الموسوعة الفقهية

الفَرْعُ الأوَّلُ: أخْذُ الأُجْرةِ على الأذانِ والإمامةِ


اخْتَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِ أَخْذِ الأُجْرةِ على الأذانِ والإمامةِ على أقْوالٍ، أقْواها قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ أخْذُ الأُجْرةِ على الأذانِ والإمامةِ [138] ولكن تَجوزُ المُكافأةُ وأخْذُ الجُعْلِ. قالَ ابنُ بازٍ: (لا بأسَ أن يَأخُذَ المُساعَدةَ والمُكافَأةَ في إمامةِ المَسجِدِ؛ لأنَّ الإمامةَ تَحبِسُه، وهكذا الأذانُ، لكن إذا تَرَكَ ذلك وأغْناه اللهُ، فهو أَفضَلُ، إذا تَبَرَّعَ بذلك واسْتَغْنى عن ذلك بما أعْطاه اللهُ مِن الرِّزْقِ الحَلالِ فهذا طَيِّبٌ، ومَن احْتاجَ إلى ذلك فلا بأسَ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (19/340). وقالَ أيضًا: (فالحاصِلُ أنَّ المُؤَذِّنَ إذا دُفِعَ إليه ما يُعينُه على أداءِ الأذانِ لحاجتِه إليه، فلا حَرَجَ عليه في ذلك؛ لأنَّ الأذانَ يَحبِسُه يَحْتاجُ إلى أوقاتٍ، فإذا أخَذَ ما يُعينُه على ذلك فلا حَرَجَ عليه في ذلك، لكن مَن وَسَّعَ اللهُ عليه وأَحَبَّ أن يَعمَلَ مِن دونِ شيءٍ مِن بَيْتِ المالِ، فذلك أَفضَلُ وأَكمَلُ؛ لأنَّه حينَئذٍ تكونُ قُرْبتُه كامِلةً ليس فيها شيءٌ مِن النَّقْصِ، بلْ عَمِلَ عَمَلَه للهِ، يَعْني كامِلًا ومِن دونِ شائِبةٍ، أمَّا مَن أخَذَ مِن بَيْتِ المالِ فلا حَرَجَ عليه؛ لأنَّ بَيْتَ المالِ للمُسلِمينَ عامَّةً، ولا سيَّما المَصالِحِ، كالأذانِ والإمامةِ وأشْباهِ ذلك). ((فتاوى نور على الدرب)) (6/349). وقالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (...أمَّا الجَعالةُ؛ بأن يقولَ: مَن أذَّنَ في هذا المَسجِدِ فله كَذا وكَذا دونَ عَقْدٍ وإلْزامٍ، فهذه جائِزةٌ؛ لأنَّه لا إلْزامَ فيها، فهي كالمُكافأةِ لمَن أذَّنَ، ولا بأسَ بالمُكافأةِ لمَن أذَّنَ، وكذلك الإقامةُ). ((الشرح الممتع)) (3/49). وقالَ: (... أن يَأخُذَ عِوَضًا على هذا العَمَلِ على سَبيلِ الجَعالةِ، مِثلُ أن يقولَ قائِلٌ: مَن قامَ بالأذانِ في هذا المَسجِدِ فله كَذا وكَذا، أو مَن قامَ بالإمامةِ في هذا المَسجِدِ فله كَذا وكَذا، فالصَّحيحُ مِن أقْوالِ أهْلِ العِلمِ في هذه المَسْألةِ أنَّ ذلك جائِزٌ؛ لأنَّ هذا العَمَلَ ليس أجْرةً وليس مُلزِمًا). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/164). ، وهو مَذهَبُ الحَنابِلةِ [139] ((الفروع)) لمحمد بن مفلح (5/269، 270)، ((الإنصاف)) للمرداوي (6/35)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/291). ، ومُتَقدِّمي الحَنَفِيَّةِ [140] ((المبسوط)) للسرخسي (4/143)، ((العناية)) للبابرتي (9/97)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/199). ويُنظَرُ: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/191). ، وقَوْلٌ للمالِكيَّةِ [141] ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/116). ، وهو قَوْلُ بعضِ السَّلَفِ [142] قالَ أبو الفَرَجِ شَمْسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (الاسْتِئْجارُ على عَمَلٍ يَخْتَصُّ فاعِلُه أن يكونَ مُسلِمًا، كالإمامةِ والحَجِّ والأذانِ وتَعْليمِ القُرآنِ، فرُوِيَ عنه أنَّها لا تَصِحُّ، وبه قالَ عَطاءٌ، والضَّحَّاكُ بنُ قَيْسٍ، وأبو حَنيفةَ، والزُّهْريُّ). ((الشرح الكبير)) (6/63). ، واخْتارَه ابنُ المُنذِرِ [143] قالَ ابنُ المُنذِرِ: (لا يَجوزُ للمُؤذِّنِ أخْذُ الأجْرِ على أذانِه؛ لحَديثِ عُثْمانَ، فإنْ أخَذَ مُؤَذِّنٌ على أذانِه أجْرًا لم يَسَعْه ذلك؛ لأنَّ السُّنَّةَ مَنَعَتْ مِنه، فإنْ صَلَّوا بأذانِ مَن أخَذَ على أذانِه أجْرًا، فصَلاتُهم مُجْزيةٌ؛ لأنَّ الصَّلاةَ غَيْرُ الأذانِ). ((الأوسط)) (3/64). وقالَ: (لا يَجوزُ للمُؤذِّنِ أخْذُ الأجْرِ على أذانِه لحَديثِ عُثْمانَ، فإن أخَذَ مُؤذِّنٌ على أذانِه أجْرًا لم يَسَعْه ذلك؛ لأنَّ السُّنَّةَ مَنَعَتْ مِنه، فإن صَلَّوا بأذانِ مَن أخَذَ على أذانِه أجْرًا فصَلاتُهم مُجْزيةٌ؛ لأنَّ الصَّلاةَ غَيْرُ الأذانِ، وليستِ الإمامةُ كذلك، أخْشى ألَّا تُجْزِئَ صَلاةُ مَن أَمَّ بجُعْلٍ، كما رُوِيَ عن الحَسَنِ أنَّه قالَ: أَخْشى ألَّا تكونَ صَلاتُه خالِصةً للهِ). ((الأوسط)) (3/201). ، وابنُ حَزْمٍ [144] قالَ ابنُ حَزْمٍ: (لا تَجوزُ الأُجْرةُ على الأذانِ، فإنْ فَعَلَ ولم يُؤذِّنْ إلَّا للأُجْرةِ لم يُجْزِ أذانُه، ولا أَجْزَأتِ الصَّلاةُ به، وجائِزٌ أن يُعْطى على سَبيلِ البِرِّ، وأن يَرزُقَه الإمامُ كذلك). ((المحلى)) (2/182). وقالَ: (لا تَجوزُ الإجارةُ على الصَّلاةِ ولا على الأذانِ، لكِنْ إمَّا أن يُعْطيَهما الإمامُ مِن أموالِ المُسلِمينَ على وَجْهِ الصِّلةِ، وإمَّا أن يَسْتأجِرَهما أهْلُ المَسجِدِ على الحُضورِ معَهم عنْدَ حُلولِ أوْقاتِ الصَّلاةِ فقط مُدَّةً مُسمَّاةً، فإذا حَضَرَ تَعَيَّنَ الأذانُ والإقامةُ على مَن يقومُ بِهما. وكذلك لا تَجوزُ الإجارةُ على كلِّ واجِبٍ تَعَيَّنَ على المَرْءِ مِن صَوْمٍ، أو صَلاةٍ، أو حَجٍّ، أو فُتْيا، أو غَيْرِ ذلك). ((المحلى)) (7/15). ، وابنُ عُثَيْمينَ [145] قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (قَوْلُه: «وتَحرُمُ أجْرُتُهما»، أي: أن يُعقَدَ عليهما عَقْدُ إجارةٍ، بأن يَسْتأجِرَ شَخْصًا يُؤذِّنُ أو يُقيمُ؛ لأنَّهما قُرْبةٌ مِن القُرَبِ وعِبادةٌ مِن العِباداتِ، والعِباداتُ لا يَجوزُ أخْذُ الأُجْرةِ عليها؛ لقَوْلِه تَعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ولأنَّه إذا أرادَ بأذانِه أو إقامتِه الدُّنْيا بَطَلَ عَمَلُه، فلم يكنْ أذانُه ولا إقامتُه صَحيحَينِ؛ قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا فهو رِدٌّ»). ((الشرح الممتع)) (3/49). وقالَ أيْضًا: (العِوَضُ الَّذي يُعْطاه مَن قامَ بطاعةٍ مِن الطَّاعاتِ يَنْقسِمُ إلى ثَلاثةِ أقْسامٍ: القِسْمُ الأوَّلُ: أن يكونَ ذلك بعَقْدِ أجْرةٍ، مِثلُ أن يَتَّفِقَ هذا العامِلُ القائِمُ بِهذه الطَّاعةِ معَ غَيْرِه على عَقْدِ إجارةٍ مُلْزِمةٍ يكونُ فيها كلٌّ مِن العِوَضَينِ مَقْصودًا، فالصَّحيحُ أنَّ ذلك لا يَصِحُّ، كما لو قامَ أحَدٌ بالإمامةِ والأذانِ بأجْرةٍ، وذلك لأنَّ عَمَلَ الآخِرةِ لا يَصِحُّ أن يكونَ وَسيلةً للدُّنْيا؛ لأنَّ عَمَلَ الآخِرةِ أَشرَفُ وأَعْلى مِن أن يكونَ وَسيلةً لعَمَلِ الدُّنْيا الَّذي هو أَدْنى؛ قالَ تَعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/164). .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن عُثْمانَ بنِ أبي العاصِ، قالَ: ((قُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ اجْعَلني إمامَ قَوْمي، قالَ: أنت إمامُهم، واقْتَدِ بأضْعفِهم، واتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لا يَأخُذُ على أذانِه أجْرًا)) [146] أخرجه أبو داود (531)، والنسائي (672)، وأحمد (16272). صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (1/317) وقال: على شَرطِ مُسلِمٍ. وابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/106)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (531)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (928) وقال: على شَرطِ مُسلِمٍ، وقال أحمد شاكر في تخريج ((المحلى)) (3/ 145): إسنادُه في غايةِ الصِّحَّةِ. وصَحَّح إسنادَه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/232)، وشُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16272) وقال: على شَرطِ مُسلِمٍ. وأخَرَجَه مِن طَريقٍ آخَرَ عن عُثْمانَ بنِ أبي العاصِ بلَفْظِ: ((إنَّ مِن آخِرِ ما عَهِدَ إليَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لا يَأخُذُ على أذانِه أجْرًا)) الترمذي (209) واللَّفظُ له، وابنُ ماجه (714). قال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ. وصَحَّحه أحمد شاكر في ((المحلى)) (3/145) وقال: على شَرطِ مُسلِمٍ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (209). .
ثانِيًا: لأنَّ هذه الأعْمالَ يَخْتَصُّ فاعِلُها أن يكونَ مِن أهْلِ القُرْبةِ؛ فإنَّها إنَّما تَصِحُّ مِن المُسلِمِ دونَ الكافِرِ، فلا يَجوزُ إيقاعُها إلَّا على وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تَعالى، وأنَّ اللهَ إنَّما يَقبَلُ مِن العَمَلِ ما أُريدَ به وَجْهُه لا ما فُعِلَ لأجْلِ عُروضِ الدُّنْيا [147] ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيْمِيَّةَ (24/315). .
ثالِثًا: لأنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ هذه الأفْعالِ كَوْنَها قُرْبةً إلى اللهِ تَعالى، فلم يَجُزْ أخْذُ الأجْرِ عليها، كما لو اسْتَأجَرَ قَوْمًا يُصلُّونَ خَلْفَه الجُمُعةَ [148] ((المغني)) لابن قُدامةَ (5/412). .
رابِعًا: لأنَّ الاسْتِئْجارَ على مِثلِ الأذانِ والإقامةِ والإمامةِ سَبَبٌ لتَنْفيرِ النَّاسِ عن الصَّلاةِ بالجَماعةِ؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى تَحَمُّلِهم أجْرةَ الأذانِ والإمامةِ، وثِقَلُ الأجْرِ يَمنَعُهم عن ذلك، وإلى هذا أشارَ جَلَّ شَأنُه في قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، فيُؤَدِّي إلى الرَّغْبةِ عن هذه الطَّاعاتِ، وهذا لا يَجوزُ [149] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/191). .
القَوْلُ الثَّاني: يَجوزُ أَخْذُ الأُجْرةِ على الأذانِ والإمامةِ للحاجةِ، وهو اخْتِيارُ مُتأخِّري الحَنَفيَّةِ [150] قال ابنُ عَابدينَ: (على أنَّ المُفْتَى به مَذهَبُ المُتأخِّرينَ مِن جَوازِ الاسْتِئْجارِ على تَعْليمِ القُرآنِ والإمامةِ والأذانِ للضَّرورةِ). ((حاشية ابن عابدين)) (1/562). ، ورِوايةٌ عن أحْمَدَ [151] ((الإنصاف)) للمرداوي (6/35). اخْتارَها ابنُ تَيْمِيَّةَ [152] قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (ومَن فَرَّقَ بَيْنَ المُحْتاجِ وغَيْرِه -وهو أَقرَبُ- قالَ: المُحْتاجُ إذا اكْتَسَبَ بها أَمكَنَه أن يَنْويَ عَمَلَها للهِ، ويَأخُذَ الأُجْرةَ ليَسْتعينَ بها على العِبادةِ؛ فإنَّ الكَسْبَ على العِيالِ واجِبٌ أيضًا، فيُؤدِّي الواجِباتِ بِهذا، بخِلافِ الغَنِيِّ؛ لأنَّه لا يَحْتاجُ إلى الكَسْبِ، فلا حاجةَ تَدْعوه أن يَعمَلَها لغَيْرِ اللهِ، بلْ إذا كانَ اللهُ قد أغْناه، وهذا فَرْضٌ على الكِفايةِ، كانَ هو مُخاطَبًا به، وإذا لم يَقُمْ «أي: الفَرْضُ» إلَّا به «أي: بِهذا الغَنِيِّ» كانَ ذلك واجِبًا عليه عَيْنًا. واللهُ أَعلَمُ). ((مجموع الفتاوى)) (23/367). ، وذلك لأنَّ المُحْتاجَ يُمكِنُه أن يَنْويَ العَمَلَ للهِ، ويَسْتَعينَ بالأُجْرةِ على سَدِّ حاجتِه، بخِلافِ الغَنِيِّ؛ لأنَّه لا يَحْتاجُ إلى الكَسْبِ [153] ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيْمِيَّةَ (30/207). .

انظر أيضا: