موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ المُداراةِ


صفةُ المُداراةُ يُحتاجُ إليها في التَّعامُلِ مع بعضِ الأشخاصِ، في بعضِ الأوقاتِ، ومن صُوَرِ المُداراةِ:
1- مُداراةُ أهلِ الفُجورِ والشُّرورِ؛ لدَفعِ شُرورِهم، ودعوتِهم واستمالتِهم للخيرِ.
2- مداراةُ الإمامِ رعيَّتَه:
فعن أمِّ المؤمنين عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّه استأذَن رجُلٌ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ائذَنوا له، بئس أخو العَشيرةِ! أو ابنُ العَشيرةِ، فلمَّا دخَل ألان له الكلامَ. قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، قُلْتَ الذي قلْتَ، ثُمَّ ألنْتَ له الكلامَ! قال: أيْ عائِشةُ، إنَّ شرَّ النَّاسِ منزلةً عندَ اللهِ مَن ترَكه النَّاسُ -أو وَدَعه النَّاسُ- اتِّقاءَ فُحشِه)) [8276] رواه البخاري (6131) واللفظ له، ومسلم (2591). .
فليس كلُّ الرَّعيَّةِ على نمطٍ واحدٍ مِن حُسنِ الخُلُقِ والمَعشَرِ، إنَّما النَّاسُ يختَلِفون، فيحتاجُ الإمامُ للمُداراةِ، وهذا يكونُ من الإمامِ جمعًا للأمَّةِ، ورأفةً بها، وإرشادًا للضَّالِّ، وتعليمًا للجاهِلِ، لا سيَّما إن كان هؤلاء من أهلِ الرِّياساتِ والأتباعِ، فيداري الإمامُ مراعاةً لمصلحةِ الأمَّةِ كُلِّها [8277] يُنظَر: ((بدائع السلك في طبائع الملك)) لابن الأزرق (2/16). .
3- مُداراةُ الكُفَّارِ عِندَ الخوفِ منهم والعَجزِ عن مقاومتِهم:
قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28] .
قال الشِّنقيطيُّ: (هذه الآيةُ الكريمةُ فيها بيانٌ لكُلِّ الآياتِ القاضيةِ بمنعِ موالاةِ الكُفَّارِ مُطلَقًا؛ لأنَّ محلَّ ذلك في حالةِ الاختيارِ، وأمَّا عندَ الخوفِ والتَّقيَّةِ فيُرَخَّصُ في موالاتِهم بقَدْرِ المُداراةِ التي يُكتفى بها شَرُّهم، ويُشتَرَطُ في ذلك سلامةُ الباطِنِ من تلك الموالاةِ) [8278] ((أضواء البيان)) (1/413). .
4- المداراةُ في الدَّعوةِ إلى اللهِ:
قال تعالى لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43 - 44] .
 (أمَر اللهُ جلَّ وعلا نبيَّه موسى وهارونَ عليهما وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ: أن يقولا لفِرعَونَ في حالِ تبليغِ رسالةِ اللهِ إليه قَوْلًا لَيِّنًا أي: كلامًا لطيفًا سهلًا رقيقًا، ليس فيه ما يُغضِبُ ويُنَفِّرُ. وقد بَيَّنَ جلَّ وعلا المرادَ بالقَولِ اللَّيِّنِ في هذه الآيةِ بقَولِه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19] ،  وهذا واللهِ غايةُ لِينِ الكلامِ ولطافتِه ورِقَّتِه، كما ترى. وما أُمِرَ به موسى وهارونُ في هذه الآيةِ الكريمةِ أشار له تعالى في غيرِ هذا الموضِعِ، كقولِه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ) [8279] ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/15). .
5- مُداراةُ الوالِدَينِ:
قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 15] .
 قال القُشَيريُّ: (اخفِضْ لهما جناحَ الذُّلِّ بحُسنِ المُداراةِ ولِينِ المنطِقِ، والبِدارِ إلى الخِدمةِ، وسُرعةِ الإجابةِ، وتَركِ التبَرُّمِ بمطالِبِهما، والصَّبرِ على أمرِهما، وألَّا تدَّخِرَ عنهما ميسورًا) [8280] ((لطائف الإشارات)) (2/ 344). .
