الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: حُكمُ بَيعِ السَّلَمِ


بَيعُ السَّلَمِ جائزٌ ومِن صُوَرِه المعاصِرةِ: عقْدُ السَّلَمِ لتَمويلِ عَمليَّاتٍ زِراعيَّةٍ وصِناعيَّةٍ مُختلِفةٍ، على أنْ يُسلَّمَ للمُموِّلِ المحصولُ أو الإنتاجُ في الأجَلِ المحدَّدِ، سواءٌ كان مِن إنتاجِهم، أو عن طَريقِ شِرائهِ له مِن الغيرِ؛ فقدْ جاء في قَرارِ مَجْمَعِ الفقهِ رقم 85 (2/9) بشأْنِ السَّلمِ وتَطبيقاتِه المعاصرةِ، المنعقِدِ في دَورةِ مُؤتمرِه التَّاسعِ بـ(أبو ظبي) بدَولةِ الإماراتِ العربيَّةِ المتَّحِدةِ، مِن 1/ 6 ذي القعدةِ 1415 هـ، الموافقِ 1/4/ 1995 م؛ التَّالي: (يَصلُحُ عقْدُ السَّلَمِ لتَمويلِ عَمليَّاتٍ زِراعيَّةٍ مُختلِفةٍ، حيث يَتعامَلُ المصْرِفُ الإسلاميُّ مع المزارعينَ الَّذين يُتوقَّعُ أنْ تُوجَدَ لَدَيهم السِّلعةُ في المَوسمِ مِن مَحاصيلِهم، أو مَحاصيلِ غيرِهم الَّتي يُمكِنُ أنْ يَشتَرُوها ويُسَلِّموها إذا أخْفَقوا في التَّسليمِ مِن مَحاصيلِهم، فيُقدِّمُ لهم بهذا التَّمويلُ نفْعًا بالغًا، ويَدفَعُ عنهم مَشقَّةَ العجْزِ الماليِّ عن تَحقيقِ إنتاجِهم. ب- يُمكِنُ استخدامُ عقْدِ السَّلَمِ في تَمويلِ النَّشاطِ الزِّراعيِّ والصِّناعيِّ، ولا سيَّما تَمويلِ المراحلِ السَّابقةِ لإنتاجِ وتَصديرِ السِّلَعِ والمنْتَجاتِ الرَّائجةِ، وذلك بشِرائِها سَلَمًا وإعادةِ تَسويقِها بأسعارٍ مُجْزيةٍ. ج- يُمكِنُ تَطبيقُ عقْدِ السَّلَمِ في تَمويلِ الحِرَفيِّين وصِغارِ المنْتجِين الزِّراعيِّين والصِّناعيِّين، عن طَريقِ إمدادِهم بمُستلزَماتِ الإنتاجِ في صُورةِ مُعِدَّاتٍ وآلاتٍ أو مُوادَّ أوَّليَّةٍ، كرَأسِ مالِ سَلَمٍ، مُقابِلَ الحصولِ على بَعضِ مُنتجاتِهم وإعادةِ تَسويقِها) ((مجلة مجمع الفقه)) (9/492، 493).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
قال تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]
وَجهُ الدَّلالةِ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما قال: (أشْهَدُ أنَّ السَّلفَ المضمونَ إلى أجَلٍ مُسمًّى، قدْ أحَلَّه اللهُ تعالَى في كِتابِه وأَذِنَ فيه، وذَكَر الآيةَ). أخرَجَه الحاكم (3130)، والبيهقي (11409). صحَّحه الحاكمُ على شرْط الشيخينِ، وصحَّح إسنادَه ابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (6/616)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (1369). :
أنَّ هذا عامٌّ في السَّلفِ وغيرِه يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجَصَّاص (3/134). ، والآيةُ أصلٌ في مَسائلِ البُيوعِ وكَثيرٍ مِن الفُروعِ، والدَّيْنُ فيها عبارةٌ عن كلِّ مُعامَلةٍ كان أحَدُ العِوَضَينِ فيها نقْدًا، والآخَرُ في الذِّمَّةِ نَسيئةً يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 327).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما قال: ((قَدِم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ وهمْ يُسلِفون بالتَّمرِ السَّنَتينِ والثَّلاثَ، فقال: مَن أسلَفَ في شَيءٍ، ففي كَيلٍ مَعلومٍ، ووَزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ )) أخرجه البخاري (2240) واللفظ له، ومسلم (1604).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ السَّلفَ هو السَّلَمُ وزْنًا ومعنًى يُنظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (2/ 68).
2- عن محمَّدِ بنِ أبي المُجالِدِ قال: ((بَعَثني عبْدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ وأبو بُرْدةَ إلى عبْدِ اللهِ بنِ أبي أوْفى رَضِي اللهُ عنهما، فقالا: سَلْه: هلْ كان أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسْلِفون في الحِنطةِ؟ قال عبْدُ اللهِ: كنَّا نُسلِفُ نَبِيطَ أهلِ الشَّأمِ نَبِيطُ أهلِ الشَّامِ، أي: أهلُ الزِّراعةِ مِن أهلِ الشَّامِ، وقيل: أنباطُ أهلِ الشَّامِ، وهم قومٌ مِن العرَبِ دَخَلوا في العجَمِ والرُّومِ، واختَلَطَت أنسابُهم وفسَدَت ألْسنتُهم، وقيل: أنباطُ الشَّامِ همْ نَصارى الشَّامِ الذين عَمَروها. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (12/66). في الحِنطةِ والشَّعيرِ والزَّيتِ، في كَيلٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ، قلْتُ: إلى مَن كان أصْلُه عِنده؟ قال: ما كنَّا نَسأَلُهم عن ذلك، ثمَّ بَعَثاني إلى عبْدِ الرَّحمنِ بنِ أَبْزَى فسَألْتُه، فقال: كان أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسْلِفون على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم نَسْألْهم: ألهُمْ حَرثٌ أمْ لا؟ )) أخرجه البخاري (2254، 2255).
ثالثًا: مِن الإجماعِ
نقَلَ الإجماعَ على ذلك: الشَّافعيُّ قال الشَّافعيُّ: (السَّلفُ جائزٌ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والآثارِ، وما لا يَختلِفُ فيه أهلُ العلمِ عَلِمْتُه) ((الأم)) (3/ 94). ، وابنُ المنذِرِ قال ابنُ المنذِرِ: (أجمَعَ كلُّ مَن نَحفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ على أنَّ السَّلَمَ الجائزَ أنْ يُسلِمَ الرَّجلُ على صاحبِه في طَعامٍ مَعلومٍ مَوصوفٍ، مِن طعامِ أرضٍ عامَّةٍ، لا يُخطِئُ مِثلُها، بكَيلٍ مَعلومٍ أو وزْنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ، دَنانيرَ أو دَراهمَ مَعلومةٍ، بدَفْعِ ثَمنِ ما أسْلَمَ فيه قبْلَ أنْ يَتفرَّقَا مِن مَقامِهما الذي تَبايَعا فيه، ويُسمِّيانِ المكانَ الذي يُقبَضُ فيه الطَّعامُ، فإذا فَعَلا ذلك، وكانا جائزَيِ الأمرِ؛ كان سَلَمًا صَحيحًا، لا أعلَمُ أحدًا مِن أهلِ العلمِ يُبطِلُه) ((الإشراف على مذاهب العُلماء)) (6/ 101). ، وابنُ العَرَبيِّ قال ابنُ العرَبيِّ: (اتَّفقَت الأُمَّةُ على جَوازِهما [أي: السَّلَمِ والقرْضِ]) ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) (ص: 832). ، والقُرْطبيُّ قال القُرْطبيُّ: (السَّلَمُ بَيعٌ مِن البيوعِ الجائزةِ بالاتِّفاقِ) ((تفسير القرطبي)) (3/379). ، والنَّوويُّ قال النَّوويُّ: (أجمَعَ المسْلمون على جَوازِ السَّلَمِ) ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 41). ، والقَرافيُّ قال القَرافيُّ: (أُرخِصَ في السَّلَمِ، واجتَمَعت الأُمَّةُ على جَوازِه) ((الذخيرة)) (5/224). ، وابنُ تَيميَّةَ قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا السَّلَفُ فإنَّه جائزٌ بالإجماعِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/ 495). ، والزَّيلعِيُّ قال الزَّيلعيُّ: (رُوِي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ «نَهى عن بَيعِ ما ليْس عند الإنسانِ، ورخَّصَ في السَّلَمِ»، وهو مَشروعٌ بالكتابِ والسُّنةِ وإجماعِ الأُمَّةِ) ((تبيين الحقائق)) (4/110). ، وابنُ القيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (المعدومُ ثَلاثةُ أقسامٍ: مَعدومٌ مَوصوفٌ في الذِّمَّةِ، فهذا يَجوزُ بَيعُه اتِّفاقًا، وإنْ كان أبو حَنيفةَ شرَطَ في هذا النَّوعِ أنْ يكونَ وقتُ العقدِ في الوجودِ مِن حيث الجُملةِ، وهذا هو السَّلَم) ((زاد المعاد)) (5/717). ، وابنُ حَجرٍ قال ابنُ حَجرٍ: (السَّلَمُ شَرعًا: بَيعُ مَوصوفٍ في الذِّمَّةِ... واتَّفَق العُلماءُ على مَشروعيَّتِه، إلَّا ما حُكيَ عن ابنِ المسيِّبِ) ((فتح الباري)) (4/428). ، والعَينيُّ قال العَينيُّ: (السَّلَمُ في الشَّرعِ: بَيعٌ مِن البيوعِ الجائزةِ بالاتِّفاقِ، واتَّفَق العُلماءُ على مَشروعيَّتِه) ((عمدة القاري)) (12/61). لكنْ حُكِي خِلافُ ذلك عن ابنِ المسيِّبِ، كما حُكِي كَراهتُه عن عبْدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/428)، ((عمدة القاري)) للعيني (12/61)

انظر أيضا: