الموسوعة الفقهية

الفَرْعُ الثَّاني: إقْراضُ المالِ القِيميُّ


اخْتَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِ إقْراضِ المالِ القِيميُّ على قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: يَجوزُ إقْراضُ المالِ القِيميُّ فيما يَصِحُّ فيه السَّلَمُ، ولا يَجوزُ فيما لا يَصِحُّ فيه السَّلَمُ، وهو مَذهَبُ المالِكِيَّةِ [207] ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/528، 529)، ((منح الجليل)) لعليش (5/401). ، والشَّافِعِيَّةِ [208] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص 113). ويُنظَرُ: ((المهذب)) للشيرازي (2/83). ، ووَجْهٌ للحَنابِلةِ [209] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/93، 94)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/95). .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ عن أبي رافِعٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِن رَجُلٍ بَكْرًا، فقَدِمَتْ عليه إبِلٌ مِن إبِلِ الصَّدَقةِ، فأمَرَ أبا رافِعٍ أن يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَه، فرَجَعَ إليه أبو رافِعٍ، فقالَ: لم أَجِدْ فيها إلَّا خِيارًا رَباعِيًا، فقالَ: أَعْطِه إيَّاه؛ إنَّ خِيارَ النَّاسِ أَحسَنُهم قَضاءً)) [210] أخرجه مسلم (1600). .
ثانِيًا: لأنَّ ما لا يَنْضبِطُ أو يَعِزُّ وُجودُه يَتَعَذَّرُ أو يَتَعَسَّرُ رَدُّ مِثلِه [211] ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/227). .
ثالثا: لأنَّ ما ثَبَتَ سَلَمًا يُملَكُ بالبَيْعِ ويُضبَطُ بالوَصْفِ، فجازَ قَرْضُه كالمَكيلِ [212] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/93). .
القَوْل الثَّاني: يَجوزُ إقْراضُ المالِ القِيميُّ مُطلَقًا، وهو الصَّحيحُ مِن مَذهَبِ الحَنابِلةِ [213] ((الإنصاف)) للمرداوي (5/96)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/96)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/100)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/315). ، وأحَدُ القَوْلَينِ عنْدَ الشَّافِعِيَّةِ [214] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص 113). ويُنظَرُ: ((المهذب)) للشيرازي (2/83). ، واخْتارَه ابنُ حَزْمٍ [215] قالَ ابنُ حَزْمٍ: (القَرْضُ جائِزٌ في الجَواري، والعَبيدِ، والدَّوابِّ، والدُّورِ، والأرَضينَ، وغَيْرِ ذلك؛ لعُمومِ قَوْلِه تعالى: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة: 282] ، فعَمَّ تَعالى ولم يَخُصَّ، فلا يَجوزُ التَّخْصيصُ في ذلك بالرَّأيِ الفاسِدِ بغَيْرِ قُرآنٍ ولا سُنَّةٍ). ((المحلى)) (6/355). ، وابنُ تَيْمِيَّةَ [216] قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (ففي صَحيحِ مُسلِمٍ عن أبي رافِعٍ: «أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِن رَجُلٍ بَكْرًا فقَدِمَتْ عليه إبِلٌ مِن إبِلِ الصَّدَقةِ، فأمَرَ أبا رافِعٍ أن يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَه، فرَجَعَ إليه أبو رافِعٍ فقالَ: لم أَجِدْ فيها إلَّا خِيارًا رَباعِيًا، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَعْطِه إيَّاه؛ فإنَّ خِيارَ النَّاسِ أَحسَنُهم قَضاءً». ففي هذا دَليلٌ على جَوازِ الاسْتِسْلافِ فيما سِوى المَكيلِ والمَوْزونِ مِن الحَيَوانِ ونَحْوِه، كما عليه فُقَهاءُ الحِجازِ والحَديثِ، خِلافًا لمَن قالَ مِن الكوفِيِّينَ: لا يَجوزُ ذلك؛ لأنَّ القَرْضَ موجِبُه رَدُّ المِثلِ، والحَيَوانُ ليس بمِثْلِيٍّ، وبِناءً على أنَّ ما سِوى المَكيلِ والمَوْزونِ لا يَثبُتُ في الذِّمَّةِ عِوَضًا عن مالٍ. وفيه دَليلٌ على أنَّه يَثبُتُ مِثلُ الحَيَوانِ تَقْريبًا في الذِّمَّةِ، كما