6- المُداراةُ مع الزَّوجةِ:
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المرأةُ كالضِّلَعِ، إنْ أقَمْتَها كسَرْتَها، وإن استمتَعْتَ بها استمتَعْتَ بها وفيها عِوَجٌ)) [8281] رواه البخاري (5184) واللفظ له، ومسلم (1468) من حديِث أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ الملقِّنِ: (عرَفْنا في هذا الحديثِ أنَّ سياسةَ النِّساءِ أخْذُ العَفوِ منهنَّ، والصَّبرُ على عِوَجِهنَّ، وأنَّ مَن رامَ إقامةَ مَيلِهنَّ عن الحَقِّ وأراد تقويمَهنَّ، عَدِمَ الانتفاعَ بهَّن وتجنَّبَهنَّ) [8282] ((التوضيح)) (24/553). .
7- مُداراةُ النَّفسِ:
بحَمْلِها على الطَّاعةِ بذِكرِ نَعيمِ الجنَّةِ، وكَفِّها عن المعصيةِ بذِكرِ عذابِ النَّارِ.
قال ابنُ الجوزيِّ: (ومَن فَهِم هذا الأصلَ عَلَّل النَّفسَ، وتلطَّف بها، ووعدَها الجميلَ؛ لتصبرَ على ما قد حُمِّلَت، كما كان بعضُ السَّلَفِ يقولُ لنفسِه: واللهِ ما أريدُ بمَنعِكِ من هذا الذي تحبِّين إلَّا الإشفاقَ عليكِ... واعلَمْ أنَّ مُداراةَ النَّفسِ والتَّلطُّفَ بها لازمٌ، وبذلك ينقَطِعُ الطَّريقُ) [8283] ((صيد الخاطر)) (ص: 114). .
وقال حُسَين المهدي: (النَّفسُ البَشَريَّةُ تحتاجُ في بعضِ الحالاتِ إلى المُداراةِ والملاطفةِ، وإدخالِ السُّرورِ عليها بما يَعدِلُ المزاجَ، ويُشعِرُ بالبهجةِ والأُنسِ، ويُزيحُ ما يطرأُ عليها من همومٍ مَذمومةٍ، وخواطِرَ مُوحِشةٍ مسمومةٍ) [8284] ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال)) (1/221). .
8- مداراةُ الإمامِ المأمومينَ:
وذلك بمُلاطفتِهم والقيامِ بما هو ميسورٌ لهم، وجَمعِ كَلِمتِهم، ومراعاتِه حالَ المأمومين فلا يُطيلُ في صلاتِه بهم؛ ترفُّقًا بهم، وبضعفائِهم وكِبارِ السِّنِّ فيهم.
عن أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي لَأتأخَّرُ عن صَلاةِ الغَداةِ من أجلِ فُلانٍ؛ ممَّا يُطيلُ بنا فيها، قال: فما رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطُّ أشَدَّ غضبًا في موعظةٍ منه يومَئِذٍ! ثُمَّ قال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِنكم مُنَفِّرينَ، فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاسِ فلْيُوجِزْ؛ فإنَّ فيهم الكَبيرَ والضَّعيفَ وذا الحاجةِ)) [8285] رواه البخاري (6110) واللفظ له، ومسلم (466). .
قال ابنُ عُثَيمين: («مُنَفِّرين»: يعني: يُنَفِّرون النَّاسَ عن دينِ اللهِ، وهذا الرَّجُلُ لم يقُلْ للنَّاسِ: لا تُصَلُّوا صلاةَ الفَجرِ، لكِنَّه نفَّرَهم بفِعلِه؛ بالتَّطويلِ الذي هو خارجٌ عن السُّنَّةِ، فنفَّر النَّاسَ. وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ كُلَّ شيءٍ يُنفِّرُ النَّاسَ عن دينِهم -ولو لم يتكَلَّمِ الإنسانُ بالتَّنفيرِ- فإنَّه يدخُلُ في التَّنفيرِ عن دينِ اللهِ) [8286] ((شرح رياض الصالحين)) (3/617). .
9- المُداراةُ في حالِ الجِدالِ:
قال تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
قال الزَّمخشريُّ: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ طُرُقِ المجادَلةِ من الرِّفقِ واللِّينِ، من غيرِ فَظاظةٍ ولا تعنيفٍ) [8287] ((الكشاف)) (2/644). .

انظر أيضا: