِ، فلِهذا أتبعَ الكتابَ بالوصفِ بالمبينِ [26] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/237-238). .
2- قولُه تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ
- قولُه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا الهَمزةُ في أَكَانَ لإِنْكارِ التَّعجُّبِ والتَّعجيبِ مِنه [27] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/326)، ((تفسير أبي حيان)) (6/9)، ((تفسير أبي السعود)) (4/116). ، وفائدةُ إدخالِ الاستفهامِ المستعمَلِ في الإنكارِ على (كَانَ) دونَ أن يُقالَ: (أَعَجِبَ النَّاسُ): الدَّلالةُ على التَّعجُّبِ مِن تعَجُّبِهم المرادِ به إحالةُ الوحيِ إلى بشَرٍ [28] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/83). .
- وقولُه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قالَ: لِلنَّاسِ باللَّامِ ولَم يَقُلْ: (أكان عِندَ النَّاسِ عجَبًا)؛ لأنَّ معنى لِلنَّاسِ عَجَبًا أنَّهم جعَلوه لهم أُعْجوبةً يتَعجَّبون مِنها، ونصَبوه عَلمًا لهم يُوجِّهون نَحوَه استِهْزاءَهم وإنكارَهم، وليس في (عِندَ النَّاسِ) هذا المعنى [29] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/327). .
- وقولُه أيضًا: لِلنَّاسِ مُتعلِّقٌ بـ(كَانَ)؛ لِزِيادةِ الدَّلالةِ على استِقْرارِ هذا التَّعجُّبِ فيهم؛ لأنَّ أصلَ اللَّامِ أن تُفيدَ المِلْكَ، وتستعملُ أيضًا في التَّمكُّنِ، أي: لِتَمكُّنِ الكونِ عجَبًا مِن نُفوسِهم [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/83). .
- وفيه كذلك تقديمُ خبَرِ (كان) وهو قولُه: عَجَبًا على اسمِها وهو قولُه: أَنْ أَوْحَيْنَا؛ للاهتِمامِ به؛ لكَونِه مَدارَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، وتشويقًا إلى المؤخَّرِ [31] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/83). .
- وَجِيءَ في أَنْ أَوْحَيْنَا بـ(أَنْ) والفِعلِ، دون المصدَرِ الصَّريحِ وهو (وَحْيُنا)؛ لِيُتوسَّلَ إلى ما يُفيدُه الفعلُ مِن التَّجدُّدِ، وصيغةُ المُضِيِّ مِن الاستقرارِ؛ تحقيقًا لوُقوعِ الوحيِ المتعجَّبِ منه وتجَدُّدِه، وذلك ما يَزيدُهم كمَدًا [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/83). .
- وفي قولِه: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ: حُذِفَ المنذَرُ به؛ للتَّهويلِ، ولأنَّه يُعلَمُ حاصِلُه مِن مُقابَلتِه بقولِه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/85). .
- قولُه: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، أي: سابقةٌ ومنزِلةٌ رفيعةٌ؛ سُمِّيَت قَدَمًا لأنَّ السَّبقَ بِها، كما سُمِّيَت النِّعمةُ يَدًا؛ لأنَّها تُعطَى باليَدِ، وإضافةُ (قَدَمَ) إلى (صِدْقٍ)؛ لِتَحقُّقِها، والتَّنبيهِ على أنَّهم إنَّما يَنالونها بصِدْقِ القولِ والنِّيَّةِ، ودَلالةً على زيادةِ فضلٍ، وأنَّه مِن السَّوابقِ العظيمةِ [34] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/328)، ((تفسير البيضاوي)) (3/104). .
- قولُه: قَالَ الْكَافِرُونَ ترَك العاطِفَ فلَم يَقُلْ: (وقال)؛ لِجَرَيانِه مَجْرى البَيانِ لِجُملةِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ...، أو لكونِه استِئنافًا مَبنيًّا على السُّؤالِ؛ كأنَّه قيل: ماذا صنَعوا بعدَ التَّعجُّبِ؛ هل بَقُوا على التَّردُّدِ والاستِبْعادِ أو قطَعوا فيه بشيءٍ؟ فقيل: قال الكافِرون؛ على طريقةِ التَّأكيدِ [35] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/117)، ويُنظر أيضًا: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/211). .