هو المَشْهورُ مِن مَذاهِبِهم خِلافًا للكوفيِّينَ، ووَجْهٌ في مَذهَبِ أحْمَدَ أنَّه يَثبُتُ بالقيمةِ. وهذا دَليلٌ على أنَّ المُعتَبَرَ في مَعْرفةِ المَعْقودِ عليه: هو التَّقْريبُ، وإلَّا فيَعِزُّ وُجودُ حَيَوانٍ مِثلِ ذلك الحَيَوانِ، لا سيَّما عنْدَ القائِلينَ بأنَّ الحَيَوانَ ليس بمِثْلِيٍّ، وأنَّه مَضْمونٌ في الغَصْبِ والإتْلافِ بالقيمةِ). ((مجموع الفتاوى)) (29/52). وقالَ: (الصَّحيحُ أنَّه يجوزُ قَرْضُ الحِنْطةِ وغَيْرِها مِن الحُبوبِ وإن كانَت مَغْشوشةً بالتُّرابِ والشَّعيرِ، فإنَّ بابَ القَرْضِ أَسهَلُ مِن بابِ البَيْعِ؛ ولِهذا يَجوزُ على الصَّحيحِ قَرْضُ الخُبْزِ عَدَدًا وقَرْضُ الخَميرِ وإن كانَ لا يَجوزُ عَدَدًا، ويَجوزُ في القَرْضِ أن يُرَدَّ خَيْرًا ممَّا اقْتُرِضَ بغَيْرِ شَرْطٍ، كما اسْتَلَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعيرًا ورَدَّ خَيْرًا مِنه. وقالَ: خَيْرُ النَّاسِ أَحسَنُهم قَضاءً. وكذلك يَجوزُ قَرْضُ البَيْضِ ونَحْوِه مِن المَعْدوداتِ في أَصَحِّ قَوْلَيِ العُلَماءِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اقْتَرَضَ حَيَوانًا، والحَيَوانُ أَكثَرُ اخْتِلافًا مِن البَيْضِ). ((مجموع الفتاوى)) (29/531). وقالَ: (يَجوزُ قَرْضُ الخُبْزِ ورَدُّ مِثلِه عَدَدًا بلا وَزْنٍ مِن غَيْرِ قَصْدِ الزِّيادةِ، وهو مَذهَبُ أحْمَدَ،... ويَجوزُ قَرْضُ المَنافِعِ، مِثلَ أن يَحصُدَ معَه يَوْمًا ويَحصُدَ معَه الآخَرُ يَوْمًا، أو يُسكِنَه دارًا ليُسكِنَه الآخَرُ بَدَلَها، لكنَّ الغالِبَ على المَنافِعِ أنَّها ليست مِن ذَواتِ الأمْثالِ حتَّى يَجِبَ رَدُّ المِثلِ بتَراضيهما). ((الفتاوى الكبرى)) (5/394). ، والشَّوْكانيُّ [217] قالَ الشُّوْكانيُّ: (قَوْلُه: «بابٌ: القَرْضُ إنَّما يَصِحُّ في مِثْلِيٍّ أو قِيميٍّ جَمادٍ أَمكَنَ وَزْنُه». أقولُ: هذا بابٌ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بالتَّرْغيبِ فيه وتَعْظيمِ أجْرِ فاعِلِه، ولا خِلافَ بَيْنَ المُسلِمينَ في مَشْروعِيَّتِه، وهذا التَّرْغيبُ وعُمومُ المَشْروعِيَّةِ لا يَنْبَغي قَصْرُه على بعضِ ما يَنْتَفِعُ به النَّاسُ ويَطلُبونَ الأجْرَ في قَرْضِه إلَّا بدَليلٍ يَدُلُّ على ذلك، ويَقْتَضي تَخْصيصَ العُموماتِ، فإن لم يَقُمْ دَليلٌ على ذلك لم يَجُزْ لأحَدٍ أن يَتَقوَّلَ على الشَّرْعِ ما ليس فيه ويَسُدَّ بابًا فَتَحَه اللهُ لعِبادِه وجَعَلَه نَفْعًا للمَحاويجِ المُسْتَقْرِضينَ، وأجْرًا للأغْنِياءِ المُقرِضينَ، وأمَّا مُجرَّدُ تَعلُّلِهم بأنَّ القَرْضَ بابٌ مِن أبْوابِ البَيْعِ فلا يَجوزُ إلَّا فيما يَجوزُ فيه، فنَقولُ: ما بالُهم مَنَعوه فيما هو جائِزُ البَيْعِ بِلا خِلافٍ وشَرَطوا أن يكونَ مِثْلِيًّا جَمادًا يُمكِنُ وَزْنُه؟! ثُمَّ ما بالُهم مَنَعوه فيما جَوَّزَه الشَّرْعُ وثَبَتَتْ به السُّنَّةُ الصَّحيحةُ الصَّالِحةُ لتَخْصيصِ كلِّ عُمومٍ للبَيْعِ، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ قالَ: اسْتَسْلَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَكْرًا، فجاءَتْ إبِلُ الصَّدَقةِ فأمَرَني أن أَقضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَه، فقُلْتُ: إنِّي لم أَجِدْ في الإبِلِ إلَّا جَمَلًا خِيارًا رَباعِيًا، قالَ: «أَعْطِه إيَّاه؛ فإنَّ مِن خَيْرِ النَّاسِ أَحسَنَهم قَضاءً»، وهو في الصَّحيحَينِ... مِن حَديثِ أبي هُرَيْرةَ، قالَ: كانَ لرَجُلٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِنٌّ مِن الإبِلِ، فجاءَ يَتَقاضاه فقالَ: «أَعْطوه»، فطَلَبوا سِنَّه فلم يَجِدوا إلَّا سِنًّا فَوْقَها، فقالَ: «أَعْطوه»، فقالَ أَوْفَيْتَني أَوْفى اللهُ بك، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ خَيْرَكم أَحسَنُكم قَضاءً»، فقدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحيحةُ على جَوازِ قَرْضِ الحَيَوانِ معَ كَوْنِه ممَّا يَعظُمُ فيه التَّفاوُتُ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه لا وَجْهَ لجَعْلِ عِظَمِ التَّفاوُتِ مانِعًا). ((السيل الجرار)) (ص: 549). ، وابنُ عُثَيْمينَ [218] قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (الحَيَوانُ غَيْرُ بَني آدَمَ -كالخَيْلِ والبَقَرِ والحُمُرِ والغَنَمِ وغَيْرِها- يَجوزُ قَرْضُه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا ورَدَّ خَيْرًا مِنه، وقالَ: «خَيْرُكم أَحسَنُكم قَضاءً»، وعلى هذا يَجوزُ للإنْسانِ إذا نَزَلَ به ضَيْفٌ فجاءَ إلى جارِه وقالَ: أقْرِضْني شاةً أَذْبَحُها للضَّيْفِ، فإنَّه يَجوزُ). ((الشرح الممتع)) (9/98). وأجازَ قَرْضَ المَنافِعِ وهي غَيْرُ مِثْلِيَّةٍ، قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (بَيْعُ المَنافِعِ جائِزٌ، أمَّا إقْراضُها فالمَذهَبُ لا يَجوزُ، واخْتارَ شَيْخُ الإسْلامِ جَوازَ ذلك بأن أقولَ: أَقْرِضْني نفْسَك اليَوْمَ لتُساعِدَني على الحَصادِ وغَدًا أوفيك، أي: أَحصُدُ معَك، وهذا هو الصَّحيحُ). ((الشرح الممتع)) (9/96). .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكِتابِ
قَوْلُه تَعالى: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة: 282] .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تَعالى عَمَّ ولم يَخُصَّ، فلا يَجوزُ التَّخْصيصُ في ذلك بالرَّأيِ بغَيْرِ قُرآنٍ ولا سُنَّةٍ [219] ((المحلى)) لابن حَزْمٍ (6/355). .
ثانِيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي رافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِن رَجُلٍ بَكْرًا فقَدِمَتْ عليه إبِلٌ مِن إبِلِ الصَّدَقةِ، فأمَرَ أبا رافِعٍ أن يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَه، فرَجَعَ إليه أبو رافِعٍ فقالَ: لم أَجِدْ فيها إلَّا خِيارًا رَباعِيًا [220] الخِيارُ: هو الجَيِّدُ مِن كلِّ شيءٍ، ويَقَعُ على الواحِدِ والجَمْعِ. والرَّباعِي: هو الجَمَلُ الَّذي أتَتْ عليه سِتُّ سِنينَ، ودَخَلَ في السَّنَةِ السَّابِعةِ، سُمِّيَ بذلك لأنَّ رَباعِيتَه تَطلُعُ حينَئذٍ، والأنْثى رَباعِيَةٌ. يُنظَرُ: ((الشافي في شرح مسند الشافعي)) لابن الأثير (4/151)، ((تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة)) للبيضاوي (2/265)، ((نخب الأفكار)) للعيني (12/110). ، فقالَ: أَعْطِه إيَّاه؛ إنَّ خِيارَ النَّاسِ أَحسَنُهم قَضاءً)) [221] أخرجه مسلم (1600). .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَليلٌ على جَوازِ إقْراضٍ فيما سِوى المَكيلِ والمَوْزونِ مِن الحَيَوانِ ونَحْوِه [222] ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيْمِيَّةَ (29/52)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 549). .
ثالثًا: لأنَّ ما لا مِثلَ له تَجِبُ فيه القيمةُ على المُستَقْرِضِ، فأَمكَنَ رَدُّه، فلا مَعنى لمَنْعِ القَرْضِ فيه [223] ((المهذب)) للشيرازي (2/83)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/94). .
رابعًا: لأنَّ بابَ القَرْضِ أَسهَلُ مِن بابِ البَيْعِ؛ لأنَّه عَقْدُ إرْفاقٍ، ويُتَوسَّعُ فيه ما لا يُتَوسَّعُ في البَيْعِ [224] ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيْمِيَّةَ (29/531)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 549). .
خامِسًا: لأنَّ المَقْصودَ يَحصُلُ بالمالِ القِيميِّ؛ لكَوْنِه يُنتَفَعُ به ويُتَمَكَّنُ مِن بَيْعِه [225] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/93). .

انظر أيضا: