موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (1-5)

ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

فُصِّلَتْ: أي: بُيِّنتْ، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تَمييزِ الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، وإبانتِه عنه [7] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/505)، ((البسيط)) للواحدي (11/343)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 339)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 700). .
لَدُنْ: أي: عندَ، أو لدَى، لكن (لدن) أخصُّ مِن (عند) [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 201)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/243)، ((المفردات)) للراغب (ص:739)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 281)، ((الكليات)) للكفوي (1/801). .
يَثْنُونَ: أي: يَطوونَ ويُخفونَ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 201)، ((تفسير ابن جرير)) (12/319)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 510)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ: أي: يَستَتِرونَ بها، ويُغَطُّونَ رُؤوسَهم، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تَغطيةِ شيءٍ بِشَيءٍ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((تفسير القرطبي)) (9/6)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 987). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَحَ اللهُ هذه السورةَ العظيمةَ بالحُروفِ المُقطَّعةِ؛ لبيانِ إعجازِ القُرآنِ، إذ إنَّها تشيرُ إلى الحالةِ التي كان عليها العربُ مِن العجزِ عن مُعارضتِه بالإتيانِ بِشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ هذا الكتابَ الذي أنزَلَه على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُحكِمَت آياتُه، فلا خَللَ فيها ولا باطِلَ، ثم بُيِّنَت بالأمرِ والنَّهيِ والأخبارِ الصادقةِ مِن عندِ اللهِ، الحكيمِ بتدبيرِ الأمورِ، الخبيرِ بما تؤولُ إليه عواقِبُها، وكان ذلك لأجلِ أن لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وَحدَه لا شريكَ له، ثمَّ أمر اللهُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للنَّاسِ: إنَّني لكم نذيرٌ مِن عندِ اللهِ أُنذِرُكم عقابَه، وبشيرٌ أُبشِّرُكم بثوابِه، واسألوه أن يغفِرَ لكم ذنوبَكم، ثمَّ ارجِعوا إليه نادمينَ، يُمَتِّعْكم في دُنياكم متاعًا حسنًا بالحياةِ الطيِّبةِ فيها إلى أن يحينَ أجَلُكم، ويُعطِ كلَّ ذي فضلٍ مِن قولٍ أو عمَلٍ جزاءَ فَضلِه كاملًا لا نقصَ فيه، وإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه؛ فإنِّي أخشَى عليكم عذابَ يومٍ شَديدٍ، وهو يومُ القيامةِ، إلى اللهِ رُجوعُكم بعد موتِكم فاحذَروا عقابَه، وهو سُبحانه قادِرٌ على بَعثِكم وحَشرِكم وجَزائِكم، ألا إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ يُضمِرونَ في صدورِهم الكُفرَ؛ ظنًّا منهم أنَّه يخفَى على الله ما تُضمِرُه نفوسُهم، ألا يَعلمونَ حينَ يُغطُّونَ أجسادَهم بثيابِهم أنَّ اللهَ لا يخفى عليه سِرُّهم وعلانيتُهم؟ إنَّه عليمٌ بكُلِّ ما تُكِنُّه صُدورُهم من النيَّاتِ والضَّمائرِ والسَّرائرِ.

تفسير الآيات:

الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1).
الَر
تقدَّمَ الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سورةِ البَقَرةِ [11] يُنظر ما تقدَّم مِن هذا التفسيرِ (1/65). .
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
أي: هذا القُرآنُ أتقَنَ اللهُ آياتِه فلا خللَ فيها ولا باطِلَ ولا تَناقُضَ، ثمَّ بُيِّنَتْ بالأخبارِ الصَّادقةِ، والأحكامِ العادلةِ مِن أوامِرَ ونواهٍ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/308، 310)، ((معاني القرآن)) للنحاس (3/327، 328)، ((تفسير ابن عطية)) (3/148)، ((تفسير القرطبي)) (9/2، 3)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/106)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (8/337)، ((تفسير ابن كثير)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55] .
وقال سُبحانه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 114-115] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] .
وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الكهف: 54] .
مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
أي: أُحكِمَت آياتُ القرآنِ ثمَّ فُصِّلَت من عند حكيمٍ في تدبيرِ الأشياءِ وتقديرِها، فيضعُ كُلَّ شيءٍ في مَوضِعِه اللَّائقِ به، خبيرٍ مُطَّلِعٍ على الظَّواهرِ والبواطِنِ، وعواقبِ الأمورِ وأحوالِ عبادِه وما يُصلِحُهم [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/311)، ((تفسير القرطبي)) (9/3)، ((تفسير الخازن)) (2/471)، ((تفسير ابن كثير)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .
أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا تفسيرٌ أو بيانٌ لأوَّلِ ما أُحكِمَت وفُصِّلَت به وله الآياتُ، وهو أن تَجعلوا عبادتَكم له وَحْدَه، لا تُشرِكوا به شيئًا [14] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/7). .
أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ .
أي: أُحكِمَت آياتُ القُرآنِ ثم فُصِّلَت؛ لئلَّا تَعبُدوا- أيُّها النَّاسُ- إلَّا اللهَ وَحدَه، ولا تُشِركوا به شيئًا [15] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/38)، ((تفسير ابن كثير)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/168، 169). وممَّن اختار المعنى المذكورَ: الزجاج، وابنُ كثيرٍ، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/38)، ((تفسير ابن كثير)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/168، 169). قال القرطبي: (قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قال الكسائي والفراء: أي: بألَّا، أي أُحكمتْ ثم فُصِّلت بألَّا تعبدوا إلا الله). ((تفسير القرطبي)) (9/3). وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جريرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/312). قال النحاسُ: (يجوزُ أن يكونَ المعنى بأن لا تعبدوا إلا الله، ويجوزُ أن يكونَ المعنى لئلَّا تعبدوا، ويجوزُ أن يكونَ المعنى أُمِرتم أن لا تَعْبدوا إلا الله). ((معاني القرآن)) (3/328). .
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
وقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .
إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ: إنَّني لكم من عندِ اللهِ نذيرٌ؛ أُخَوِّفُكم عقابَه في الدُّنيا والآخرةِ، إن كَفَرتُم به وعَصَيْتُموه، وبشيرٌ؛ أُبَشِّرُكم بثوابِ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إن آمَنتُم به وأطعتُموه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/312)، ((تفسير القرطبي)) (9/3)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/103)، ((تفسير ابن كثير)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28] .
وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها عطفٌ على جملةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وهو تفسيرٌ ثانٍ يَرجِعُ إلى ما في الجُملةِ الأُولَى مِن لفظِ التَّفصيلِ، فهذا ابتداءُ التَّفصيلِ؛ لأنَّه بيانٌ وإرشادٌ لوسائلِ نَبذِ عبادةِ ما عدا اللهَ تعالى، ودلائِلُ على ذلك وأمثالٌ ونُذُرٌ [17] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/317). .
وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ.
أي: وأنِ استَغفِروا ربَّكم- أيُّها النَّاسُ- فاطلُبوا منه سَترَ ذُنوبِكم، والتَّجاوُزَ عن مؤاخَذتِكم بها، ثمَّ توبوا إليه فيما تَستَقبِلونه من أعمارِكم، بالرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحْدَه، وطاعتِه، وتَرْكِ مَعصِيتِه [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/312، 313)، ((تفسير القرطبي)) (9/3)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/314، 315)، ((تفسير ابن كثير)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .
عن الأغرِّ المُزَنيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ توبوا إلى اللهِ؛ فإنِّي أتوبُ في اليومِ إليه مئةَ مَرَّةٍ )) [19] أخرجه مسلم (2702). .
وعن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سَيِّدُ الاستغفارِ أن تقولَ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إلهَ إلَّا أنت، خَلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عَهدِك ووَعدِك ما استطعْتُ، أعوذُ بك مِن شَرِّ ما صنَعتُ، أبوءُ لك بنِعمَتِك عليَّ، وأبوءُ لك بذَنبي، فاغفِرْ لي؛ فإنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنت، قال: مَن قالها مِن النَّهارِ مُوقِنًا بها، فمات مِن يَومِه قبل أن يُمسيَ، فهو من أهلِ الجنَّةِ، ومن قالَها من اللَّيلِ وهو موقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبِحَ، فهو من أهلِ الجنَّةِ )) [20] أخرجه البخاري (6306). .
يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى.
أي: فإنَّكم إن استَغفَرتُم ربَّكم ثمَّ تُبتُم إليه، يُمتِّعْكم في الدُّنيا بسَعةِ الرِّزقِ ورَغَدِ العَيشِ، وحصولِ العافيةِ إلى حُضورِ أجَلِكم [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/313)، ((تفسير القرطبي)) (9/4)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/170). .
كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .
وقال سُبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [الزمر: 10] .
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.
أي: ويُعطِ كلَّ ذي إحسانٍ وبِرٍّ- بقَولِه أو بفِعلِه، أو قُوَّتِه أو مالِه، أو غيرِ ذلك- أجْرَه وثوابَه [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/314)، ((تفسير ابن عطية)) (3/149)، ((تفسير القرطبي)) (9/4)، ((تفسير البيضاوي)) (3/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). قال الشوكاني: (قوله: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي: يُعطِ كلَّ ذي فضلٍ في الطَّاعةِ والعَمَلِ فَضلَه: أي: جزاءَ فَضلِه؛ إمَّا في الدُّنيا، أو في الآخرةِ، أو فيهما جميعًا، والضميرُ في فَضْلَهُ راجِعٌ إلى كلِّ ذي فَضلٍ، وقيل: راجِعٌ إلى اللهِ سبحانه، على معنى: أنَّ الله يعطي كلَّ مَن فَضَلتْ حَسَناتُه فَضْلَه الذي يتفَضَّلُ به على عبادِه). ((تفسير الشوكاني)) (2/546). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/357). وقال الواحديُّ: (وقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، والكلبيُّ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ كلَّ مَن فضَلت حسناتُه على سيئاتِه فَضْلَهُ يعني الجنةَ، وهي فضلُ الله، والكنايةُ في فَضْلَهُ على هذا تعودُ إلى الله تعالى ذكرُه. وهذا القولُ أحسنُ الأقوالِ وعليه المفسِّرون). ((البسيط)) (11/347). .
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23] .
وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا انقضى التَّبشيرُ مجزومًا به، أتبَعَه التَّحذيرَ مخوفًا منه؛ لطفًا بالعبادِ، فقال تعالى [23] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/228). :
وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.
أي: وإن تُعرِضوا عمَّا دَعَوتُكم إليه، من إخلاصِ العِبادةِ لله تعالى وَحدَه، والاستغفارِ والتَّوبةِ إليه؛ فإنِّي أخاف عليكم عذابَ يومٍ كَبِيرٍ شأنُه، عظيمٍ هولُه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/315)، ((تفسير القرطبي)) (9/4)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). قال القرطبي: ( تَوَلَّوْا يجوزُ أن يكونَ ماضيًا، ويكونَ المعنى: وإنَ تَوَلَّوا فقُلْ لهم: إني أخافُ عليكم. ويجوزُ أن يكونَ مُستَقبلًا حُذِفَت منه إحدى التَّاءينِ، والمعنى: قل لهم: إن تتَوَلَّوا فإنِّي أخافُ عليكم). ((تفسير القرطبي)) (9/4). .
إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا خوَّفَ تعالى المُنذَرينَ باليومِ الكبيرِ، كانوا كأنَّهم قالوا: ما هذا اليومُ؟ فكان الجوابُ: يومَ يُرجعونَ إليه [25] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/234). .
إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ.
أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَصيرُكم بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم بأعمالِكم، فاحذَروه [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/316)، ((تفسير ابن عطية)) (3/150)، ((تفسير القرطبي)) (9/4)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/9). .
كما قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ على كلِّ شَيءٍ قادِرٌ، فلا يُعجِزُه بعثُ عبادِه بعدَ مَوتِهم، ومُجازاتُهم على أعمالِهم [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/316)، ((تفسير ابن كثير)) (4/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: عن عبادتِه وطاعتِه فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ؛ بيَّن بعده أنَّ التَّولِّيَ عن ذلك باطنًا كالتَّولِّي عنه ظاهِرًا [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/317). .
وأيضًا لَمَّا قال: وَإِنْ تَوَلَّوْا عن عبادةِ اللهِ وطاعتِه؛ بيَّن بَعده صِفةَ ذلك التولِّي [29] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (10/434).
وأيضًا فهذا الكلامَ قد نشأ عن قَولِه تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لِمُناسبةِ أنَّ المرجوعَ إليه لَمَّا كان مَوصوفًا بتمامِ القُدرةِ على كلِّ شَيءٍ، هو أيضًا مَوصوفٌ بإحاطةِ عِلمِه بكُلِّ شَيءٍ؛ للتَّلازُمِ بين تمامِ القُدرةِ وتمامِ العِلمِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/320). .
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ.
أي: ألا إنَّ المُشرِكينَ يَعطِفونَ صُدورَهم ويَطوونَها على الشِّركِ والشَّكِّ في الحَقِّ، وعداوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ، يَظنُّونَ- جَهلًا منهم باللهِ- أنَّ ثَنيَ صُدورِهم يَحجُبُ عن علمِ اللهِ ما يُخفونَه فيها [32] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 201)، ((تفسير ابن جرير)) (12/317، 322)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/38)، ((تفسير القرطبي)) (9/5)، ((تفسير ابن كثير)) (4/305). قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: ]أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْZ، في سبب نزولها خمسة أقوال:... والثاني: أنَّها نزلت في ناسٍ كانوا يَسْتحيون أن يُفضوا إِلى السماءِ في الخلاءِ ومجامعةِ النساءِ، فنزلتْ فيهم هذه الآيةُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/357). وقال ابنُ كثير: (قال ابنُ عبَّاس: كانوا يكرهون أن يَسْتقبِلوا السماءَ بفروجِهم، وحالَ وقاعِهم، فأنزل الله هذه الآيةَ. رواه البخاريُّ [4682] مِن حديثِ ابنِ جريجٍ، عن محمدِ بنِ عبَّاد بنِ جعفرٍ؛ أنَّ ابنَ عباسٍ قرأ: «ألَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي [أي: تستترُ] صُدُورُهُمْ»، فقلتُ: يا أبا عباسٍ، ما «تَثْنَوْنِي صُدُورُهمْ؟» قال: الرجلُ كان يجامعُ امرأتَه فيَسْتَحيي، أو يتخلَّى فيَسْتَحيي فنزلَتْ: «ألَا إنَّهم تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ». وفي لفظٍ آخرَ له [4681]: قال ابنُ عباسٍ: أناسٌ كانوا يَسْتحيون أن يتخلَّوا، فيُفْضوا إلى السماءِ، وأن يجامعوا نساءَهم فيُفضوا إلى السماءِ، فنزَل ذلك فيهم). ((تفسير ابن كثير)) (4/304). !
أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.
أي: ألا إنَّ اللهَ- حين يتغطَّى المُشرِكونَ بثِيابِهم- يَعلَمُ ما يُسرُّونَه وما يُعلِنونَه، من الأقوالِ والأفعالِ، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن سرائرِ عبادِه وعلانِيتِهم [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/323)، ((تفسير القرطبي)) (9/6)، ((تفسير ابن كثير)) (4/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بما تُخفي صدورُ عِبادِه، من العقائدِ والإراداتِ، والأفكارِ والوساوسِ مِن خيرٍ وشَرٍّ [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/323)، ((تفسير ابن كثير)) (4/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 376). .

الفوائد التربوية :

1- قال الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ أشارت الآيةُ إلى أنَّ الاستغفارَ والتَّوبةَ سبَبُ السَّعةِ، وأنَّ الإعراضَ سبَبُ الضِّيقِ، وقَولُه: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ إشارةٌ إلى ثوابِ الآخرةِ، فالتَّوبةُ سببُ طِيبِ العَيشِ في الدُّنيا والآخرةِ [35] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/229). .
2- قال الله تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى سمَّى منافِعَ الدُّنيا بالمتاعِ؛ لأجلِ التَّنبيهِ على حَقارتِها وقِلَّتِها، ونبَّهَ على كونِها مُنقَضيةً بِقَولِه تعالى: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فصارت هذه الآيةُ دالَّةً على كَونِها حقيرةً خَسيسةً مُنقَضيةً [37] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/316). ، ووصفُ المتاعِ بالحسَنِ إنَّما هو لطِيبِ عَيشِ المؤمِنِ برَجائِه في اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي ثَوابِه وفرَحِه بالتَّقرُّبِ إليه بِمَفروضاتِه، والسُّرورِ بمَواعيدِه، والكافِرُ ليس في شيءٍ مِن هذا [38] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/121). .
3- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فيه إعلامٌ بتَفاوُتِ الدَّرَجاتِ في الآخرةِ، وترغيبٌ في العَمَلِ لها [39] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (2/651). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- دلَّ قولُه تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ على أنَّ القرآنَ كلامُ الله مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بَدأ، فلم يبتدئْ مِن غيره مِن الموجوداتِ، وإليه يعودُ [41] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/162). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بناه للمَفعولِ؛ بيانًا لأنَّ إحكامَه أمرٌ قد فُرِغَ منه على أيسَرِ وَجهٍ عنده سبحانه، وأُتقِنَ إتقانًا لا مزيدَ عليه [42] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/225). .
3- العُمرُ يطولُ، والرِّزقُ يُبسَطُ بالتَّوبةِ، والاستغفارِ، والعَمَلِ الصَّالحِ؛ قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من أحبَّ أَن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسأَ له في أثره [43] يُنسَأَ له في أثَرِه: أي: يُؤَخَّرَ له في أجَلِه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/114). ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَه )) [44] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 249). والحديثُ أخرجه البخاريُّ (5986)، ومسلم (2557) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه. .
4- قَولُ الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيه عُطِف الأمرُ بالتوبةِ على الاستغفارِ بحرفِ التراخي (ثمَّ)، وذلك لأنَّ مرتبةَ العَمَلِ متأخِّرةٌ عن مرتبةِ القَولِ؛ فكم من مستغفِرٍ، وهو مصِرٌّ على الذَّنبِ [45] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/7). ، فالتَّائِبُ يستغفِرُ أوَّلًا، ثمَّ يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنبِ المُستغفَرِ منه [46] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (10/431). ، وأيضًا فإنَّه أشار بأداة التَّراخي إلى علوِّ رُتبةِ التَّوبةِ، وأنْ لا سبيلَ إلى طلَبِ الغُفرانِ إلَّا بها [47] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/227). .
5- قَولُ الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فيه سؤالٌ: أنَّنا نجِدُ من لم يستغفِرِ اللهَ ولم يتُب يُمَتِّعه الله متاعًا حَسنًا إلى أجَلِه، أي: يَرزُقه ويوسِّع عليه، أو يُعمِّره، فما فائدةُ التقييدِ بالاستغفارِ والتَّوبةِ؟
الجواب: أنَّ المتاعَ الحَسَن- المقيَّد بالاستغفارِ والتَّوبةِ- هو الحياةُ في الطاعةِ والقَناعةِ، ولا يكونانِ إلَّا للمُستغفِرِ التَّائبِ [48] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:257).
6- قول الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا لَمَّا كان التَّمتيعُ- وهو المتاعُ البالغُ فيه حتى لا يكونَ فيه كدَرٌ- لا يكونُ إلَّا في الجنَّة، جعل المصدرَ مَتَاعًا ووَضَعَ موضِعَ (تَمتيعًا) هذا المصدرَ، ووَصفَه بِقَولِه: حَسَنًا؛ ليدُلَّ على أنَّه أنهى ما يليقُ بهذه الدَّارِ [50] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/227-228). .
7- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ في التَّعبيرِ عن العملِ بالفَضلِ إشارةٌ إلى أنَّه لم يقَع التكليفُ إلَّا بما في الوُسعِ؛ لأنَّ الفَضلَ في الأصلِ ما فضَلَ عن الإنسانِ من كريمِ الشَّمائلِ [51] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/229). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
- قولُه: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فيه طِباقٌ حَسنٌ؛ لأنَّ معنى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: أحكَمَها حكيمٌ، وفصَّلَها- أي: بيَّنَها وشرَحها- خبيرٌ عالِمٌ بكَيفيَّاتِ الأمورِ، ولَفظةُ ثُمَّ جاءت لِتَرتيبِ الأخبارِ، لا لِتَرتيبِ الوقوعِ في الزَّمانِ [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/377)، ((تفسير أبي حيان)) (6/119). .
- وفي بناءِ أُحْكِمَتْ ووَفُصِّلَتْ للمفعولِ، ثمَّ إيرادِ الفاعلِ بعنوانِ الحِكمةِ البالغةِ والإحاطةِ بجَلائلِها ودَقائِقها مُنكَّرًا بالتَّنكيرِ التَّفخيميِّ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، ورَبطِهما به لا على النَّهجِ المعهودِ في إسنادِ الأفاعيلِ إلى قَواعدِها، مع رِعايةِ حُسنِ الطِّباقِ- مِن الجَزالةِ، والدَّلالةِ على فَخامتِهما، وكونِهما على أكمَلِ ما يكونُ، ما لا يُكتَنَهُ كُنهُه [53] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/183). .
2- قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
- جُملةُ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَجُمْلَةِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وهو اعتراضٌ للتَّحذيرِ مِن مُخالَفةِ النَّهيِ، والتَّحريضِ على امتِثالِه [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/316). .
- ولَمَّا كان إرسالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رحمةً للعالَمينَ، قدَّمَ ضَميرَهم، فقال: لَكُمْ مِنْهُ أي: خاصَّةً [55] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/226). .
- قولُه: نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فيه تقديمُ النَّذيرِ؛ لأنَّ الخطابَ وُجِّه أوَّلًا إلى المشركينَ [56] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/7). ، ولأنَّ التخويفَ أهمُّ إذ يحصُل به الانزجارُ [57] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/120)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/281). .
3- قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
- في قولِه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ تقدَّم أمْرانِ بينَهما تراخٍ، ورُتِّب عليهما جَوابان بينَهما تَراخٍ؛ ترتَّب على الاستغفارِ التَّمتيعُ المتاعَ الحسَنَ في الدُّنيا، كما قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا الآياتِ [نوح: 10-11] ، وتَرتَّب على التَّوبةِ إيتاءُ الفضلِ في الآخِرةِ، وناسَب كلُّ جوابٍ لِما وقَع جوابًا له؛ لأنَّ الاستغفارَ مِن الذَّنبِ أوَّلُ حالِ الرَّاجعِ إلى اللهِ، فناسَب أن يُرتَّبَ عليه حالُ الدُّنيا، والتَّوبةُ هي المنجِّيةُ من النَّارِ، والَّتي تُدخِلُ الجنَّةَ، فناسَبَ أن يُرتَّب عليها حالُ الآخِرةِ [58] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/121). .
- قولُه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ فيه تأكيدُ جملةِ الجزاءِ: فَإِنِّي أَخَافُ بـ (إنَّ)، وبكونِ المسنَدِ إليه فيها (الضَّميرِ) اسمًا مُخبَرًا عنه بالجُملَةِ الفِعليَّةِ أَخَافُ؛ لِقَصدِ شدَّةِ تأكيدِ تَوقُّعِ العذابِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/319). .
- قولُه: يَوْمٍ كَبِيرٍ فيه تنكيرُ (يومٍ)؛ للتَّهويلِ؛ لِتَذهَبَ نفوسُهم إلى الاحتمالِ الممكِنِ أن يَكونَ يومًا في الدُّنيا أو في الآخِرَةِ؛ لأنَّهم كانوا يُنكِرون الحشرَ، فتَخْويفُهم بعذابِ الدُّنيا أوقَعُ في نُفوسِهم، ووَصفُه بالكبيرِ؛ لزِيادةِ تَهويلِه [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/319). .
- وقَدَّم بِشارةَ المُؤمِنينَ، وأخَّرَ إنذارَ الكافرينَ المُصرِّينَ؛ تأليفًا لهم، لأنَّ تواليَ الإنذارِ مُنفِّرٌ من الاستماعِ، مُغرٍ بالتَّولِّي والإعراضِ [61] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/9). .
4- قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- قولُه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، جملةٌ في موضعِ التَّعليلِ للخَوفِ عليهم؛ فلذلك فُصِلَت، أي:لم تُعطَفْ بالواوِ على الَّتي قبلَها [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/319). .
وتضَمَّنَت هذه الجملةُ تهديدًا عظيمًا، حيثُ صرَّح بالبعثِ، وذكَر أنَّ قُدرتَه عامَّةٌ لجميعِ ما يَشاءُ- ومِن ذلك البعثُ- فهو لا يُعجِزُه ما شاء مِن عَذابِهم [63] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/121). .
