موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بالبابيَّةِ وزَعيمِها ونَشأتُها


زَعيمُ البابيَّةِ الأوَّلُ هو الميرزا عَليُّ بنُ مُحَمَّد رِضا الشِّيرازيُّ المَولودُ سَنةَ 1235هـ في بَلدةِ شيرازَ جَنوبيَّ إيرانَ، وقد نسبَ بَعضُهم أسرتَه إلى آلِ البَيتِ، ولَعَلَّ الذين أطلَقوا عليه تلك النِّسبةَ فعلوا ذلك مِن أجلِ أن يُطبِّقوا الرِّواياتِ التي تذكُرُ أنَّ المَهديَّ مِن آلِ البيتِ، فيُسَلَّمَ لهم حينَئِذٍ زَعمُهم بأنَّ مُحَمَّد عَلي الشِّيرازيَّ هو المَوعودُ المُنتَظَرُ، وقد توفِّي والدُه وهو صَغيرٌ، فقامَ بكفالَتِه خالُه الميرزا عَلي، فلَمَّا بَلغَ السَّادِسةَ مِن عُمرِه عَهِد به خالُه إلى رَجُلٍ يُسَمَّى الشَّيخَ عابدًا -وهو أحَدُ تَلامِذةِ الرَّشتيِّ، والرَّشتيُّ هو تِلميذُ أحمَدَ الأحسائيِّ وخَليفتُه في طَريقَتِه الشَّيخيَّةِ- لتَعليمِه في مَدرَسَتِه التي سَمَّاها: قَهوةَ الأنبياءِ والأولياءِ، وبَعدَ حُصولِه على قِسطٍ مِنَ التَّعَلُّمِ عَزَف عنِ المواصَلةِ، فأشرَكه خالُه في التِّجارةِ ببَيعِ الأقمِشةِ، وبَرَعَ فيها مَعَ خالِه الآخَرِ الميرزا مُحَمَّدٍ.
ولمَّا بَلَغَ السَّابعةَ عَشرةَ مِن عُمرِه اتَّصَلَ به أحَدُ دُعاةِ الرَّشتيَّةِ، ويُسَمَّى جَوادَ الكَربَلائيَّ الطَّباطَبائيَّ، وبَدَأ يُلقي في مَسامِعِه أفكارَ الشَّيخيَّةِ عن قُربِ خُروجِ المَهديِّ المُنتَظَرِ، ويوهِمُه بأنَّه رُبَّما يكونُ هو نَفسُه -أي عَليّ مُحَمَّد الشِّيرازيُّ- هو المَهديَّ؛ لظُهورِ عَلاماتٍ تَدُلُّ على ذلك -بحَسبِ زَعمِه- فوقَعَ الشِّيرازيُّ في فخِّه وتَرَك التِّجارةَ، ومالَ إلى قِراءةِ كُتُبِ الصُّوفيَّةِ، ومارَسَ شَتَّى الرِّياضاتِ الرُّوحيَّةِ، حتَّى إنَّه كان -كما قيلَ عنه- يقِفُ في حَرِّ الظَّهيرةِ المُحرِقةِ تَحتَ أشِعَّةِ الشَّمسِ على سَطحِ البَيتِ مَكشوفَ الرَّأسِ عاريَ البَدَنِ مستقبِلًا قُرصَ الشَّمسِ، حتَّى كان يعتَريه الذُّهولُ والوُجومُ، ويتَأثَّرُ عَقلُه، وكان الكَربَلائيُّ ملازمًا له ويُحَرِّضُه على هذا المَسلَكِ، فأشفقَ عليه خالُه وأرسَله إلى النَّجَفِ وكَربَلاءَ للاستِشفاءِ بزيارةِ المَشاهدِ التي يُقدِّسونَها هناك، إلَّا أنَّه في كربَلاءَ بَدَأ يتَرَدَّدُ على مَجالسِ كاظِمٍ الرَّشتيِّ ويدرُسُ أفكارَه وآراءَ الشَّيخيَّةِ، وكان الرَّشتيُّ أيضًا قد وقَعَ اختيارُه على هذا الشِّيرازيِّ، فكان يُبَشِّرُ أتباعَه ومُريديه وتَلاميذَه باقتِرابِ الأوانِ لظُهورِ المَهديِّ، ويُشيرُ إلى الميرزا عَلي مُحَمَّد الشِّيرازيِّ، ويُبالغُ في إكرامِه.
وبَعدَ مَوتِ كاظِمٍ الرَّشتيِّ سنة 1259ه رحل عَلي مُحَمَّد الشِّيرازيُّ إلى شيرازَ فلَحِقَ به حُسَينٌ البَشروئيُّ كبيرُ تَلامِذةِ الرَّشتيِّ، وأقنَعَه أنَّ الرَّشتيَّ كان يُشيرُ إلى أنَّ عَلي مُحَمَّد رِضا الشِّيرازيَّ يُمكِنُ أن يكونَ هو البابَ الموصِلَ للمَهديِّ المُنتَظَرِ، وأنَّ البَشروئيَّ هو بابُ البابِ.
ولَفظُ البابِ أي (الواسِطةُ الموصِلةُ إلى الحَقيقةِ الإلهيَّةِ) هو مُصطَلَحٌ شيعيٌّ شائِعٌ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ التي ظَهَرَت بَينَها هذه البدعةُ المَأخوذةُ مِن حَديثِ: ((أنا مَدينةُ العِلمِ، وعَليٌّ بابُها)) [3757] أخرجه العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (3/149)، والطبراني (11/65) (11061)، والحاكم (4637) مطولًا من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. قال يحيى بن معين كما في ((تاريخ بغداد)) للمِزِّي (11/ 205): كَذِبٌ، ليس له أصلٌ، مُنكَرٌ جدًّا، وقال الإمام أحمد في ((العلل ومعرفة الرجال)) (3/ 9): ليس له أصلٌ، كَذِبٌ، وقال العقيليُّ: لا يصِحُّ في هذا المتنِ حديثٌ، وقال ابنُ حبَّان في ((المجروحين)) (2/ 136): لا أصلَ له. .
وقد قيلَ بأنَّه كان يُساعِدُ البَشروئيَّ في غَرسِ هذه الفِكرةِ في ذِهنِ الشِّيرازيِّ: الجاسوسُ الرُّوسيُّ الذي كان يعمَلُ مُتَرجِمًا في سِفارةِ روسيا في إيرانَ "كنياز دالكوركي" أو "عيسى اللَّنكرانيُّ" -كما سَمَّى نَفسَه- والذي قيلَ: إنَّه تَظاهَرَ بالإسلامِ وواظَبَ على حُضورِ مَجالسِ الرَّشتيِّ، وفيها تَعَرَّف على عَلي مُحَمَّد رِضا الشِّيرازيِّ، وكان كنياز دالكوركي يحرِصُ على إلقاءِ فِكرةِ أنَّ عَلي رِضا هو البابُ في ذِهنِه وفي ذِهنِ بَقيَّةِ التَّلاميذِ، وهذا بحَسبِ ما ورَدَ في مُذَكِّراتِه التي نُشِرَت في مَجَلَّةِ الشَّرقِ السُّوفيِتيَّةِ سَنة 1924-1925م، وبَعضُ المُؤَرِّخينَ الإيرانيِّينَ ينفونَ صِحَّةَ هذه المُذَكِّراتِ ويرَونَ أنَّها مُختَلَقةٌ. إلَّا أنَّ الثَّابتَ اهتِمامُ الرُّوسِ عُمومًا بهذه الطَّائِفةِ، حتَّى إنَّ قَيصَر روسيا أرسَلَ إلى القُنصُلِ الرُّوسيِّ في تِبريزَ -قَبلَ هَلاكِ البابِ بقَليلٍ- يأمُرُه أن يبحَثَ هذه الحَرَكةَ ويكتُبَ عنها تَقريرًا وافيًا [3758] يُنظر: ((القرن البديع)) لشوقي أفندي (ص: 80). .
وأيًّا ما كان فقد أعلَنَ الشِّيرازيُّ أنَّه البابُ سَنةَ 1260ه الموافِقِ لسَنةِ 1844م، وطارَ البَشروئيُّ في الآفاقِ يُعلنُ أنَّه بابُ البابِ.
وكان عُمرُ البابِ الشِّيرازيِّ آنَذاك خمسًا وعِشرينَ سَنةً، واعتُبِرَ ذلك اليومُ عيدَ المَبعَثِ لظُهورِ البابِ ودَعوتِه جَهرًا، وآمَن بدَعوتِه عَدَدٌ مِن زُعَماءَ الشَّيخيَّةِ، وأهَمُّهم ثَمانيةَ عَشَرَ شخصًا، ومَجموعُ هذا العَدَدِ في حُروفِ (حي)؛ لأنَّ الحاءَ والياءَ يُعادِلُها ثَمانيةَ عَشَرَ بحِسابِ أبجَد هَوَّز، ثُمَّ توزَّعُ هؤلاء في أقاليمَ مُختَلفةٍ مِن إيرانَ وتُركستانَ والعِراقِ، وكان لهم نَشاطٌ في الدَّعوةِ إلى البابيَّةِ؛ خصوصًا زرين تاج بنتَ المُلَّا صالح القَزوينيِّ المُلَقَّبةَ بقُرَّةِ العَينِ وبالطَّاهرةِ، والمَلَّا حُسَين البَشروئيَّ، والمَلَّا مُحَمَّد عَلي الزِّنجانيَّ، والمَلا حُسَين اليزديَّ، والمَلَّا البارفروشيَّ [3759] يُنظر: ((البابية المقال الأول)) (ص: 45)، ويُنظر: ((البهائية تاريخها وعقائدها)) للوكيل (ص: 75). ويُنظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) لمحسن عبد الحميد (الميرزا الفصل الأول المرزا علي محمد الباب) (ص: 39). .
فصارَ عَدَدُهم مَعَ البابِ الشِّيرازيِّ تِسع عَشرةَ نفسًا، والرَّقمُ 19 صارَ مُقدَّسًا عِندَهم؛ فجَعَلوا السَّنةَ 19 شهرًا، والشَّهرَ 19 يومًا، واعتَمَدوا هذا الرَّقمَ في عَدَدٍ مِن أحكامِهم وشَرائِعِهم كما سَيأتي، وحتَّى في هَندَسةِ بَعضِ أبنيتِهم أو حَدائِقِهم. وما لَبِثَ الميرزا عَلي مُحَمَّد رِضا الشِّيرازيُّ -بَعدَ ما ادَّعى أنَّه بابُ المَهديِّ- أنِ ادَّعى أنَّه هو المَهديُّ نَفسُه، ثُمَّ ادَّعى بَعدَها أنَّه رَسولٌ، بل أعظَمُ مِن جَميعِ الرُّسُلِ، وأنَّه المُمَثِّلُ الحَقيقيُّ لجَميعِ الرُّسُلِ والأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ؛ فهو نوحٌ يومَ بُعِثَ نوحٌ، وهو موسى يومَ بُعِثَ موسى، وهو عيسى يوم بُعِثَ عيسى، وهو مُحَمَّدٌ يومَ بُعِثَ مُحَمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وألَّف كِتابَ (البَيان) وادَّعى أنَّه وحيٌ، وأنَّه ناسِخٌ لِما قَبله، وأنَّه جاءَ ليجمَعَ بَينَ اليهوديَّةِ والمَسيحيَّةِ والإسلامِ، وأنَّه لا فرقَ بَينَهم، ثُمَّ ادَّعى أنَّه مَظهَرُ اللَّهِ الذي تَتَجَلَّى فيه إرادَتُه [3760] يُنظر: ((البابية عرض ونقد)) لظهير (ص: 182). !
قال بُروكلمانُ: (بَعدَ انقِضاءِ ألفِ سَنةٍ تمامًا على غَيبةِ الإمامِ الثَّاني عَشَرَ، الذي كانتِ الاثنا عَشريَّةِ تَتَرَقَّبُ ظُهورَه، استَشعَرَ أنَّه مَدعوٌّ على حَدِّ قَولِه إلى أن يكونَ البابَ الذي يستَطيعُ البَشَرُ الاتِّحادَ بواسِطَتِه مَعَ الإمامِ مُنفِّذِ الإرادةِ الإلهيَّةِ. صَحيحٌ أنَّ عَقيدةَ البابِ هذه -التي دُعِي أتباعُه نِسبةً إليها بالبابيَّةِ- كانت مِنَ العَقائِدِ التي قال بها الشِّيعةُ دائمًا، وبخاصَّةٍ الشَّيخيَّةُ مِنهم، ولَكِن عَلي مُحَمَّد ذَهَبَ إلى أبعَدَ مِنها، وسَمَّى نَفسَه فيما بَعدُ "نُقطةً أعلى" (النُّقطةَ العُليا) أو "نُقطةَ بَيان" (نُقطةَ البَيانِ)، أي الوحيَ. ثُمَّ دَعا نَفسَه "القائِمَ" أي الرَّجُلَ الذي سيقومُ مِن آلِ الرَّسولِ في آخِرِ الزَّمانِ. وكان آخِرَ ما ذَهَبَ إليه أنَّه تَجَسُّدٌ للوحيِ الإلهيِّ ذاتِه الذي ظَهَرَ على الأرضِ لآخِرِ مَرَّةٍ، قَبلَ ظُهورِه هو بـ: 1270 سَنةً، في شَخصِ مُحَمَّدٍ الرَّسولِ! ومَعَ الأيَّامِ ازدادَ تَباعُدُه شيئًا بَعدَ شَيءٍ عنِ العَقائِدِ الإسلاميَّةِ الأساسيَّةِ التي لَزِمَها بادئَ الأمرِ؛ ليخطوَ خُطواتٍ أُخرى في سَبيلِ تَكوينِ عَقيدَتِه الخاصَّةِ. وبَينا لم يرغَبْ أوَّلَ الأمرِ إلَّا في أن يُعتَبرَ الإمامَ المَهديَّ الذي بَشَّرَ مُحَمَّدٌ بظُهورِه، كما بَشَّرَ المَسيحُ بظُهورِ مُحَمَّدٍ عَينِه في "البارقليط"؛ فإنَّنا نَجِدُه يدعو نَفسَه بَعدَ ذلك "المِرآةَ" التي يستَطيعُ المُؤمِنونَ أن يُشاهِدوا بها اللَّهَ نَفسَه، وكما أُيِّدَت نُبوَّةُ مُحَمَّدٍ بالتَّنزيلِ فقد تَجَلَّت دَعوةُ البابِ بـ "البَيان") [3761] ((تاريخ الشعوب الإسلامية)) (ص: 665، 666). .
ولم يُقدِّمِ البابُ الشِّيرازيُّ زَعيمُ البابيَّةِ الأدِلَّةَ على صِحَّةِ دَعَوتِه تلك؛ فهي دَعوى مُجَرَّدةٌ بلا دَليلٍ ولا بُرهانٍ. وقد كان الأنبياءُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا دَعَوا قَومَهم إلى الإيمانِ قدَّموا لهمُ الدَّليلَ الكافيَ لإقناعِهم بصِدقِ دَعواهم. وهو بذلك سُبحانَه يُقيمُ الحُجَّةَ للأنبياءِ ويقطَعُ الطَّريقَ على الضَّالِّينَ، فلا يستَطيعونَ إضلالَ النَّاسِ [3762] ((عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية)) لأحمد الغامدي (ص: 214- 218). .
ودَعوةُ البابِ تلك كانت فُرصةً ذَهَبيَّةً للحاقِدينَ على الإسلامِ وطالبي هَدمِه وتَحريفِه وإضلالِ أهلِه، فقيلَ: إنَّ زُعَماءَ الإنجِليزِ والرُّوسِ سَعَوا إلى حِمايةِ هذه الطَّائِفةِ، ومَدِّها بالأسلحةِ [3763] يُنظر: ((البهائية رأس الأفعى)) لمجموعة من الكتاب (ص: 10، 11). .
ومِمَّا يُثيرُ الرِّيبةَ حَقًّا انضمامُ عددٍ مَن يهودِ إيرانَ تَحتَ لواءِ هذه الحَرَكةِ بصورةٍ جَماعيَّةٍ؛ ففي طِهرانَ دَخَلَ فيها (150) يهوديًّا، وفي هَمَذانَ (100) يهوديٍّ، وفي كاشانَ (50) يهوديًّا، وفي كلباكليا (85) يهوديًّا، كما دَخَلَ حَبرانِ مِن أحبارِ اليهودِ إلى البابيَّةِ في هَمذانَ، وهما الحَبرُ الباهو والحَبرُ زار.
وقد ثارَ العُلَماءُ في شيرازَ على دُعاةِ البابيَّةِ؛ فقُبضَ على البابِ وأُحضِرَ مِن بوشهر إلى مَجلسِ الحاكِمِ، ثُمَّ رُميَ به في السِّجنِ سَنة 1847م.
ولقد كان لحاكِمِ شيرازَ حُسَين خان مَواقِفُ حازِمةٌ ضِدَّ البابِ الشِّيرازيِّ وأتباعِه؛ حَيثُ استَدرَجَ الشِّيرازيَّ وألانَ له القَولَ، واعتَذَرَ عَمَّا صَدَرَ مِنه مِن إهانةٍ له ولأتباعِه سابقًا، وأوهمه أنَّه قد تابَعَه أيضًا على فِكرةِ البابيَّةِ وسائِرِ الدَّعاوى التي جاءَ بها البابُ، ثُمَّ استَدعى الحاكِمُ العُلَماءَ ليُقيمَ عليهمُ الحُجَّةَ في صِدقِ البابِ كما أوهمَه، وكان قد عَهدَ إليهم بأن يصبروا في مُخاتَلةِ الرَّجُلِ وأخذِ الاعتِرافِ مِنه بخَطِّ يدِه في سائِرِ عَقائِدِه الباطِلةِ، وأوهمَه بأنَّ كُلَّ مَن سَيجرُؤُ على إظهارِ الكُفرِ به فسَيكونُ القَتلُ مَصيرَه؛ فاطمَأنَّ البابُ وحَضَرَ مَجلسَ العُلَماءِ ثابتَ الجَنانِ ثُمَّ بادَأ الجَميعَ بقَولِه: إنَّ نَبيَّكم لم يُخَلِّفْ لكم بَعدَه غَيرَ القُرآنِ، فهاكم كِتابي البَيانَ، فاتْلوه واقرَؤوه.
وكظَمَ العُلَماءُ ثَورَتهم، ثُمَّ طَلَبَ الحاكِمُ إلى البابِ أن يُسَجِّلَ ما يدعوه إليه كِتابةً، ففعَلَ ذلك، ثُمَّ نَظَرَ العُلَماءُ فيما كتَبَه الشِّيرازيُّ، فإذا به ينضَحُ كُفرًا وخروجًا عنِ الإسلامِ، ووجَدوا به أخطاءً فاحِشةً في اللُّغةِ، فلمَّا كلَّموه فيها ألقى اللَّومَ على الوحيِ الذي جاءَ بها هَكذا! ثُمَّ أُلقيَ به في السِّجنِ [3764] يُنظر: ((البهائية)) للوكيل (ص: 85- 87). ، ولَكِنَّ أتباعَه ظَلُّوا يَنشُرونَ فِكرَه في الخارِجِ.
ولمَّا تَجاوزَ الأمرُ الحَدَّ، واستَيقَظَتِ الحُكومةُ في إيرانَ على مَدافِعِ هؤلاء وبَنادِقِهم، ويدعونَ إلى ظُهورِ المَهديِّ وإلى كِتابِه المُقدَّسِ، اجتَمَعَ عَدَدٌ كبيرٌ مِنَ العُلَماءِ والفُقَهاءِ وكفَّروا البابَ وأعلَنوا مُروقَه عنِ الإسلامِ ووُجوبَ قَتلِه بالأدِلَّةِ الدَّامِغةِ. إلَّا أنَّ حاكِمَ وِلايةِ أصبهانَ الذي تَظاهَرَ بالإسلامِ -ويُسَمَّى منوجهر خان الأرمَني، وهو صَليبيُّ العَقيدةِ والهَوى، وغَمَرَه الشَّاهُ بالفَضلِ وأولاه ثِقَتَه وعَيَّنَه معتَمَدًا للدَّولةِ في أصفهانَ- استَطاعَ تَهريبَ الشِّيرازيِّ مِنَ السِّجنِ وإخفاءَه في قَصرِه معزَّزًا مكرَّمًا؛ ليطعَنَ به الإسلامَ والمُسلمينَ مِنَ الخَلفِ. وكان الشِّيرازيُّ يُصدِرُ تَوجيهاتِه إلى أتباعِه مِن هذا المَخبَأِ، إلى أن توُفِّي هذا الحاكِمُ وخَلفَه جورجين خان، فكتَبَ هذا إلى الحُكومةِ في طِهرانَ يُخبرُهم عن وُجودِ الشِّيرازيِّ، فأُلقيَ عليه القَبضُ وأمرَ الميرزا أقاس رَئيسَ الوُزَراءِ أن يعتَقِلَ الشِّيرازيَّ في قَلعةِ ماكو بأذرَبيجانَ، ومَكثَ معتَقَلًا حَوالَي ثَلاثِ سَنَواتٍ.
وحينَ أحَسَّ البابيُّونَ مِن أنفُسِهمُ القوَّةَ، وكان زَعيمُهمُ البابُ معتَقَلًا، قَرَّروا عَقدَ مُؤتَمَرٍ لهم ليبحَثوا فيه:
- كيفيَّةَ تخليصِ البابِ مِنَ السِّجنِ حتَّى ولَو بالقوَّةِ.
- بَحثَ مَسألةِ نَسخِ شَريعةِ الإسلامِ.
وقد تَمَّ بالفِعلِ عَقدُ هذا المُؤتَمَرِ في صَحراءِ (بدَشْت) بإيرانَ وحَضَرَ فيه جَميعُ زُعَماءِ البابيَّةِ، وكان مِن بَينِهم قُرَّةُ العَينِ زرين تاج.
وبَعدَ انفِضاضِ المُؤتَمَرِ وتَسَرُّبِ أنبائِه ثارَت ثائِرةُ رِجالِ الدِّينِ والدَّولةِ في إيرانَ، فطَلَب الشَّاهُ مِن وليِّ عَهدِه ناصِرِ الدِّينِ، وهو في تِبريزَ، أن يُحضِرَ البابَ من سِجنِه، فأقَرَّ البابُ أمامَ العُلَماءِ بأنَّه جاءَ بدينٍ جَديدٍ، فوجَّهَ إليه العُلَماءُ هذا السُّؤالَ: ما النَّقصُ الذي رَأيتَه في دينِ الإسلامِ، وما الذي كمَّلتَ به هذا النَّقصَ لو كان؟ فأُرتِجَ على الدَّعيِّ ولم يَجدْ شَيئًا، فاستَقَرَّ الرَّأيُ على وُجوبِ قَتلِه مرتدًّا بَعدَ أن أطبَقَ العُلَماءُ على كُفرِه ورِدَّتِه.
وانفتَحَت على حُكومةِ طِهرانَ مَصائِبُ كثيرةٌ مِنَ البابيِّينَ، فرَأت -وعلى رَأسِها ناصِرُ الدِّينِ شاه القاجاريُّ- قَتلَ الشِّيرازيِّ رَأسِ الفِتنةِ، فجيءَ به وأظهَر تَراجُعَه، ولَكِن لم يكُنْ لينفَعَه الاستِمرارُ على خِداعِه ومُراوغَتِه، فتَقَرَّرَ قَتلُه وقَتلُ كِبارِ أتباعِه المَسجونينَ مَعَه في صَبيحةِ يومِ الاثنَينِ 27 مِن شَعبانَ سَنةَ 1265هـ. ثُمَّ امتَدَّ القَتلُ بَعدَ ذلك إلى جَميعِ زُعَماءِ البابيَّةِ، مِثلُ قُرَّةِ العَينِ، والكاشانيِّ، وغَيرِهما [3765] يُنظر: ((البهائية)) للوكيل (ص: 107)، ((البابية عرض ونقد)) لظهير (ص: 92)، ((دراسات عن البهائية والبابية)) لحب الدين الخطيب وجماعة (ص: 19). .