- وفي قولِه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ تقديمُ المجرورِ إِلَى اللَّهِ على عامِلِه: مَرْجِعُكُمْ؛ للاهتمامِ والتَّقوِّي، وليس المرادُ منه الحَصْرَ؛ إذ هم لا يَحسَبون أنَّهم مُرجَعون بعدَ الموتِ، فضلًا عن أن يَرجِعوا إلى غيرِه [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/319). .
- قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقريرٌ لِما سلَف مِن كِبَرِ اليومِ، وتعليلٌ للخوفِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/184- 185). .
5- قولُه تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- قولُه: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، فيه افتِتاحُ الكلامِ بحَرفِ التَّنبيهِ: أَلَا؛ للاهتمامِ بمَضمونِه؛ لِغَرابةِ أمْرِهم المحكيِّ، وللعنايةِ بتَعليمِ إحاطةِ عِلمِ اللهِ تعالى [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/320). ، وإشعارًا بأنَّ ما يَعقُبها مِن هَناتِهم [67] هَنَات: أي: خِصالُ سُوءٍ. يُنظر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/381)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/366). أمرٌ يَجِبُ أن يُفهَمَ، ويُتعجَّبَ منه؛ لأنه لَمَّا أُلقيَ إليهم فحْوَى الكِتابِ على لِسانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسِيق إليهم ما يَنبغي أن يُساقَ من التَّرغيب والتَّرهيبِ، وقَعَ في ذِهنِ السَّامعِ أنَّهم بعدَ سماعِهم مِثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صُمُّ الجبالِ؛ هل قابَلُوه بالإقبالِ أم تَمادَوْا فيما كانُوا عليهِ من الإعراضِ والضلالِ؛ فقيل لذلك: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ مُصدَّرًا بكلمة التَّنبيهِ [68] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/184- 185). ؛ ليتأمَّلَ السَّامِعُ حالَ المشركينَ، وصِفتَهم عندَ تبليغِهم الدَّعوةَ، وإقامة الحجَّة، ويتصوَّرَها في صِفتِها الغَريبةِ الدَّالَّةِ على أعراضِ الحَيرةِ والعَجزِ، ومنتهى الجَهلِ [69] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/9). .
- وأيضًا في قولِه: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ... تمثيلٌ لحالةِ إضمارِهم العداوَةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نُفوسِهم، وتمويهُ ذلك عليه وعلى المؤمِنين به بحالِ مَن يَثْني صَدرَه لِيُخفِيَه، ومَن يَستَغْشي ثوبَه على ما يُريد أن يَستُرَه به [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/322). . وذلك على أحدِ أوجُهِ تأويلِ الآيةِ.
- قولُه: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ فيه تقديمُ السِّرِّ على العلَنِ؛ نعيًا عليهم مِن أوَّلِ الأمرِ ما صنَعوا، وإيذانًا بافتِضاحِهِم ووقوعِ ما يَحذَرونه، وتحقيقًا للمُساواةِ بين العِلْمَين على أبلَغِ وجهٍ؛ فكأنَّ عِلمَه بما يُسِرُّونه أقدَمُ منه بما يُعلِنونه [71] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/186). .
- قولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تعليلٌ لما سبَق، وتقريرٌ له، وفي صِيغةِ الفَعِيلِ عَلِيمٌ، وتَحْليةِ الصُّدُورِ بلامِ الاستغراقِ، والتَّعبيرِ عن الضَّمائرِ بعنوانِ صاحِبيَّتِها- فالضمائرُ لا تكادُ تفارقُ الصدورَ بل تلازمُها وتصاحبُها-: منَ البراعةِ ما لا يَصِفُه الواصِفون، كأنَّه قيلَ: إنَّه مبالِغٌ في الإحاطةِ بمُضمَراتِ جميعِ النَّاسِ، وأسرارِهم الخفيةِ المستكنَّةِ في صُدورِهِم، بحيثُ لا تُفارِقُها أصلًا؛ فكيف يَخْفى عليه ما يُسِرُّون وما يُعلِنونَ [72] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/186) و (2/102). ؟!