وقد نَقَلَ بَهاءُ اللَّهِ رُفاتَه إلى جَبَلِ الكِرْمِلِ في مِنطَقةِ حَيفا شَمالَ فِلَسطينَ.
قال البَهائيُّ شَوقي أفندي في سياقِ حَديثِه عنِ التَّأثُّرِ العالَميِّ لمَقتَلِ البابِ الشِّيرازيِّ: (ألَحَّت سارة برنارد وهي مُمَثِّلةٌ مَسرَحيَّةٌ فرَنسيَّةٌ مَشهورةٌ على كاتل منديس وهو شاعِرٌ وكاتِبٌ مَسرَحيٌّ فرَنسيٌّ أن يضَعَ مَسرَحيَّةً تَرتَكِزُ على هذه المَأساةِ التَّاريخيَّةِ. وفي 1903م قامَت شاعِرةٌ روسيَّةٌ وعُضوةٌ في الجَمعيَّةِ الفلسَفيَّةِ وجَمعيَّةِ المُستَشرِقينَ وجَمعيَّةِ الخِدماتِ المَكتَبيَّةِ في سانت بيترسبرغ بنَشرِ مَسرَحيَّةٍ بعُنوانِ "البابُ"، مُثِّلَت بَعدَ سَنةٍ على أحَدِ مَسارِحِ المَدينةِ الرَّئيسةِ، ثُمَّ انتَشَرَ صَداها في لَندَنَ انتِشارًا واسِعًا، وتُرجِمَت إلى الفرَنسيَّة في باريسَ، وإلى الألمانيَّةِ بقَلمِ الشَّاعِرِ فيدلر، ومُثِّلَت مَرَّةً أُخرى بَعدَ الثَّورةِ الرُّوسيَّةِ مُباشَرةً على مَسرَحِ الشَّعبِ في لننغراد، ونَجَحَت في إثارةِ العَطفِ الأصيلِ والاهتِمامِ العَظيمِ لدى تولستوي الشَّهيرِ، الذي نَشَرَ تَقريظَه للمَسرَحيَّةِ الشِّعريَّةِ في الصُّحُفِ الرُّوسيَّةِ فيما بَعدُ) [3766] ((القرن البديع)) (ص: 81). .
ثُمَّ رَثاه شَوقي أفندي بقَولِه: (إنَّ حَضرةَ البابِ الذي مَجَّدَه حَضرةُ بَهاءِ اللَّهِ بأنَّه "جَوهَرُ الجَواهرِ" و"بَحرُ البُحورِ" و"النُّقطةُ التي تَدورُ حَولها أرواحُ النَّبيِّينَ والمُرسَلينَ"، والذي به "فُصِلَ مِنَ النُّقطةِ عِلمُ ما كان وما يكونُ" والذي "قدرُه أعظَمُ مِن كُلِّ الأنبياءِ" و"أمرُه أعلى وأرفعُ مِن عِرفانِ كُلِّ الأولياءِ وإدراكِهم"، قد بَلَّغَ رِسالَتَه وأدَّى مُهمَّتَه. هذا "الصُّبحُ الصَّادِقُ المُبَشِّرِ بالنَّيِّرِ الأعظَمِ الأبهى"، حَسبَما قَرَّرَ حَضرةُ عَبدِ البَهاءِ، هذا الذي أشارَ مُقدِّمُه إلى انتِهاءِ دَورِ "الوُعودِ والنُّبوَّاتِ"، وافتِتاحِ "دَورِ الوفاءِ بالوُعودِ وتَحَقُّقِ النُّبوَّاتِ") [3767] ((القرن البديع)) (ص: 82). .

انظر أيضا: